الأربعاء، 9 يوليو 2008

كيف يصنع الأفغان الفرح ؟

أليست هذه أفكار جميلة
تستعاد كورود قديمة
في يدي عليل الحرب
س . ج . بيرس

الفرح هو القلب النابض لأي مدينة وشعب. وبدونه ستتخلى المخلوقات عن التفكير بالحياة و بوجوده يكون المرء خليق بالحب والمسير والرضا. هو الكفيل بانتزاع الأفئدة من التحجر وملك البهجة وزائر النشوة ولا يكلف أكثر من معرفته والاحتفال بقدومه ليتهادى ماسحا احمرار الحروب وزرقة الأحزان.
يضرب كابول الفرح برائحة ساخنة تلاطمت أمواجه في بادئ الأمر بشكل متطرف وكنكاية بسارقي السعادة. ومثل نار تتلظى هدأ الاحتفال بالتدريج ليتخذ له مستقرا ولو كان يمر من ثقب أبره.
والفرح في كابول كما في أي مكان ، يفتح ويغلق ويتوزع حسب الأعمار والرغبات والاهتمامات ، ولعله يطل على الناس ولو كمشهد يتلو الآخر وليس دفعة واحدة. فالقلوب التي خطفتها تعاليم الرجال الجوف بقت وفية للارتجاف والسمر والاختلاج.
الساعات تتحرك
ولتكن البداية كما قررتها الطبيعة ، للأطفال التي بدأت أيامهم تتحرك وساعات عمرهم آخذة بالتوافد في مدينة أرخت وجعها ونحّته في وعاء مهمل.
وطالما الحديث عن الفرح ، هل توجد ضرورة للتوقف عند أطفال الجبال الذين يعرفون اللحظة التي يعطش بها الحمار ، ذوو الأيادي المتشققة قبل أن تنمو من قلعهم النباتات البرية القاسية ، أصحاب الظهور الصلبة من حمل قطع الأشجار ، أو أصابع الندى العاملة في كراجات تصليح السيارات وتبديل الإطارات. الذين يمسحون لك زجاجة سيارتك بقماش وسخ، الشحاذون المهرة وطاردو الذباب من المقاهي ومحال الكباب ، الحمالون المتطوعون والحاملين وطأة الآباء الغائبين.
ولجمهرة أطفال حصلوا على كرة فرصة رفسها في ملعب اخترعوه على ناصية مقبرة أو ساحة أعدم بها بعض وجهاء الحي. أو الجلوس عند شمس متاحة والنظر الى المارة والتلذذ بزعيق السيارات. والأكثر همة يمارسون سعادتهم بصنع طائرات ورقية معدنها بقايا أكياس وعلب فارغة يستخدمونها كهاتف. وربما تكون ممارسة التزحلق على قشور الرقي ، الأكثر حركة من الترامي بالحجارة وسط البيوت الخربة.
الاقتراب من الطفولة
وكلما تقترب المسافات الى مركز كابول ، يدنو الصغار الى طفولتهم أكثر. هناك باستطاعتهم التجول في حديقة الحيوانات. وبالمناسبة اعتبرت حديقة حيوانات كابول بشهادة منظمات دولية مرموقة في يوم ما واحدة من أربع حدائق شهرة وسعة وتنوعا في آسيا.
غير أن الحثالة التي حكمت البلاد غارت من شعبية هذه الحيوانات فقامت بتصفيتها بطرق لا يستطيع أي حيوان ابتكارها : فهذا الذي يلهو بقنبلة يدوية مع أسد، وذاك الذي يعدم قرد لأن صديقه قال له بأنه أجمل منه وآخر يجرب السم بغزال نادر ورابع عجبه منظر ببغاء فأخذه لبيته ووجيه حلف بالطلاق أن لم يتعش رفاقه بلحم الجمل الوحيد في الحديقة.
مات الأسد وبقت القردة
وهكذا اختفت كل الحيوانات في واحدة من أكبر الحدائق في آسيا ولعلها أسدلت الستار عن سمعتها بشكل نهائي بعد وفاة أسد كابول في 26 يناير الماضي لتأثره بجراح أثر تطفل مجاهد أشوس داعبه بقنبلة يدوية.
بكى صديقه ومربيه كما لم يبك أبدا. وأقام لحضرة الأسد مجلس فاتحة داخل حديقة الحيوانات في الساعة الثانية ظهر 27 يناير بعد إتمام مراسم الدفن. حضرنا مجلس فاتحة الأسد الأخير وأدينا الواجبات بحضور أرق رجال المدينة وأكثرهم دفئا : مدير الحديقة التي لم يغادرها منذ 14 سنة ومربي الأسد الذي قال بأن عشرته معه كانت تبطل أحزانه وتزيل عنه ضجر الأيام.
قال مدير الحديقة وهو طبيب بيطري عريق بأنه يأمل في تطوير هذه المتعة الأكثر شعبية وأهمية لأطفال العاصمة والزائرين. وذكر وعد قدمته الأمم المتحدة لتطوير هذا المجال قدره نصف مليون دولار.

فرح متحرك
ولأطفال كابول وكبارها أيضا فسحة للهو فيما يطلقون عليه صالات الفيديو. وبصراحة فأن هذه الصالات لا تعدو كونها دكاكين تزهو بثمان أمتار مربعة فيها غالبا ، كرسيان أو ثلاثة ومنضدة عتيقة ينتصب عليها تلفزيون وفيديو لا يستطيع أي مخلوق مسّهما. والسعداء فقط يمكنهم الحصول على موقع في الكراسي الاستراتيجية ، أما الآخرون فتتزاحم أعناقهم أمام الشاشة العجيبة التي تعرض أفلام الكاراتيه والحركة والهندية. أما الألوان فتعتمد على نصاحة التلفزيون ، فهناك الأحمر والأبيض أو الأخضر والأبيض وفي أحسن الأحوال تظهر الألوان وتختفي مع حدة معارك الفيلم.
وللذين لم يستطيعوا دفع فاتورة الفيلم يمكنهم الجلوس على ناصية الدكان والاستماع لحوادثه الشيقة.
وتتطور " صالات " الفيديو مع الاقتراب من الأحياء " الراقية " في المدينة حيث تصطف فيها الكنبات بشكل متواز على طريقة المقاهي ، حيث باستطاعة المشاهد التهام الحَب واحتساء الشاي وغير ذلك.
وأطرف ما رأيناه في صالات الفيديو كان في مزار شريف وليس في كابول : فخلافا للرقابة في بلداننا التي يعمل بها المحظوظون وتعلو بناياتها أكثر من صناع السينما والفنون الأخرى ، يجلس الرقيب عندهم ممسكا بالريموت كنترول متحفزا حال ظهور لقطة فاحشة. ولا يقوم هذا الرقيب ( الأعور دائما ) ، بوقف تشغيل الجهاز ، بل يسرّع اللقطة. ويمكن فقط تصور تلك اللقطات " الفاحشة " خلال تسريع حركتها !



سينما للجميع
حسب الإحصائيات غير الرسمية كانت تعمل في كابول وحدها نحو 30 دار عرض سينمائي في السبعينات. وتقلص هذا الرقم ليصل الى 11 أيام حكم المجاهدين. وما أن وصل الطلاب حتى كان مصير هذه الدور معروف للجميع ومنها سينما شهرنو وسينما بارك وسينما ميللي وبري كود وجو بارك وخالد وغيرها : دمر البعض لأسباب بيئية فالطلاب يفهمون أيضا في هذه الأمور ، وحولوا القسم الآخر الى مطاعم وكل هذه الأمور مهضومة. ولكن أن يبنوا حائطا بطابوق الشعب على بوابة سينما فهذا لم يتصوره السابقون ولا يصدقه اللاحقون. فحتى لو فكرنا بطريقتهم ، أليس من الأجدر بدلا من إغلاق مدخل السينما بحائط ، تحويلها مثلا الى صالة لإلقاء المحاضرات الدينية أو المواعظ أو تجميع الناس بها للهتاف بالموت لأمريكا أو في أسوأ الأحوال تحويلها لإسطبل للحمير السائبة أو مهجع للنوم أو أية مصيبة أخرى. أي خلايا يحمل دماغ من ابتكر إغلاق مدخل بناية بحائط ؟!
في كل الأحوال ، ثمة داران للعرض الآن في كابول تتخصص الأولى في الأفلام الهندية والثانية بأفلام الكاراتيه والبوليسية والحربية وغيرها.
أما الزحام فخف كثيرا عن الأسبوع الأول من العودة الى هذا الفن. والتذاكر متاحة لمن لديه 5 آلاف أفغاني ( نحو 15 سنتا ).

معركة البوزكاشي
البوزكاشي مباراة للخيول يحبها الأفغان جدا. وتغص مدرجات الملعب عصر كل يوم جمعة بشكل يصعب العثور على محط لقدم مستقرة. ويمكن تعداد الدرجات الهوائية المصطفة بتوافق مذهل عند بوابة الملعب لمعرفة عدد المشاهدين الذين يقطعون مسافات طويلة للاستمتاع بمشاهدة هذه اللعبة التي حرمها طالبان لسبب غير معروف ، ربما يكون لمنع المراهنات مثلا.
ويوم البوزكاشي عصيب على القوات الدولية. فهم ليسوا بحمل تجمع جماهيري كبير كل جمعة. لذلك يوضعون هذا اليوم في حالة تأهب قصوى خشية من استغلال مجموعة من المتفرجين الجمع للتعبير عن احتجاج ما أو افتعال أعمال شغب.
وجمهور البوزكاشي في الغالب من الرجال الذين تعدوا الثلاثين ، ويدل ذلك على انتشار اللعبة في أوقات صباهم.
أما الفرق المتبارية فلا علاقة للحكومة المؤقتة بتشكيلها ، فهي تضم الفرسان الأكثر مهارة والذين يتجمعون في فريق واحد على أساس قبلي أو مناطقي وأحيان أخرى لأصدقاء يجمعهم اهتمام مشترك.
ولهذا السبب الذي قد يكون تكثيف تواجد القوات الدولية مرتبط به ، يلاحظ التعصب المبالغ به لدى المشجعين ، الأمر الذي قد يؤدي في أية لحظة الى مصادمات بين المشجعين فيما بينهم أو بين اللاعبين أو الجميع ضد الجميع فالخسارة عندهم في هذه اللعبة تشويه لسمعة القبيلة وتقليل لمهر نسائها ووصمة تاريخية تلحق بها. ونعتقد بأن حكم المباراة أختار لنفسه لمواجهة أي صدام محتمل أسرع فرس للهرب من ساحة المعركة في حالة اعتراض أي بوزكاشي على قراراته.
كرة الرجل
كان طالبان يعلنون للناس عن مباراة لكرة القدم في استاد كابول. وما أن يتجمهر الخلق لرؤية المباراة المزعومة ، حتى يطل أحد الخطباء لإلقاء خطاب لساعتين تعقبه حفلة إعدام وينتهي كل شيء.
هكذا بكل وقاحة يكذبون على الناس. والغريب أن هؤلاء الناس يتوجهون الى الملعب بالرغم من تكرار هذه المقالب بهم. ناهيك عن أن كل اللاعبين والفرق معروفة وغير خفية ، فيمكن التحقق من وجود مباراة أو عدمها من اللاعبين أنفسهم أو فرقهم. بمنطق آخر ؛ أن الناس الذين كانوا يحضرون حفلات الإعدام طواعية يتحملون قسطا من الذنب لتشجيعهم طالبان على الاستمرار في هذا الأمر.
ولأن الكرة الأفغانية أساسا لم يكن لها باع يذكر في هذا المجال ، إضافة لما حصل لهذه الرياضة ، فيمكن تصور المستوى العام لكرة القدم في البلاد. وفي كل الأحوال لا تزال تتمتع بشعبية كبيرة ، ولنقل ، أنها من وسائل الترفيه وامتصاص ضجر الناس.
إمكانات الفرق متواضعة للغاية وتذكرنا بالفرق الشعبية عندنا ، بل حتى أقل من ناحية المظهر. والطريف أن اللاعبين يصوبون أقدامهم دائما على أرجل المتنافسين وليس على الكرة. ويكاد صوت ارتطام الأرجل مع بعضها يسمع حتى المدرجات. والأغرب من ذلك كله ، أن " التكسير " قائم على قدم وساق بين الفريقين ، دون أن يسقط أحد أو يتلوى أو يقول آخ يا رجلي كما يفعل أصحاب الملايين من اللاعبين !
حراش وعشاق
الشبان المتنورون يتزاحمون في الغالب عند مراكز تعلم الكمبيوتر وتطوير اللغة الإنكليزية. وقد تكون هذه الأماكن الوحيدة مما ذكرنا التي يقترب منها الجنسان من بعضهما.
ربما تشعر أن عدد الفتيات أكثر في هذه المراكز من الشباب. ويحلو لجميع الأطراف التجمع عند بوابة هذه المراكز بالعشرات يوميا لتبادل أطراف الحديث والتحرش والتعارف والتواعد. ولا يوجد حرج ، طالما أنهن مبرقعات ويصعب على جار أو فتان أو فضولي ثرثار التعرف عليهن. فلهذا يأخذن راحتهن في التسامر مع الشباب الذين يعدون هذا اللقاءات هي الأكثر ترفيها للنفس من ممارسة أية هواية أخرى.
ويتطور الأمر أحيانا كثيرة حتى الابتعاد عن الجمهرة المحيطة بمراكز التعليم والانزواء بشكل بوليسي في حديقة مجاورة ، خاصة في تلك المراحل التي يتطور فيها اللقاء العادي الى عشق متبادل.
وهكذا ظهر أول العشاق في كابول بعد طول انطفاء بفضل الكمبيوتر واللغة الإنكليزية وافتتاح جامعة كابول وهم الأجمل كما في كل زمان ومكان.
محبو الصنف
مع كل محاولات طالبان التي كانت كلها تصل الى الإعدام ، لم تنقرض هواية تعاطي المشروبات الكحولية والحشيش وكل أنواع الشمّ. ومرة أصابنا رشح بسيط ، جلبوا لنا في مقهى عام ترياق وبعض حشيش وكانوا مصرين على أن هذه الوصفة الأفضل لعلاج الزكام أو الرشح !
أما المشروبات الكحولية فموجودة في الخفاء ( النسبي ) ، ويمكن الحصول على قنينتك المفضلة في أي وقت. علما أن كل أصناف المشروبات متوفرة في كابول والمدن الأفغانية الأخرى. غير أن شعورا بالغبن يتملكك حال سماعك أسعارها. فمثلا يصل سعر قنينة فودكا وفوق ذلك أوزبكية ( لأول مرة نسمع أن أوزبكستان تصنع الفودكا) الى 65 - 70 دولارا ، أي تزيد بنحو 35 مرة على سعر الفودكا الروسية الجيدة ! وينطبق الأمر نفسه على باقي الأصناف.