السبت، 12 يوليو 2008

حرب الدروس الفاشلة


الصقور ( 1 )
يمكن الظن للوهلة الأولى بأن السلطات الروسية توصلت الى استنتاجات معينة من حملتها السابقة ضد الشيشان وأن العمل جار على تصحيح الأخطاء السابقة. ويلاحظ أن سلوك ساسة موسكو متحفظ. ففي الوقت الذي يهدد فيه الجنرالات الروس باستخدام كل أنواع الأسلحة أمام كاميرات التلفزيون ويعدون بالسيطرة على كل الأراضي الشيشانية عاجلا أم آجلا ، يتخلى الساسة عن هذه التصريحات ويفسرون للصحفيين في الأروقة بأن هذه مجرد كلمات لضرورات الحرب النفسية. أما الجنرالات فيكررون أمانيهم بعدم مطاردة العصابات في الجبال عند حلول الشتاء.
مواجهة
بدأت الحرب الماضية ( 1994 – 1995 ) بمرسوم رئاسي لم يستشر فيه الكرملين مجلسي البرلمان ( الدوما والشيوخ ) نص على فرض النظام الدستوري على الأراضي الشيشانية ونزع سلاح التشكيلات الانفصالية. وذهب بعدها الرئيس بوريس يلتسين حالا ليجري عملية لأنفه واختفى في الظل بحجج مختلفة أخرى.
وبعد مضي أكثر من أسبوع على اندلاع الحرب الأولى ، لم يكن بوسع محيط الرئيس إيجاد من يجب دفعه الى مقدمة المسرح لكي يوضح للشعب ما يجري " على الأراضي الروسية ". لكن الآن يجري كل شيء خلافا لذلك. حيث يقود الرئيس ( لا يزال وقت هذا الكلام بالوكالة) فلاديمير بوتين بشكل مباشر الحملة العسكرية الراهنة وهو المسؤول عن كل ما يحدث هناك.
بدون رئيس ولا مرسوم
لقد تعودت " الطبقة " السياسية الموسكوفية خلال السنوات الفائتة على العيش بلا رئيس ، لأن رئيس الوزراء كان يشرف على كل شيء في الأيام البيضاء والسوداء على السواء. غير أنهم لم يسمحوا لأحد من رؤساء الحكومات السابقة إعطاء الأوامر الى وزراء القوة ، ولكنهم هذه المرة خضعوا لإرادة فلاديمير بوتين الذي تحول فعليا الى القائد العام للقوات المسلحة حتى في الوقت الذي كان فيها يلتسين رئيسا.
ووافقت كل الأطراف المعنية على سير قواعد اللعبة الجديدة دون أن تعقدها شكليا. خاصة وأن الحديث لا يجري عن أي حرب ، بل على عملية محدودة " لمكافحة الإرهاب " لا تحتاج الى أمر تحريري يصدره القائد العام . فهل يحتاج وزراء القوة الى مرسوم رئاسي لـ " يبيدوا قطاع الطرق " في الأراضي الروسية بغض النظر عن استخدام الجيش بكل تشكيلاته داخل هذه الأراضي.
قالوا في إحدى دوائر القوة أنه " من وجهة النظر الحقوقية ليس ثمة فرق بين تدمير عصابات مسلحة في أية مقاطعة واقعة وسط روسيا وتدميرها في الشيشان ".
الآلية
يحيط العسكريون فلاديمير بوتين علما بكل تحركاتهم وينتزعوا منه القرارات اللازمة يوميا وبالساعات أحيانا. ومما لا شك فيه ، أن بوتين صاغ هذه الآلية وهو الذي خطط لتدمير " التشكيلات الإرهابية بشكل نهائي " . وليس من الصعب تحويل تصريحاته الى أمر عسكري. وتدمير العدو هو سبب وجود الجيش . هذه المرة ابتعدوا عن عبارات مثل " إعادة فرض النظام الدستوري " التي يكاد لا يلمس بها أي معنى محدد.
والعسكريون مرتاحون جدا لهذه الآلية ومن الساسة الذين لا يجبرونهم بمواعيد معينة لإعلان الانتصار ولا يقيدونهم باستخدام هذا النوع أو ذاك من السلاح ووسائل الإبادة المتاحة. ويحاربون " كما مقرر " باستخدام تلك الأسلحة التي تتفوق على " العصابات " من طائرات وصواريخ ومدفعية ثقيلة. والارتياح هذا استمر وأعلن عن بناء " الطوق الأمني " حول الشيشان بنجاح وذهب بوتين ليعلق الأوسمة على صدور البناة .
الحامون للغاية
حفروا الخنادق ووزعوا الجنود : أليس هكذا تبنى المحاجر الصحية ؟
ولكن اتضح فيما بعد ، أنه لا يعرف أحد في القيادة السياسية ما الذي يجب فعله فيما بعد !
فمن جهة يؤكدون في مقر الحكومة بأن السلطات لا تنوي تكرار أخطاء الحملة السابقة والدخول في حرب طويلة ضد فصائل الأنصار في الجبال ، ومن جهة أخرى يبدي الاستراتيجيون العسكريون نفاد صبر لأنهم يدركون أن العملية لا تحدد مصير الجمهورية المتمردة فحسب ، بل وقد تهدد مصير شمال القوقاز برمته. ولهذا السبب أعطى أكثر الاستراتيجيين تفاؤلا حتى الربيع القادم مهلة للحديث عن الانتصار النهائي.
بمعنى أن القوات الروسية ستكتفي في الخريف والشتاء بالحصار العسكري والاقتصادي لذلك الجزء من الشيشان الذي يسيطر عليه المقاتلين. وستؤدي المناطق " المحررة " دور الواجهة التي ستؤمن للقوات الروسية تهيئة الحياة العادية من مدارس ومستشفيات ومرافق عامة على الورق وشاشات التلفزيون.
غير أن الجنرالات الحاميين الطبع " سبايس مين " تكاثروا وسط الساسة ، هؤلاء الذين تسيطر عليهم عقليات غير معقولة والتي دفعت بوريس يلتسين الى مغامرة عام 1994. وبدأ بعض الساخنين التكلم بلا هوادة عن ضرورة الاستيلاء على غروزني. معتقدين أن رفع العلم الروسي على غروزني هو الظفر في هذه الحرب ولكي ينهوا الحديث عن مفاوضات ما مع السلطة الشرعية ولكي يمهدوا الطريق للرئيس أصلان مسخادوف للتواري في جبال إيتشكيريا وينذروا ما تبقى من الأهالي لمغادرة العاصمة.
وتبقى المزايدات على حالها دون تغيير ؛ يطلع مثلا ، الجنرال فلاديمير شمانوف أحد القادة الروس الميدانيين ليعلن أمام جمهرة من الصحفيين بأن قواته حاصرت في بلدة غوراغورسكي فصيلة تحت قيادة شامل بساييف نفسه. ولكن لا وزارة الدفاع أكدت ذلك ولا دائرة الأمن الفيدرالية. وبعد مرور عدة أيام ظهر بساييف بهدوء في غروزني وسط كاميرات التلفزيون.
وأخذ الحامين يرمون على الصحافة معلومات تشير الى الاضطراب والتردد وفقدان السيطرة الذي يعتري " العصابات " وأن بعض الشيشانيين أمثال المفتي أحمد حاجي قاديروف وبعض القادة الميدانيين مستعدين لعقد اتفاقية " انفصالية " مع القوات الروسية لضم المناطق التي يسيطرون عليها الى المناطق التي " حررتها " القوات الفيدرالية. واقتنع من تخيل هذا السيناريو بان القوات الروسية سوف لا تجابه بأية مقاومة كما قال فاليري مالينوف نائب رئيس هيئة الأركان الروسية : " سنتفق ببساطة مع الإدارات والشيوخ الذين سيطردون بأنفسهم العصابات ".
ليست رحلة صيد
ومن الواضح حتى الآن ، أن تأمين المراقبة على المناطق "المحررة" ليست بالمهمة البسيطة. فالجنرالات يدركون بأن قضاء الشتاء بين كر وفر ليس بالأمر الهين. فلن تسمح طبيعة الأرض المعقدة وتفاهة الأموال المخصصة ببناء خط دفاع واحد وستكون حرب الخنادق في صالح المقاتلين الشيشان وسيتسللون في مؤخرة القوات الروسية وسينزلون الضربات المفاجئة عليها في الوقت الذي يقررون.
أمام هذه المعطيات ، ستتقوى الرغبة في إنهاء الأمر بسرعة أكبر حتى لو تطلب ذلك خسائر كبيرة بالأرواح ، لا سيما وأن الجنرالات لم يصطدموا للآن بمقاومة شرسة عدا في غروزني عندما قرر المقاتلين هناك الدفاع عن المدينة. وبدا لهم عدم إجازة التوقف في أي حال من الأحوال وإعطاء المبادرة التعبوية للتشكيلات الشيشانية.
ولا يوجد أي نبأ يؤكد بأن الجيش الروسي ينوي التوقف عند غروزني . فقد أعلن مؤخرا الجنرال كوسوفان نائب وزير الدفاع لشؤون البناء ومرابطة القوات بأنه لا ينبغي بناء أي شيء رئيسي في هذه الخطوط وتكتفي خدمات المؤخرة بإرسال الخيام الى القوات.
ومع انعدام نظرية عسكرية واضحة لهذه العملية ، لا يمكن تحديد من سيفوز بهذا الجدال ، المتحفظون أو الحامون. ويتكرر خطأ الأعوام 94 - 96 الرئيسي : مصير الحرب بيد الأشخاص الذين يسعون الى ترقيهم السياسي وعدد الأوسمة على صدورهم قبل كل شيء.
حالة بوتين ( 2 )
تتفق خطة الحملة البرية غير العاجلة لحد الآن مع حسابات الذين يستعدون لإجراء حملة فلاديمير بوتين الانتخابية لشغل مقعد الرئاسة. وهؤلاء مستعدون للهجوم الدعائي الفعال على الناخبين الروس لمرحلة " التشتية " في الخنادق. وينبغي أن تتم في نتيجتها صياغة صورة بوتين لا لكونه " قاهر الشيشان " فحسب ، بل المحسن الذي بمبادرته بنيت الدارس والمستشفيات وخطوط أنابيب الغاز والذي أشاع الديمقراطية بإجراء انتخابات نزيهة في الأراضي " المحررة ". وقال أحدهم : " لا يهمنا موعد الاستيلاء على غروزني غدا أو في مايو وسنعمل على أن لا يؤثر ذلك على شعبية بوتين".
ويبدو أن بوتين نفسه لم يثبت على تكتيك مختار. والمميز أنه لا يوجد شخص واحد بين الموظفين الكبار في الكرملين ومقر الحكومة يعترف بأنه يعمل بالقضية الشيشانية. وحتى في وزارة شؤون القوميات حيث يخصص مئات الموظفين لهذا الغرض أظهروا عدم امتلاكهم الصلاحية في التعليق عن أي سؤال حتى بخصوص " حكومة المنفى " التي ترأسها شخص لا يعرفه أحد يدعى مالك سعيد اللايف. ولم يشرح أحد في هذه الوزارة كيف سيعود النواب السابقون الذين فرقهم جوهر دوداييف وأعضاء مجلس الدولة المشكل حديثا الى " الوطن " بمساعدة الحراب الروسية وكيف سيقبلون على إدارة " الأراضي المحررة " وبأية آلية. ويبدو أن التاريخ لم يعلم الوزير فيتشسلاف ميخايلوف الذي كان أيضا على رأس هذه الوزارة في الحرب الأولى قصة حكومتي سلام بيك حاجييف ودوكو زفغاييف وقبلهم عمر أفترخانوف. وبدا من خلال البحث والمناقشة عدم وجود أنصار لهذه الحكومة في مقر الحكومة والكرملين. غير أن الحكومة شكلت واستقبلها فلاديمير بوتين وسمعت منه كلمات التأييد والاستحسان. لكن موظفا رفيع المستوى قال بأن " هذا التدبير لم يعجب بوتين جدا لكن لم تتوفر لديه إمكانية التملص من هذا اللقاء. وقابلهم كمعارضين لأصلان مسخادوف فحسب ". وأضاف: " لا جدوى من الضغط على بوتين في المسائل الجدية لأنه لن ينكسر ولن يرضخ للضغط ".
ليس ثمة مسوغات كافية تقنع بعدم صمود بوتين أمام الضغط غير القوي جدا من لوبي " حكومة المنفى " الذين لا يمتلكون نفوذا كبيرا يصمد بوجه " البواشق " من أجهزة القوة الماهرين في دسائس الأروقة. وأكد بعض الموظفين في محيط بوتين بأنه شعر بضغطهم وأغلب الظن أن ذلك زاده تصميما أكثر فأكثر. وتبقى المسألة محصورة بالتوقيت فقط.
ويعتقد بوتين والساسة المشتركين في صنع الشعار " بوتين رئيسنا " أن بدء الهجوم في الربيع القادم معقولا أكثر. ومع ذلك يصطدم هنا الاهتمام السياسي والفائدة العسكرية.
وإذ يشعر بوتين بكل ذلك ، يحرص على عدم وضع الخطط العسكرية واتخاذ القرارات لوحده. مع الإشارة الى أن كل الجنرالات المحيطين به الآن يحرصون على إرضاء الرئيس المستقبلي. ويبدو أن وزير الدفاع إيغور سيرغييف الوحيد الذي سلم بأن خدمته العسكرية ستنتهي بعد أقل من سنة فأخذ يعمل للتاريخ ، آخذين بنظر الاعتبار عدم وجود رتبة أعلى من مارشال يمكنه الحصول عليها. لذلك يعتبر الآن الوحيد ممن عارضوا القيام بالعملية البرية أو اقتحام غروزني بالرغم من تصريحاته التي يطلقها بين الحين والآخر والتي تجنبه الاتهامات بالتخاذل. أما زملاءه الأقل عمرا والذين ترتبط أسمائهم بهزائم الحرب السابقة فأن كبريائهم أكبر بكثير من أعمارهم وخبرتهم وهم متعطشون أكثر من غيرهم للانتصار بأي ثمن. لذلك من الصعوبة إرغامهم على الانتظار حتى الربيع. فقد يتضح في مايو القادم وقبل شهرين من الانتخابات الرئاسية بأن الوقت قد فات عليهم. وسيشكل المرشحون الواقعيون حتى ذلك الوقت فرقهم العسكرية الخاصة ومن الطبيعي أنهم لا يحتاجون الى إدراج أسماء ملطخة بهزائم الحرب الشيشانية السابقة والجلوس بلا عمل على ضفة تيريك.
لقد علل الجنرالات الروس هزيمتهم في الحرب الشيشانية السابقة بتدخل الساسة في شؤونهم عندما بدئوا محادثات لا معنى لها مع " الانفصاليين " في الوقت الذي كان يجب إبادتهم.
ويبدو أن القيادة الروسية وعلى لسان فلاديمير بوتين أعطت أوامر هذه الإبادة حيث قال في حديثه الأخير في وزارة الداخلية بأنه يعطيهم الحق بالتصرف بالطريقة التي يرونها ضرورية !
وأعقب هذا تصريح لوزير الدفاع ايغور سيرغييف أكد فيه بأنه لم تطرح للجيش مواعيد ثابتة لإنهاء العملية كما نفى وجود موعد محدد لاحتلال غروزني.
وهذان التصريحان يطلقان في درجة كبيرة أيدي الجنرالات ، ويبقى التكهن فقط بما سيراه هؤلاء ضروريا.
كانت القوات الروسية خلال الأشهر الماضية تتحرك بلا عجل في سهول الشيشان وتحاصر المناطق المأهولة بالسكان. وكان المقاتلون الشيشان بغية عدم إيقاع الخسائر في صفوف المدنيين وتجنب تدمير المدن والقرى بالكامل يخرجون منها ليدخلها الجيش بيسر.
وظنت القيادة السياسية والعسكرية الروسية بان كافة المدن والقرى الشيشانية ستقع تحت سيطرتها على هذا النحو وسيتراجع " الانفصاليون " الى الجبال حيث سيعانون من البرد والجوع والقصف المستمر. وسترابط القوات الروسية داخل وحول المدن وسيتم اختيار سلطات محلية في كل منطقة لكي " تعيد الحياة الطبيعية " إليها.
وأخبر نائب رئيس هيئة الأركان فاليري مانيلوف ببداية المرحلة الثالثة والحاسمة للحملة العسكرية. غير أنه لم يشرح وقتها معنى المرحلة الثانية ونتائجها ولا ماذا يعني بالمرحلة الحاسمة. وكرر الرئيس السابق بوريس يلتسين ما قاله جنرال الأركان بعد يومين مؤكدا بأن المرحلة الثانية انتهت لأن " قطاع الطرق تم إبادتهم وطرد الباقين الى الجبال ".
غير أن المقاتلين الشيشان غيروا تكتيكهم مفضلين اختيار زمان ومكان المنازلة العسكرية التي قرروا أن تكون في غروزني. وهاجموا القوات الروسية في كل المدن الشيشانية الكبيرة التي سيطرت عليها بلا مقاومة جدية واستعادوها في ليلة واحدة.
وهذه الإنجازات العسكرية للشيشان لم تحدث هذه المرة بفعل خيانة سياسيي موسكو ( على الأقل لا يوجد دليل على ذلك ) وقد تكون لأسباب عسكرية.
ويتخبط العسكريون الروس الآن على مشارف غروزني ؛ تارة يلقون منشورات تحذير وتارة يقترحون اقتحام " ناعم " كما حصل في غوديرميس وأتشخوي مرتان.
وتسرب القيادة العسكرية الروسية معلومات بغية التأثير النفسي على المدافعين عن غروزني باستخدام أسلحة جديدة مثل طائرات " سو - 27 " و " تو - 22 م " القادرة على حمل قنابل زنتها نصف طن وأحاديث عن صواريخ مجنحة وقنابل فراغية مخصصة لتدمير المخابئ … الخ.
ويبدو أن جنرالات الأركان الروسية انطلقوا من حقيقة ستفرزها نتائج العملية السيكولوجية لكي يتراجع المقاتلون الشيشان المتحصنين في العاصمة الى التلال الجنوبية بدون معركة. وسينهون بذلك المرحلة الثالثة والحاسمة. وإذا تم ذلك في وقت ما فقد تستمر المرحلة الرابعة بمطاردة المقاتلين في الجبال الى ما لانهاية.