الأربعاء، 9 يوليو 2008

في أكبر سجون القاعدة

"هل هذا هو العالم ؟"
هـ . ميللر

انصهر النهار الذي حملنا من مزار شريف بعد استلامنا الورقة المستحيلة التي كتبها وأمضاها بخط يده الجنرال مجيد روزي نائب حاكم الإقليم عبد الرشيد دوستم بالسماح لنا بدخول معسكر أسرى القاعدة الواقع في مدينة شبرغان التي تبعد أكثر من مائة كيلومترا عن المزار.
لم تكن هذه الورقة سهلة المنال لتعدد الأسباب. ولعبت فرصا وأساليب متعددة أيضا لتكن في حوزتنا في النهاية. فقد قابلنا في مزار شريف كل الجنرالات الذين عملنا معهم في شمال أفغانستان قبل أن يصبحوا سادة البلاد ، سنفرد لهم حلقات خاصة. ولعل ألفة الحرب قد أسهمت في تدوين مخطوطة السماح لتفقد العذاب في جزء من العالم القصي أسمه سجن شابرغان ، المنتشر على سهل يغفو فيه المرء بطرفة عين.
وسواء أكان أسمه شابرغان أو أي شيء آخر فهو يرتقي لأن يأخذ له مرتبة لا ينازع عليها من مراتب الجحيم ، فقد هوى عليه كل ثقل العالم وحبت فوق انطوائه الأطوار والأقطاب وتسلقت على عليائه هامات الرجال الحالمون بتغيير أكثر الكلمات إثارة للجدل : الإنسانية.



للتوضيح
لا رفقة لاختلاس النظر حيث تتقن المناظر تكوين المشهد. ولا مسبب لطلاء الكلمات بأزهارها الشوكية كانت أم الدامعة. فالسجانون كما في كل زمان ومكان يرفرفون بعصيهم وبنادقهم وأحذيتهم وباسطوناتهم على ظهور الخلق ومؤخراتهم. لا داعي حتى للمرور وتفقد آثار السياط. ربما لو كان المرتهنين أو الأسرى أو السجناء في مكانهم لفعلوا أسوأ مما رأيناه.
هذه المقدمة وليست البداية
ترددها لحظة قتامة لا ترحم ، لا سيما وأن تلاطم الأحداث وسرعة جريانها في زمن رائحته تفور بالدماء ينفر إبداعات الحكي ليزفر عطاءات التصور ويرجح دفة الفوتوغراف على كل عمل آخر وكلمة.
هي دعوة مخلصة لإهمال النص والتمعن بملامح الصور ، آلاتها الحادة وبخارها المبدد ، تنافرها وعدم اكتراثها. موضوعنا إذن ابتدعه الإنسان ولم تصطل به الكلمات. بعدها فقط يمكننا أن نرحل في حلقوم المشهد.

البوابة
لمأمور السجن وجه واحد كلاعبي الورق المحترفين. قرأ ورقة الجنرال مجيد كما لو كان يتشمم الرسالة المنتظرة من حبيبة العمر. استغرق نصف ساعة لقراءة سطرين كتبهما الجنرال في باحة المركز الرئاسي لدوستم بقلمنا وعلى ظهر علبة " مارلبورو " استلها من جيب أحد الضباط القريبين.
بما لا يقبل الشك كان التايم أوت الذي أخذه مأمور السجن هدفه وحيد : زيادة أجرة دخول السجن ( لم نجد أكثر من هذه العبارة حضارية لوصف " الحالة " المألوفة لكل من يريد العمل الجاد في هذه البلاد ). ولأن هذا الأمر مقدور عليه فأن أفضل أسلوب للتعامل مع رجال الوجه الواحد هو ملاعبتهم في وجه واحد أيضا ، وطالما الحديث يدور حول صراع الإرادة ، فلا توجد مهلة للتفكير بالتراجع أو الانكسار لمن حمل جسده على كف عفاريت المجرة بأسرها. ولكي نعطيه انطباع بأننا لم نقطع آلاف الأميال للتمعن ببزته الجديدة اخترقنا حاجز الصمت بصليات أسئلة إيذانا ببدء الشغل ، أسئلة كان السماح لنا بدخول السجن أهون عليه بكثير من سماعها.


الاقتراب شيئا فشيئا
- ما عدد السجناء ؟
- ليسوا بسجناء.
-عدد البشر في الزنزانات ؟
- أقل من ثلاثة آلاف.
- لو تسمح هل يمكننا معرفة الرقم المضبوط ؟
- 2872
- كيف حشرتم هذا العدد في هذا المبنى الصغير ؟
- هذا أكبر السجون في أفغانستان.
- لم تجب على السؤال !
- لدينا ثلاثة زنزانات وزعوا حسب مساحتها.
- وما هي مساحاتها ؟
- لا أذكر بالضبط ؟
- سنراها ونقدر مساحتها. هل يمكنكم ذكر أعداد الأسرى حسب توزيعهم في الزنزانات.
- الأولى وهي الأكبر فيها 1266 والثانية 1050 والثالثة تضم 656.
- كم عدد العاملين في السجن ؟
- يتغير هذا العدد باستمرار.
- لماذا ؟
- أغلبهم مقاتلين وينفذون غالبا مهام أخرى.
- ما الجهة التي تأتمرون بها ؟
- لا يهمك.
- أين تم أسر نزلائكم ؟
- في مناطق ومعارك مختلفة.
- أرجوك أذكرها.
- القسم الأكبر في مزار شريف وقندوز.
- هل تعتبرون من سلم نفسه وألقى سلاحه حسب الاتفاقات المعروفة في مواجهات مزار شريف وقندوز أسرى حرب أم تائبين أو أية تسمية أخرى ؟
- بالنسبة لي كمدير للسجن مهمتي المحافظة على أمنهم وسلامتهم والاعتناء بهم وبالنسبة لي جميعهم سواسية. وصفتهم أسأل عنها بوش أو عنان ؟
- هل يزوركم الأمريكان باستمرار ؟
- منذ فترة لم يزرنا أحد.
- وكذلك المنظمات الإنسانية الدولية ؟
- ولا هؤلاء.
- من يصرف على الخدمات التي تقدمونها للنزلاء وعليكم ؟
- لا يهمك.
- ما الجنسيات التي يحملها الأسرى ؟
- كان لدينا الكثير جدا من العرب. الآن في الغالب باكستانيون وشيشانيون وتتار وأذربيجانيون وصينيون وحتى من البيرو.
- وما مصير العرب ؟
- نقلوهم لسجون أخرى.
- من أي البلدان كانوا ؟
- من السعودية والعراق والمغرب واليمن ودول أخرى لا أذكرها.
- هل تعتقدون أنهم جميعا أعضاء في القاعدة ؟
- تستطيع التأكد من سير التحقيقات.
- هل تمتلك نسخا من محاضر التحقيق أو ملفاتهم الشخصية ؟
- أنظر الى غرفتي هل تجد فيها ما يمكنني أن أخبأه عليك.
- كيف لا تمتلك أية معلومات عن سجناء أنتم مسؤولون على سلامتهم ؟
- لا يوجد لدينا أي شيء عنهم عدا قائمة بأسمائهم وأعمارهم وأسماء دولهم كما ذكروها لنا.
- هل يوجد طبيب مختص في السجن ؟
- كلا.
- ومن يشرف على وضعهم الصحي ؟
- لدينا مأمور طبي وممرض.
- وماذا عن الأدوية ؟
- ثمة صيدلية في كل عنبر.
- ومن يزودكم بالدواء ؟
- جهات مختلفة تزودنا به.
- كم مرة تطعمون النزلاء ؟
- ثلاث مرات في اليوم.
- هل يستحم النزلاء باستمرار ؟
- نعم.
- هل توفى أحد منهم ؟
- حتى الآن لا.
- ما هذه الـ " حتى الآن " ؟ هل تتوقع وفيات بينهم ؟
- فلنذهب لتطلع بنفسك على السجن فلا معلومات أخرى لدي.
ثمار المطبخ
اقتربت الساعة من الثانية بعد الظهر. أي الوقت الذي انتهى فيها الإعداد لوجبة الغداء ( تبين أنها الوحيدة في اليوم ولا حديث عن ثلاث وجبات. أما مصطلح "وجبة" فجاء هنا لغرض التوضيح لا أكثر ).
بعد البوابة الثانية للسجن تداهم العابر رائحة المطبخ التي لا تلامس الأنفاس ، بل تخترقها وتسكنها لأيام.
أغلب أنواع الخضار الرئيسية مفروشة على أرض المطبخ الإسفلتية - الترابية وكان منظرها وهي خضار أرحم من رؤيتها ممزوجة في القدور الضخمة. فنتيجتها الوجبة الوحيدة والفريدة التي يتناولها الأسرى ، والمقصود النوع وليس الكمية. هي نفسها ، خلطة البصل والبطاطا وقليل من الرز وربما خضار أخرى أسعفنا الحظ في عدم تذوقها.
والمطبخ كبير جدا ويتسع لألف حصان ، ومن غير المعروف لماذا لم يستخدموه كزنزانة واختيار أية قاعة أخرى كمطبخ. لأنه من السعة بحيث تلاحظ أن مساحته معظمها خالية وعملية الطبخ تتم في واحدة من زواياه فحسب.
رؤية الغرباء في مطبخ سجن يبعد ملايين السنوات الضوئية عن الحياة يساعد في زيادة همة العاملين فيه على إظهار مودة مستفيضة تجاه الأكل. ومع ذلك كان " مرد " وتقشير الخضار في الأرجل وخلطها بالمساحي أمر لا مفر منه.
حان وقت توزيع الحصة الغذائية. وبدئوا صب الأكل بقصعة النزلاء بالمساحي أيضا. ولم يكن من الصعب معرفة " السعرات الحرارية " التي سيتلقاها كل فرد فمجموع القصعات بلغ 73 . وإذا قسمنا الرقم على عدد النزلاء البالغ 2872 نحصل في حسبة بسيطة على نتيجة واضحة : كل أربعين شخص يتناولون ما موجود في قصعة واحدة. ولا يحتاج الأمر الى نباهة وتعليق فالقصعة موضحة لكم بالصورة وبالألوان الطبيعية.

لقمة في اليوم
أسير هزيل جدا اشتكى لنا بكل وضوح وصراحة بأنهم لا يأكلون عمليا سوى .. وأشر بأصابع يديه كمن يكور لقمة فيها.
كانت عيونه تتوسلان لنا بفعل شيء دون أن يعرف بأننا " رجال أقوال وليس أفعال ". ولم يكن من الصعب معرفة السبب في اللقمة الفريدة التي تصل الى معدته كل يوم. فنظرة سريعة الى السجانين وصحتهم النافرة تفسر لمن تذهب الوجبات الحقيقية. ناهيك عن الوضع داخل الزنزانات نفسها. فكما في كل السجون ، ثمة من يسيطر على الوضع بعضلاته. وهناك مراكز القوى داخل كل زنزانة ، هؤلاء يتحكمون أيضا بالسعرات الحرارية للنزلاء الآخرين وبأفضل مكان في الزنزانة وأكثرها دفئا ، أجود الأغطية وأنظفها ، أول رغيف يدخل ، من يستحم ومن ينام ومن ينظف ومن يغسل الملابس وهكذا.
هي حياة أسر وسجن وذلّة وأفول الشباب ومهانة وجوع ومرض واضطهاد ليس من السجانين فحسب ، بل وحتى من " الأخوان " .. فلا عزاء للمهزومين ولا للمستسلمين دون قتال .. ولا رحمة منتظرة من منتصر في معارك البقاء على قيد الحياة.
هذه مشاعر من فاض فضول عينيه وأنفه وفمه ليقتنص ترنح الزمان في أماكن أقصيت عن السمات كسجن شابرغان أو غيره.

النظافة من الإيمان
لم تكن زيارة للسجن ، فقد كان السجن يزورنا. وتمكن إلحاحنا من رؤية النزلاء من التوصل الى اتفاق نظافة. ومختصره السماح لهم بالاغتسال. كان الأمر ضروريا ونافعا لكل الأطراف ، فالأسرى ربحوا الماء والسجانون أظهروا حضارية لا تقدر بثمن ومنحت لنا فرصة التحمي معهم.
أخرجوهم بالتدريج بمجموعات تضم الواحدة 7 - 10 أشخاص. لم يكن الأمر يتطلب ركلهم بالأرجل أو السياط خلال تقدمهم الى " الحمّام " ، لكن هذا عرف السجون على ما يبدو. أخرجوهم الى الباحة الباردة ليغتسلوا وتبين أن حمّام السجن حاوية هو الآخر. ويزودون بالماء بأباريق : لكل شخص إبريق عليه أن يزيل كل شيء به.

ومع ذلك وقفوا في كل مرة أشباه عراة بانتظار الإبريق الموعود. والغريب أن الأسرى كانوا ينادون السجانين بالعبارة الأثيرية نفسها : طالب ! ( مفرد طالبان ).
كان تدخلنا لابد منه لطباعنا التي لا نستحسن التخلص منها. انتزعت اللامبالاة التي أبداها السجانون حيال وقوف أشباه العراة بلا غطاء ولا أباريق صرخة بهم :
- هذه البراميل مليئة بالماء الحار لماذا لا تعطوهم الماء أو تعيدوهم الى الزنزانة.
لم نتوقع استجابة سريعة للسجانين ويبدو أن الجميع هنا تعلم أن يصرخ عليه أحد ما لتأدية واجباته ، حيث سرعان ما ابتدأ الاحتفال بالماء.
المنتصر بالأسر
منحنا انتظار الماء وقتا كافيا للتحدث مع الأسرى. وكان من غير الممكن إهدار الوقت بمناقشات أيدلوجية مع طلاب للموت. وتركز همنا على معرفة جنسياتهم وظروف وصولهم وأسرهم. أما ظروفهم في السجن فواضحة حتى لسكان الكواكب الأخرى.
والمشكلة انحصرت في أن أغلبهم كان يؤدلج حتى إجاباته على أسئلة بسيطة من نوع : من أين أنت ؟ من معك ؟ وتداركا لقلة الوقت والحيلة كان ينبغي ترك هؤلاء
" المفكرين " والالتجاء الى آخرين أكثر سماحة.

كان صبي عربي لم تفارقه الابتسامة لنا منذ خروجه من الزنزانة حتى عودته إليها ملاذنا المفتوح على مصراعيه.
وعرفته عربي لأنه أشار لنا عندما كنا نصور على سطح الزنزانة وقال : حيصور ؟ والأكثر من ذلك تحدث مع رفاقه بالعربية وسمعت كل حديثه. وما أن اقتربت منه ولم نكن لوحدنا تماما حتى بدأ يتحدث بالإنكليزية. لا يوجد ما يدعو للغرابة مع زحمة الأسباب : لم يتوقع بأننا عرب ، لم يشأ التحدث بالعربية … اقتربت منه وهمست :
- كيف أحوالك ؟ تعمدنا طرح السؤال باللهجة التي يفهمها لكي تزيل عنه الظنون. بعدها أجاب بلا تردد :
- مثل ما تشوف.
- أنت سعودي ؟
- لا باكستاني .. وضحك. بعدها أردف : أنت من وين ؟ وما أن سمع إجاباتي حتى رفع أصابعه بعلامة النصر كما توضحها الصورة.
كنا واثقين من أن مدير السجن لم يقل لنا الحقيقة وأراد إبعاد العرب بأية طريقة من سجنه. وكان من الواضح أن نحو 3 آلاف أسير في مزار شريف وقندوز كلهم باكستانيين وشيشان وصينيين وبروفيين ، أمر من الصعب تصديقه.

حب في الزنزانة
كانت نوافذ الزنزانات عالية بما فيه الكفاية. ولم يمنع ارتفاعها من تسلق بعض العرب لإلقاء التحية علينا كما واضح في الصور. لم تكن المسافة كافية لفك طلاسم حديثنا. فكنا نصرخ ولا يسمعوننا وكانوا يستغيثون ولا نسمعهم. ظلت أكفهم وحدها تلوح ذاخرة بالنحيب.
لم يكن بالمستطاع الاقتراب أكثر بفضل الحراس وكانت كل خطوة حذرة محسوبة لهم ولنا. كانت كل خطوة تمثل لهم الخروج من شهور العزلة ولنا الإغراق بالغموض أكثر. ولو كانت عتمة النوافذ هكذا مع مهب الشمس ، فكيف سيكون حالها مع ارتفاع الظلام ومقبل الليل.
نعترف بعجزنا عن إنجاز صورة المشهد عندما وقفنا طويلا تحت النوافذ وبمسافة حددتها بنادق العسس وأكفهم التي كانت تلوح تارة وتتشبث بحديد النوافذ تارة أخرى. ولعل الصورة تصوغ المفترق.
لا من مجيب
أخذ النهار يطوي الضوء ملمحا بالغياب. وكان هواء السجن يتنسم تأرجح المقل ويلقي تحياتنا الأخيرة على " ريحة الحبايب ".
لم أجد أمامي سوى الانتقام من مدير السجن ببعض الأسئلة الحتمية :
- الى متى سيبقون في السجن ؟
- هذه مسائل تحل على أعلى مستوى. اعتقد أن الباكستانيين ستتم إعادتهم الى بلدهم.
- كان صبركم عاليا وكرمكم كبيرا حين سمحتم لنا العمل طوال اليوم في السجن. ألا ترى بأن ثمة أمور تخص الخدمات يمكنكم القيام بها أفضل مما هي عليه الآن ؟
- أيها تقصد ؟
- تحسين الأكل ، زيادة الحصة ، الاغتسال ، نقل النزلاء لقاعات فارغة أخرى رأيناها بدلا من حشر أكثر من ألف شخص في زنزانة واحدة ، فحصهم طبيا باستمرار. أليست هذه من الأساسيات التي أكدت عليها كل الاتفاقيات والمواثيق الدولية والإنسانية ؟
- عملنا ما بوسعنا من أجل خدمتهم. هذا أفضل سجن رأيته في البلاد. يكفي أنه حتى الآن لم يتوف أحد منهم.
كان من غير الممكن الاستمرار بالحوار بعد الجملة الأخيرة. فإذا كان البقاء على قيد الحياة من الأفضال فالمسألة منتهية وواضحة : طالما يترك الأسرى في هذه السجون حتى إشعار آخر. لا تريدهم أمريكا ولا بلدانهم ولا سجانيهم ولا يعرف بهم التاريخ ولا يعرفون بالجغرافيا ، حيث أول سؤال سمعناه من أسير كان : أين نحن ؟
هو سؤال اختصر كل أسئلتنا
في حقيقة الأمر : أين نحن ؟