الجمعة، 11 يوليو 2008

افتتاح ثقب الإبرة



"كل حقيقة أعطيتها بئرها"
- أ . بريتون -

"لتكن كلمتي هي الشيء نفسه"
- خ . ر . خيمينيث -

مترعة ومتألقة تلك الأيام الدائبة التي حاول الصحافيون اللحاق بها. روايتها ، محاولة لصهر فولاذ الحقائق في أناء الصحيفة المتلهفة لقطرة أو إيماءة ، نبأ أو عبارة مقنعة.
في الأيام الأولى التي سبقت القذائف الأمريكية الأولى كنا نتلهى في "دوشنبه" بإعداد الوثائق والاعتمادات وتأشيرة الدخول الى أي شبر من أفغانستان. وقد تكون المثابرة الأولى وجودنا مع أول رعيل للصحافيين الأجانب في أولى حروب القرن ضم الثلاثين الأوائل. قال الدكتور عبد الله عبد الله الذي كان الناطق الدائم لقوات التحالف لمجموعة الثلاثين : سنتعامل معكم بخصوصية فأنتم أول من تذكرنا.
ولعل استرجاع هذه الأيام التي عفا عليها الدهر إضفاء آخر للذاكرة وطمأنة لتوجيه السؤال وكشف المستور في حرب لم تسدل نهايتها.
والقاعدة الذهبية الأولى التي خرجنا بها من هذه الخطى : اذهب إلى الحرب قبل وقوعها. والثانية : استثمر كل ثانية وفرصة وابتكر عيوناً إضافية وتلقف كل الشارات والإيماءات. والثالثة : عمّر روحك بالصبر وجيوبك بالنقود وحقيبتك بكل ما يحتاجه إنسان على سطح القمر ، فالمال لا يصنع الحرب على حد فهم الفرنسيين ، بل الإعلام أيضا. والعمل والنوم مع الشمس ، تماما كحال الأزمنة الغابرة ، ولكن " من يستطيع النوم " ، والفجر في دوشنبه لا يشبه فجر الشمال الأفغاني الذي لم يفطمه أحد من الحرب ووقائع القتال. ولا حديث عن الحرب بتجنب نحافة الرقص على الوثائق والموافقات : عطب وكسل يقذفك من الخارجية الطاجيكية نحو السفارة الأفغانية في دوشنبه وبالعكس : متى نعبر الحدود؟
ذابت أقدامنا على الأرض الطاجيكية وحملت الأنباء التي ينبغي أن نصنعها بأن الضربة الأمريكية خلال أيام والوزير عبد الله في رواح ومجيء : يتغدى في بانشير ويتعشى في فندق الأحلام وسط دوشنبه. وما عليك أكثر من متابعة قرص شفتيه الناطقتين بالإنكليزية الصحيحة ومراقبة لألأة عينيه ؛ علّ الحرب تسيّجهما ، تنظر وتنظر ، لا تقطف غير خيال مؤجل : آه ، أن حاله كحالنا ، بل أحيانا يسألنا عن آخر الأنباء !
سقط لي خاطر في جوف المقامرة : عد الى النهر مثلما بعثت حيا ! واشتعلت نفسي بالرضا لتحطيم السد الأول.
تركت الجواز والأوراق والصور ومبلغاً للعودة المظفرة في العاصمة الفتية وحملت كل صغيرة وكبيرة تفيد العمل لأسكن في مكان ، وأيّ مكان : على حافة نهر بيانج ! هناك حيث تتفكك الأوصال ويتأجج المجرى ويعود الجمال الى العالم ،،، في تلك البقعة المزهوة من الأرض : تجار مخدرات ، مرتزقة ، حراس حدود هلامية ، حيوانات منقرضة ، بشر كأشجار صفصاف … ها أنا أقبض على الإلهام دون بهجة : لتخزن ذاكرتك صور الروابي والورود الصفراء وأعشاش الغربان وبقايا ملابس المندثرين وخيام الدخان والغبار. هناك حيث الفقراء ،، لا الفقراء للغاية ، لا المعدمون … المساكين كجرو في موقد ، الصمت أفضل أنباء من الكتب.


أطوف في الساعات الأولى رواحا ومجيئا كي لا أضيع دكان الحدود الذي يدخن فيه بلا انقطاع ثلاثة حراس روس ابتعت منهم دثارا وبقايا زورق منكوب.أتبارى في التوسل للسماء : لا تظلمّي اليوم … أول يوم في القبر !
ألا تدعو للبطر مفردات : جوعان ، عطشان ، بردان ، جزعان … تكاد السخرية تنقذني كلما أفتح شريط جديد من الحشائش لتقابلني أخرى أمتن تتكدس حولها صخور ولا أبيض منها : صحافي … اتركوه !! تماما كانوا يقصدون : مجنون أخلوا سبيله.
هي النظرات نفسها التي تكدست بها الذاكرة بعد ثلاثة أشهر ونيف عندما حاصرتنا الثلوج في قمة جبال سالانغ وبينما كان الناس يحتضرون كل بانتظار موته ، كنا نتقافز مع مرح العدسة لنثبت المشهد للناس الدافئين : الدنيا وين وأنا في أي حال…
ينشط ماء النهر عند اختلاف الأعماق والمنحدرات ، وهذا يكفي لو أضفنا الى صوته نعيق غربان محترفة لكي تغادر العين الإغفاءة الأولى كما لو كانت موضوعة في آنية زهور.
فلتبدأ مواهب الحقب الغابرة في العمل بعد إمساكنا بالأدوات. عبور لنهر ونهار واحد للضفة الأخرى التي يعرفها العالم كله الآن باسم : أفغانستان.
ستخلد هذه الأيام أكثر من الكتب وأكثر من طاقتنا على الكتابة : قم بأي شيء ولكن لا تدع الوهن يخمد على قضبان عمودك الفقري والعقلي.
هكذا حملتنا " الأكلاك " في الرحلة الأولى الى أفغانستان وهي نفسها التي أعادتنا الى حضن السلام. فلنقلب هذه الصفحة ونعود الى الماء البني في دوشنبه.
أسجل أسمي في قائمة " دولت " بالحبر والجاف والرصاص. هو المسؤول عن مواكب الصحافيين ، وبأمره تطير المروحيات ، وحتى عند أكثر الصحافيين الأمريكان غنى يعتبر أكثر أهمية من السيد بوش.


كل ليلة يزداد احتمال اشتعال الصباح بأنباء أكثر جدية من اليوم الفائت ، تسير الدورة ليكون ختامها محسوما في مصير المؤشرات الثابتة : تسجل اسمك للمرة الثانية .. الخامسة .. الألف .. يتبارى زملاء من وكالات مرموقة بإعادة تسجيل أسمائهم ،، نفس الاسم والقائمة .. يا للمهانة.
جاء المفدى يتلو الأسماء بلكنة حفظها حتى الهواء ويعيد تلاوتها والنعم تقال أيضا بالشفرة وبالنعاس ، مهشمة تكنسها الرياح الباردة.
يغادر الحبيب وتلتصق نظراتنا بجدران السفارة التي تحولت قبلة للصحافيين. يعود إلينا حاملا صدر الأخبار : سنرسل الأسماء !
وبعد ساعات تم تعديل الخبر : ننتظر عودة الكهرباء لنرسل الأسماء بالفاكس.
لا أحد يعرف أسرار القائمة وألغازها وكيف يتم اختيار الصحافيين كل صباح الذين يحق لهم النزول الى أفغانستان ولا السر الذي يكمن في بعث الرسالة بالفاكس وعدم إرسالها بيد مأمور طالما الكهرباء تسري نادرا في أسلاك دوشنبه. والأهم لا أحد يعرف لمن ترسل هذه القائمة ولماذا كل يوم ؟؟
عموما هذا التعداد الصباحي مفروض على من يرغب الذهاب الى مواقع التحالف الشمالي وليس مفروض على من يبادر بمعرفته الذهاب الى الجحيم كما فعلنا ذلك مرتين.
كان الأفغان يفضلون الأمريكان والإنكليز واليابانيين وباختصار كل من يدفع أكثر. أما البقية وبمبادرة منا لامتلاكنا خبرة الانشقاق من أحزاب العالم الثالث فقد شكلنا " لوبي المظلومين ". وهؤلاء مجموعة تضم صحافيين من روسيا وأوكرانيا ودول البلطيق وتركيا. وبمساعدة اللغة الروسية والغبن والفقر تشكل هذا " اللوبي " الذي كان بحق يضم أهم الصحافيين الذين عملوا في الحرب التي تكاد تقع.
تمخض الانشقاق عن فكرة تبين أنها حاسمة وفاصلة عندما قلت لهم : طالما نمتلك تأشيرة دخول الى أفغانستان ، لا نحتاج لأكثر من واسطة نقل توصلنا الى العوامة.
ولأنهم لا يعرفون أسرار الحدود ونهر بيانج والعوامة ودكاكين حراس الحدود ، فقد شرحتها بالتفصيل. وعندما تيقنوا بأنه في المستطاع عبور الحدود حتى بدون فيزا ، لم يبق أمامنا سوى العثور على سيارات وهي تصطف يوميا قرب السفارة أو الفندق. وهكذا قمنا بخطوة هشمت الخيار البيروقراطي للجماعة واضطروا فيما بعد وخاصة بعد الضربة الأمريكية الى العمل بهذه الآلية : منح فيزا للصحافي وعليه تدبر أموره بنفسه للوصول الى أفغانستان.
وفي حالة إتمام كل شيء والوصول الى الضفة الثانية بواسطة العوامة. ثمة خياران لا ثالث لهما : المرور عبر دكان الحدود ؛ وهي النقطة التي يفحص فيها ما يسمى حرس الحدود الأفغان الجوازات والتأكد من وجود الفيزا ووضع ختم الدخول الى البلاد. أو تجاهل هذه النقطة والسير على الأقدام وصولا لأقرب شاحنة عسكرية وهذه المرحلة الثانية من النزول الى أفغانستان.


الشاحنات أغلبها روسية مكشوفة من طراز " زيل " أو " كاماز " تستطيع حمل أي عدد من الناس. والطريف أن سائقيها الأفغان لا يتعاملون بالأجرة كباقي الخلق ، مثلا ؛ أجرة الشخص الواحد 10 أو 20 دولارا أو أي رقم آخر. بل يتعاملون بالأشخاص نسبة الى ورقة الـ 100 دولار … فهم يقولون : ثلاثة .. خمسة .. سبعة وهكذا. ولمن لم يفهم نشرح : ثلاثة أشخاص في المائة دولار أو خمسة …وبعدها يبدأ الصراخ المتبادل وخاصة يسمع هذا عندما تصل مجموعة " المظلومين " ، ويطول الصراخ وتسمع عبارات : بالأمس كان السعر خمسة !!
ومن الحدود حتى القرى والمدن التي يسيطر عليها أفغان الشمال لا توجد طريق معبدة واحدة ، فهي طريق دكتها حوافر الخيول فحسب.
في المرحلة التالية يستقبلنا المترجمون وعوائد هؤلاء أكثر من السواق وأصحاب الزوارق. غير أنهم يجدون العمل دائما لدى الصحافيون السعداء. أما مجموعتنا فلا تحتاج الى مترجم.
يذكر أنه لا أحد في التحالف الشمالي يرغب التحدث بالروسية بالرغم من معرفة البعض بها. ولهذا " التكتم " سبب : بعد اتهامات طالبان لقوات الشمال بأن الروس يقاتلون الى صفوفهم ، أصدر أحمد شاه مسعود أمرا بعدم التحدث بالروسية وخاصة مع الصحافيين. ومنذ ذلك الحين يلتزم المقاتلون والضباط بتنفيذ هذا الأمر. لذلك لا مفر من التفاهم باستخدام اللغة العالمية : لغة الحرب.
وهموم وأشجان المتابعة الصحافية ، تكاد الحدث الرئيسي الذي يمكن الكتابة عنه قبل الضربة الأمريكية وربما لأن هذه المعاناة الشيء الوحيد الذي يمكن الكتابة عنه بصدق. بالإضافة الى سكون جبهات القتال ( غير الموجودة أصلا ) لغاية مفتتح نوفمبر.


وأكثر ما يثير الدهشة ، أن هذه الحرب ( حتى منتصف نوفمبر وقبل سقوط مزار شريف ) تحولت الى كرنفال عالمي بغياب حرب حقيقية. وطالما قطع المئات من الصحافيين آلاف الأميال فلابد لهم الكتابة عن حرب ، أي حرب حتى لو يتم تأليفها.
فمثلا ، قناة تلفزيونية إنكليزية هي الأشهر عالميا استأجرت قرية !! نعم استأجرتها بكل بيوتها وسكانها ومختارها ونسائها وأطفالها ورجالها وهوائها وطقسها. لماذا ؟ يصورون الأطفال في مدرسة وهمية ، بعدها يلعبون ، اجتماع طارئ لوجهاء القرية ( يقولون في التقرير وجهاء التحالف الشمالي ) ، عمال يبنون غرفة من الطين ، نسوة يستخرجن الماء من بئر ، مداعبة حيوانات سائبة ، إعداد الخبز والطعام ، طبيب لا يمتلك شهادة تمريض يفحص أشد أمراض الدنيا … وهكذا يعملون من كل مادة تقريرا يوميا لا يحتاج المراسل سوى بضعة ثوان يقول ما لديه عن سير المعـــارك في
الـ " ستاند أب " ،،، ومن لا يصدقه بأنه في أفغانستان ؟؟
والشركة التلفزيونية الأمريكية الأشهر عملت الشيء ذاته في بانشير حيث استأجرت القرية التي كان مسعود يعيش فيها. غير أنها نشرت مراسليها في كل مكان في الشمال الأفغاني ولم تكتف بعرض ريبورتاجات القرية الوحيدة.
وعمل الوكالات تطور وتغير في هذه الحرب. فلم تكتف الوكالة الفرنسية المعروفة بمراسل أو أثنين ، فقد وزعت 16 مراسلا في كل الشمال الأفغاني وكانوا ينقلون الأخبار الى قاعدة الارتكاز في دوشنبه. وكل مراسل مزود بالعدة الضرورية ليبق على اتصال بالثانية مع القاعدة الرئيسية. وتكمن مهمة قاعدة دوشنبه في تصفية الأنباء وبثها للمركز الرئيسي. أي أنهم عملوا كهيئات الأركان العسكرية بالضبط. وبدون ذلك لا يمكن اللحاق بمجريات الأمور ، لا سيما وأن انتقال أي مراسل من مدينة أفغانية الى أخرى قد يكلفه جهد ومال ووقت غير معلوم.


قيل الكثير عن " مافيا الحرب ". وهذا المصطلح بطبيعة الحال ، ليس وليد هذه الحرب وليس من ابتكارنا ، فقد سمعناه من أفواه المقاتلين. وربما الحسنة الرئيسية لهذه المافيا ، أن بفضلها تم تنظيم عمل الصحافة في الشمال بغياب أهم مصطلحات القانون الدولي : الدولة.
فهؤلاء يؤمنون وصولك الى واحد من معسكرات الصحافيين ( افتتح أولها في خوجا بهاء الدين نهاية سبتمبر ). وكان الصحافيون التلفزيونيون يفضلون هذا المعسكر لأنهم يحتاجون الى استقرار ( لثقل معداتهم ) وحماية أكثر والأهم أن فيه مولدات كهرباء تسمح بشحن بطاريات الكاميرات ونصب الصحون الفضائية.
ولا توجد صعوبة في تصور عشرات الأطباق الفضائية تنتشر في مساحة 300 - 500 مترا مربعا والتنافس لحجز قطعة حجر أفغانية يصورون فيها " اللايف " أو النقل المباشر من جبهات القتال !!
والمافيا توفر لك مترجم إجباري وبدونه لا تحصل على إذن التوجه الى أحد مواقع التحالف. وأجرة هؤلاء تضاعفت 5 مرات منذ وصول رجال الصولة الأولى من الصحافيين.
والمترجمون يطعمونك ويصرفون لك العملة وهم الذين يحددون نوع غذائك وسعر الصرف وفي الوقت الذي يحددونه.
ودخول المعسكرات ليس كالخروج منها. والحجة الرئيسية هي الحماية وتوفير الأمن. فلا يحق لأحد الخروج ولو لمتر واحد بدون تصريح. لا يحق إنارة أي شيء بعد السادسة مساء. لا يحق التجول في المعسكر بعد الثامنة وعلى الجميع النوم.
أما النوم فهذا لوحده يحتاج الى رواية.
وحملة الكلاشنكوف هم حراسنا والساهرين على أمننا. أغلبهم من الفتيان. ومشكلتنا معهم أنهم يدخنون سجائرنا. فرحين بهذه السلطة والبنادق التي يتفنون في حملها وينظرون إلينا كما لو هبطنا عليهم من كوكب آخر. والاتهام متبادل على الأرجح. أحيانا ولقاء السجائر يصطادون لنا بطيخة أو يهربون لنا رغيف خبز فوق الحصة.

مشاهد أخرى لا يمكن نسيانها في هذا الكرنفال الدولي لمحاربة الإرهاب نذكر منها توجهنا مرة الى أحد المواقع المتقدمة وكنا نحو 40 صحافيا. والطريف أن هذا الموقع المتقدم يحتوي على 14 مقاتلا فقط. أي أن عدد الصحافيين يفوق أربع مرات عدد المقاتلين. وبالتأكيد سيظهر هؤلاء في أكثر من 40 صحيفة ومجلة وقناة. تتكرر الصور وكل صحافي يطلب من المقاتل تصويره بالوضع القتالي. وكان المصورون التلفزيونيون يدفعون لهم لقاء كل رشقة رصاص.
هكذا طبعا ، يمكنك حتى حجز الحرب ودفع ثمنها ، ولعلي لا أبالغ لو قلت بأن أغلب الصور التي حملت الى الرأي العالمي والتي أطلق فيها النار سواء من البنادق أو المدافع وحتى الدبابات كانت مدفوعة الأجر من المصورين التلفزيونيين.
مثلا ، أحد الزملاء تشبث بمقاتل أفغاني ومنعنا ( برجاء ) من تصويره مرددا بعصبية : هذا لي ! وفي غمرة ضحكنا عرفنا أنه يريد " حسنائه " صورة غلاف لمجلته. ومع ذلك صوره الجميع ، فقد ترك لنا 13 مقاتلا فقط وهذا رقم منحوس كيومنا !
لا ندري وقتها ما الذي تعرضه القنوات وما تكتبه الصحف. فالتلفزيون الوحيد الذي رأيناه في شمال أفغانستان كان في قاعة وزارة خارجية التحالف. ولكن خلال عودتنا الدورية الى دوشنبه للاستجمام اكتشفنا الكثير من الأكاذيب ( المعتادة ) في مثل هذه المواقف : قوات التحالف تسيطر على المدن والمرتفعات … الجنرال دوستم قتل أو جرح أو انبعث من الرماد … كيف ولم تقع معركة واحدة !؟


الحقيقة أن الشباب كانوا يتطوعون ويصل السلاح من الجيران وتقصف أمريكا مواقع طالبان والقاعدة بعنف ويوزع الطحين ويلبس المقاتلون ويأكلون وتنقلهم الشاحنات الى الجبهة ولكن بدون اطلاقة واحدة ، عدا تلك التي يتم تصويرها بالأجر.
هي إذن حرب من نوع آخر ولا ينبغي فهمها كحرب خلقتها الصحافة. هي نوع الحروب التي تندلع من بعد ، الخالية من الجبهات المعروفة وتصادم الجيوش .. حملت كل مقومات الحرب : الدمار .. التشرد .. السبي .. الاغتصاب .. الخيانة .. الإقدام .. الصمود حتى الموت ،، كل إفرازات الحرب بما في ذلك حرب الإعلام.
وحرب الإعلام كانت واحدة من أهم عومل نجاح الطرف المهاجم. وبغياب الفعاليات العسكرية التقليدية انشغل القائمون على التحالف الدولي والمحلي على إدارة هذه الحرب ودعمت القاصفات الأمريكية في دخول قوات التحالف المدن تلو الأخرى بدون قتال.
تطلبت حرب الإعلام من الأمريكان حجز الصحافيين في مخازن أو خيام أو أي مصيبة أخرى على خروجهم للحرية وتصوير مواقع مدنية مقصوفة أو جريح أمريكي أو حطام طائرة أمريكية أو أسير من القاعدة … الخ . كانت هذه الصور من أكبر المحرمات وقد تفقد حياتك لقاء لقطة واحدة. وحتى بعد استقرار الوضع يمكن لصدرك تلقي رصاصة جندي دولي مرعوب ما أن تشهر كاميرتك بوجهه وحتى داخل كابول.
من المفهوم جدا حساسية العسكريين الأمريكان من الصحافة وخاصة بعد الدور الذي لعبته في الحرب الفيتنامية. ولكن الحزم والقيود الأمريكية بلغت حدها الأقصى في الحرب الأفغانية لدرجة أن من المستحيل في الأيام الأولى أن تتحدث مع أي أسير حتى لو كان أخرس !
هذا الأمر اعترفت به الناطقة باسم البنتاغون فيكتوريا كلارك في إعلان رسمي وجهته لأجهزة الإعلام بقولها " نحن ندين لكم بالاعتذار بسبب أوجه القصور التي تعامل بها البنتاغون مع الصحافيين ". وقال وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد في هذا الصدد أيضا بأنه " ملتزم بمبدأ وصول الصحافيين الى الجيد والسيئ " مضيفا بأن المسؤولين عن إبقاء الصحافيين بعيدا عن مشاهدة الضحايا " أقروا بأنهم يتعاملون مع الوضع بصورة مناسبة وهم ينوون مراجعة إجراءاتهم ".
وفي النتيجة ، كان يسمح للصحافيين تغطية كل شيء عدا الأنباء !
غير أن الثابت الذي استلفنا منه التأويل هو أن البهاء الأكبر في ما وقع يسجل للصحافيين على اختلاف مشاربهم وإمكاناتهم وجنسياتهم الذين استطاعوا بالرغم من كل المصاعب الجسيمة إضافة أساليب جديدة في علم الصحافة والإعلام ، لم يشهدها حدث في التاريخ ولم تعلمها غرف الدرس ومناهج تعليم المهنة. وكما أن الحروب وأساليبها تغيرت ، فالعمل الصحافي تغير معها هو الآخر.
واجه الصحافيون العزّل كل المخاطر التي تصرّ في الذهن وكانوا الأقرب من الوحشة والخراب والسأم والشقاء والجمال وأشكال الموت. وكانوا الوحيدين في هذه المطحنة بلا حول ولا قوة سوى الموهبة ومحاكاة التجديد والرصانة والصبر. وبلا أدنى تردد ومن دواع الزهو وبأحرف طليقة نقدم هذا العمل الخاص بأفغانستان لكل الزملاء : أولئك الذين عبروا معنا الجداول وطافوا في حقول الألغام وسبحوا في الرمال المتحركة وتسلقوا قمم الجبال وتقاسموا معنا قطعة الخبز الوحيدة ونقاط الماء الأخيرة وعدّوا بقايا الزهور الجافة.
ولمن طواهم الظلام الأفغاني عن العالم ومن بقوا على قيد الحياة يحكون الجهد الموحد بلا توان.