السبت، 12 يوليو 2008

نهوض الجحيم الشيشاني


أعيننا والصور ، أقدامنا والأحرف ، أوراقنا وبدائلها ، لن تشفع لحربين شطرتا القسوة بعدل ووزعتهما بإنصاف على كل من سولت له نفسه وعاش في البقعة القوقازية المعزولة عن البحار وطرق الحرير والنابتة منابع نفط وثوار وأحجار تتنفس جمال مرتعش ، بيد صبية لم تبزغ وجنتها بغير النار المعتمة والضمادات والأسرّة الخاوية وذهاب صوت الرجل الوحيد عبر نوافذ الإشارات.
سنسير معكم في العصب الحساس للحربان اللتان حجبتا الشيشان عن الحياة وقربتها للرمل ، عن الظلمة حين تلوي أذرع الشمس والدمار ما أن يغزو ظلال الشجر وقناديل الأرامل وجداول تصريحات الجنرالات وخططهم ، علوّهم وانحدارهم ، طغيانهم وبأس من أشقى عليهم أيامهم.
للأرامل الشيشانيات اللواتي تقبـّلنّ منصبهن الجديد بلا مرثية ولا ظفر ، لأولئك المهزومين ولمن نطقوا أسمها محفورة بجراحاتهم وملائكة أعينهم ، نقدم هذا الكلام شكلا وجسدا ، محاولة لاستنهاض أسم الشيشان مجددا ، تلك الأرض القوقازية ذات اللهيب الضاج ، الحامية كتجمع حفنة من دم وأزهار في آنية الأمل.
الوصول أولا
طوال الحرب الشيشانية ، غرقنا في التحليل وتتبع مسار القذائف الروسية وإحصاء الأمتار التي احتلتها والتي لم تحتلها. حسبنا عدد اللاجئين المتدفقين نحو الأراضي الأكثر أمنا بالساعات والأيام. وتابعنا أقوال الساسة والجنرالات وتصريحات المقاومة. ولكن أحد منا لم يتكلم عن أهم شيء وهو وضع الناس الذين بقوا متمسكين بأرضهم ولم يغادروها ، كيف قضوا سنوات الحرب وكيف كانوا يحصون نمو قامات أطفالهم بالمليمترات ، كيف كانوا ينتظرون القذائف والصواريخ التي ألفوها وتعايشوا معها رغما عنهم ، كيف عاش هؤلاء سنوات الاستقلال المجيدة ؟؟
سيغضب الكثيرون مما سنكتب في الفصول اللاحقة . لكن غضبهم هو أبعد من أن يقلقنا بشيء . لأن وجودنا كأول صحفي في العالم فوق كل الأراضي الشيشانية وحتى غروزني أعطانا ليس فرصة الريادة في هذا المجال فحسب ، بل الحق في تنوير الكلمات التي كانت عائمة في جو من الغموض الذي فرضته الدعاية والحرب الإعلامية. والمسألة لا تحتاج الى نباهة غير اعتيادية ، وهي بسيطة للغاية وتحتاج الى أذن نقية وقلم نصف محترف ينقل ما سمعته هذه الأذن. وهكذا فأن دورنا تعدى انحصاره في كوننا نعمل مراسلين صحفيين فحسب ، بل ومراسلين لكل الناس الذين قابلناهم تحت الأنقاض والذين تدفقوا لمقابلتنا بالمئات ..
كان كل بيت يضمنا هناك حتى المهجورة منها يلقي بنا في عمق الحقيقة أكثر فأكثر. رسائلنا سيكتبها الشيشانيون بكل صدق وألم ورغبة بالبوح.
سننقلكم في هذا الكتاب عبر الصورة والكلمة الى الشعب الذي يموت من الإخلاص والحب اللامتناهي للحياة وسط حقول الألغام التي عرضت إنسانيتهم للنهب المنظم للحرية. ألغام تزرع باسم الله وأخرى باسم الجيوبوليتيكا والعالم المتعدد الأقطاب. وجد الشعب الشيشاني نفسه في أقذر لعبة حشرت فيها كل الشياطين من السماء والأرض.
قابلنا الشعب الذي لم يترك أرضه حتى لو خربت فهو لا يأمل بأرض أخرى. عناد وتمسك غريب بها وما عليها ويعيش الآن بين الهراوة والخبز والهواء الذي يصنع البلاد التي تتخاصم عليها كل قوى " الشر " في العالم.
سنقص عليكم الحكايات المحرمة نبشناها بقلق وكأنها فرصة للحقائق أن تظهر لتفاجئ العالم بكلمات كادت تنقرض من أفواهنا. وسنترك الأشياء تتكلم ونرتضي بدور الناسخ من مطار موزدوك في انغوشيا عبر قرى الشيشان دالني وبوستوني وزيليوني وسيري سو وكاراغالنسكي وفروزينسكي. ولغاية اللحظة ما زالت ثيابنا مطهرة بتراب شيلكوفسكيا وناورسكي وبراغون. هناك في غوديرميس حيث ضمنا الناس الى صدورهم واحترقت دموعهم في أحشائنا. حاولت ، إذا استطعت ، أن أفتح بؤرة بأسي لأذلّ الكلمات بامتحان النار. واعتمادنا فقط على الحروف التي تدفقت من أفواه الخارجين من حقول الظلمات.
كانت غروزني ترى حتى من عيني الضئيلتين ، غروزني التي سيأتي عليها الدور بعد أرغون التي كانت الصواريخ والقنابل تنتقل إليها من الأرض التي أقف عليها. كان جنود الصولة الأولى يتقدمون وكانت عيونهم تودع عدسة كاميرتي التي لا تستطيع اللحاق بهم أكثر من قدرة عدساتها. وبعد دقائق تتوالى زخات الرصاص بلا انقطاع. وينشغل الجميع عندها ، كل الأسلحة تضرب بكل ما أوتيت من قوة ومن عتاد. كنت في موضع القيادة الأمامي عندما وضع الضباط اللمسات الأخيرة لخطتهم. لم يعن أي شيء وجودي لهم ، فقد كانوا يتحدثون بثقة وكأن الأمور تسير كما يريدون. صرخ قائد الفرقة : لا يهمنا ما نفقد من صواريخ وذخيرة ، المهم سلامة الجنود.
ابتعد المظليون عن مجال رؤيتي منسلين في الأحراش المطلة على أرغون في وقت التهبت الأرض والسماء بعز الظهر من الحمم التي كانت تصب على المدينة. كنت أفكر فقط بمن تبقى في المدينة ولم يسعفه الحظ والنقود لتركها.
جلس أهالي غوديرميس وأتشخوي يورت على ركبهم متوسلين المقاتلين ترك المدينة حفاظا على أرواح أطفالهم ومدينتهم وتاريخهم الشخصي. فهل سيتمكن أهل أرغون من فعل ذلك ؟
أما بالنسبة لغروزني فلا يوجد أحد من أهلها فيها. لقد تحولت المدينة منذ زمن الى مرتع لمن هب ودب ليقيموا سلطانهم في كل بقعة يريدون. هجرها سكانها الأصليين ليتركوها نهبا للجبليين ومن ورائهم . والذين عاثوا فيها وسرقوا كل ما استطاعوا تحت شعارات الحرية سمح لنفسه كل من يحمل بندقية التحدث نيابة عن الله.
في كل القرى والمدن الشيشانية التي دخلناها كان الجميع يتفق على عبارة واحدة لا تخضع لأعراف الحرب الإعلامية والدعاية المضادة وهي أن كل الأنظمة التي تعاقبت على الشيشان المستقلة منذ عام 1991 وللآن لم تبن طابوقة أو حجارة واحدة ، وكأن لعنة الاستقلال أصابت كل شيء هناك حتى المواشي والزرع والهواء النقي ناهيك عن مستلزمات الحياة العصرية مثل الماء والكهرباء والغاز ووسائط النقل ، المدارس والمستشفيات وأماكن النزهة واللعب ، دور السينما أو المسرح أو المكتبات العامة…الخ وعندما كنت أسألهم عن هذه الأمور يضحكون بسخرية ويتهمونني بالبطر وأحيانا يظنون بأني أضحك عليهم.
لم نكتب شيء من الشيشان وعنها هنا، سوى ما أملوه علينا أبطال الفاجعة. ولندع الحقيقة تتذوق انتظار الموعد ولو مرة واحدة.
قلعة العقيد فيرسوف
لقد قيل الكثير منذ بداية العمليات الحربية في الشيشان عن الصعوبات التي تواجه الصحفيين حتى الروس العاملين في مواقع القوات الروسية. وكما كان عليه الأمر في الحرب السابقة اضطررنا الى شق طريقنا الى المواقع الأمامية بخبراتنا المكتسبة من الحروب فقط وبدون تنسيق غير كتابة تعهد في كل خطوة نقوم بها بـ" أني مقدر مدى المخاطرة التي أقوم بها وأتحمل عواقبها ". بحيث استنسخت عددا من التعهدات وأخفيتها في جيوبي وما أن أطالب بها حتى يجدونها حاضرة !
خصص مركز صحفي للصحفيين الروس فقط حيث منع الأجانب أصلا من زيارة هذه الأماكن في مبنى لإحدى القيادات الميدانية وأحاطوه بالأسلاك الشائكة ومحمي بالحراس دائما. ويقود العقيد ياكوف فيرسوف الخدمة الإعلامية المتكونة من ستة ضباط. ويتمتع هؤلاء بكل " تسهيلات الخنادق !". ومن المستحيل عمليا لأي صحفي مهما بلغت شهرته دخول هذا المركز الصحفي ويسكن الصحفيين الروس عادة في خيمة شيدت قرب المركز الصحفي. وفي بعض الوحدات الخارجة عن عيون فيرسوف يمكن للصحفي استئجار " كرفان " من الصفيح ليأوي إليه في الليل الذي ينشط فيه القصف والقنص لذلك يفضل الجميع الانبطاح أرضا في هذا الكرفان طوال الليل.
والعقيد فيرسوف يحدد صباحا أولئك الصحفيين الذي يسمح لهم بالتوجه الى الخطوط الأمامية على متن المروحيات. ومبدأ العقيد بسيط ومعروف في كل الحروب ولدى كل العقداء : تعجبه مقالة تكرر أسمه فيها أو صورة برز فيها أو تقرير تلفزيوني تظهره حازما وجادا لهذا الصحفي أو ذاك.
ولم يبق لدي سوى تفسير واحد للعقيد وهو أن كل المواد الخاصة بالشيشان والتي سأنشرها ، سأرسلها له بالبريد له حتى لو تطلب الأمر أن أحضر خصيصا للشيشان لكي أسلمها له. وحتى هذه اللحظة لا أعرف لماذا كان يصدقني في كل مرة ! في وقت كان يعرض على الصحفيين الروس " وثائق سرية " يتحجج بها لكي يمنع وصولهم الى الخطوط الأمامية أو يجد في لحظة ما حجج جاهزة كانعدام وجود أماكن في الهليكوبتر أو الخطر الذي ينتظر الصحفيين أو عدم إدراكهم للحالة الناشئة هناك.
ومن المرجح أنني قلت له مرة بأن قادة الناتو في يوغسلافيا كانوا يولون أهمية بالغة للصحافيين الأجانب كي يظهروا القدرة القتالية لقواتهم وأسلحتهم ونصحته أن تقتبس القيادة العسكرية الروسية هذه الخبرة . هل أثرت عليه هذه النصيحة الماكرة فعلا ؟