الجمعة، 11 يوليو 2008

جزيرة بيانج

" أي مكان هذا ، أية منطقة ،
أي جزء من أجزاء العالم؟"
- سنيكا-

تحتوي جزيرة بيانج على كل شيء ميت ، أو على كل الأسباب التي تهيئ للموت، باختصار فيها كل مقدمات الموت.
وهي بقعة غريبة تغطيها الأحراش تنتصب وسط نهر بيانج الذي يقسم طاجيكستان وأفغانستان. هي بين الأسلاك الحدودية للأولى وبين خنادق الثانية ، الجزيرة المعزولة عن كل شيء حي ، حتى بيانج العظيم عندما يعبرها يتراخى ، وبفضل تراخيه في هذه البقعة المنسية من الكوكب ، نعبره في أسابيع الحرب الأولى يوميا تقريبا بالقفز على صخوره الجلمودية الثابتة في القرار والمنحوتة منذ بدء الخليقة والتي لم يمسسها إنسان ، لتحط أقدامنا في أفغانستان الرسمية وبالعكس.
اكتشفنا هذا الطريق السري نحو الحرب ، بعد إقامتنا في الحدود ضيوفا إجباريين. وكانت نزهتنا الصباحية تنقلنا بفضول سخي لاكتشاف المزيد من المسالك والطرق غير الآمنة ، حيث كرروا علينا وحذرونا من مغبة العبور الى أفغانستان عبر الجزيرة المنسية ، لأنها محاطة بالأسلاك الشائكة السوفيتية ، ولأن الطاجيك زرعوا فيها من الألغام ما يمكن إبادة أي هجوم طالباني محتمل حتى دون قتال.
فهي امتلكت اسما جديدا بفضل الحرب وليكن " جزيرة الألغام ". غير أنه لم يكن من الصعب على الذين عاشوا سنين طويلة مع عائلاتهم يحرسون الحدود ، معرفة خرائط توزيع الألغام. وبفضل هؤلاء رسمنا أسلم طريق وعيّناه بإشارات من قماش هزيل علق على الأحراش الأقوى ، لنعبر آخر أو أول حقل ألغام في هذه الحرب الغبية.
وعامل آخر لعب في نجاح هذه المقامرة ، هو المناخ. فطبيعته في الخريف ومع اختفاء الثلوج ، تنحسر المياه الى القاع تقريبا لعدم وجود شيء يذوب ، حيث أن مصدر النهر الأول للمياه هو ذوبان الثلوج ، لذلك فأنه في هذا الوقت من السنة
( أكتوبر صعودا ) تختفي المياه والأسماك وكل شيء حي ليظهر القاع بلوحته اللازوردية الخلابة وتنبسط الجزيرة معانقة البلدين غير المحظوظين بالمرة.
كما أن الأحراش في هذا الوقت أيضا تتكسر مع قدميك أو جسدك حال اختراقك لها ، الأمر الذي يسهل عليك الحركة الحرة والاختفاء.
وثمة داخل الجزيرة أيضا ، تشع خطورة أخرى لا تقل مهابة عن الألغام ، فالمياه التي تغمر الجزيرة مع ذوبان الثلوج منتصف الربيع تترك مستنقعاتها الخادعة. وهذه العبارة تحتاج أكثر من غيرها للتوضيح : عندما تغمر المياه والأخاديد العميقة بداية الصيف تستقر هناك راقدة مطمئنة ، ومع هبوب عواصف الأفغاني المحملة بغبار يمكنه طمس معالم كائن حي بحجم إنسان. غبار من النوع الذي تستطيع أن تمسك الهواء الذي يحمله لبلازميته المأخوذة بتلاحم جسد الغبار ( وليس ذراته ). التحام هلامي سافر وغير مخفي ، يعلن عن نفسه في يوم واحد. وماذا لو كان هبوب " الأفغاني " يستمر طوال الصيف ؟
سيغطي غباره طبقة إثر أخرى تلك المستنقعات وبرك الماء ، ويزداد خبثا عندما يغطي طبقات الغبار التي أصبحت بمرور الأسابيع أرضا " لا غبار عليها ". وتنثر الطبيعة بمكر الحشائش الطائرة وأغصان الأحراش المتطايرة لتهيئ للزائر أعظم مفاجأة ، هي ما يطلق عليها الجيولوجيون : الرمال المتحركة !
التيه وسط الأحراش اللانهائية ، الوقوع في حقول الألغام ، عبور الأسلاك الشائكة، التخلص من الرمال المتحركة ، كل هذه العبارات المميتة ، على الزائر الفضولي تجنبها ليعبر الأرض التي تنبع التعاسة والقهر : أرض أفغانستان.
ولتخطي هذه العبارات المميتة تحتاج الى التحلي بالنسيان وقليل من المرح والكثير من حب الحياة والأهم من كل ذلك مرشد أمين وخبير عارف بأسرار المنطقة وألاعيبها.
وهو بلا أدنى شك نور محمد ، الأفغاني الشاب الذي ولدته أمه في منتصف الشهر ومع اكتمال ضوء القمر وجاء أسمه بناء على توصية من ملا الحي.
تعلم نور محمد منذ صباه كل شيء : الزراعة ، الرعي ، ركوب الخيل ، السياقة. وعمل مع كل الغزاة وتعلم كل اللغات وأتقن كل الحرف التي تساعد الرجل على الحياة في بلد شاق كأفغانستان. وساعدته هذه المواهب على الهروب من طالبان في اجتياحها الأول للمدن الأفغانية.
ونور محمد لا يحمل أية بطاقة تدل عليه. هو بالفعل ينتقل براحته كالنور ، بلا عوائق ولا أسلاك ولا ألغام .. يستقبله الأفغان : أفغاني. يعمل مع الطاجيك : طاجيكي. يساعد الروس : روسي. يوصلنا الى الحدود ويعبر بنا كل هذه الحواجز .. هو المواطن الأممي ، أبن الكوكب الذي رزق بلاده كل هذه القسوة والمرارة. هو الحكاية من بدايتها حتى نهايتها المفتوحة لكل الاحتمالات ، بل هو يختصر كل الحكايات.