السبت، 12 يوليو 2008

هل يستجيب استقلال الشيشان لطموحات دول ما وراء القوقاز ؟

مع بداية الهجوم الروسي الثاني على الشيشان ظهرت في وسائل الإعلام الروسية مواد كثيرة مكرسة حول المساعدات التي يتلقاها المقاتلون الشيشان من أذربيجان وجورجيا. وأشار بعض القادة العسكريون الروس الى أنه توجد في أذربيجان قواعد عسكرية لتدريب المقاتلين للتصدي للقوات الروسية. وفي غضون ذلك يتم التركيز على تدفق الأسلحة والمقاتلين عبر الحدود الجورجية - الشيشانية. وذهب الكثير من المحللين الروس الى الاعتقاد بأن أذربيجان تساعد الشيشان لكونهم أخوة في الدين ويلتقون في محاربة " الكفار الروس " ! فماذا بخصوص جورجيا ؟
وعليه الى أي مدى تكون مثل هذه المعلومات صحيحة ؟ فإذا انتصر الشيشان على القوات الروسية ماذا ينتظر أذربيجان ؟ ألا يقع شمال القوقاز كله تحت نفوذهم ؟ هل لباكو مصلحة في انتشار أفكارهم الراديكالية التي قد تنادي بأذربيجان إسلامية فيما بعد ؟
الإجابة على هذه الأسئلة تساعد في فهم درجة دقة التصريحات الأذربيجانية والروسية الرسمية ( علما أنه ليست لأذربيجان أية علاقة بما دار ويدور في شمال القوقاز بما في ذلك الشيشان وتؤكد باكو دائما على وحدة وسلامة الأراضي الروسية واعتبرت نفسها معنية بذلك ).
وحتى بعد أن أكد قائد حرس الحدود الروسي الجنرال قسطنطين توتسكي ووزير الدفاع إيغور سيرغييف على أن الحدود الروسية - الأذربيجانية محروسة بشكل متين وقدما شكرهما للطرف الأذربيجاني على ما اتخذوه من إجراءات لمنع تسرب الأسلحة والعتاد و" المرتزقة " الى الشيشان عبر أذربيجان ، يتصور بعض المحللين ، استنادا لبعض المعلومات التي تسربها الأجهزة الروسي الخاصة ، بأن أذربيجان هي الحليفة الاستراتيجية للشيشان المستقلة. ويتوصلون الى نتيجة غير مدعومة مفادها أن الأمن القومي الأذربيجاني مرتبط بالأمن الشيشاني وليس الروسي.
ولكن البعض الآخر يرى بأن هزيمة القوات الروسية في الشيشان لن تكون عواقبه وخيمة على موسكو بفقدانها شمال القوقاز وبروز خطر تجزئة روسيا الاتحادية فحسب ، بل سيكون نهاية استقلال أذربيجان. ويعتقدون بأن انتصار " الإسلاميين " في شمال القوقاز يشكل خطرا كبيرا على أذربيجان أكبر منه على جورجيا التي رفضت مساعدة روسيا علنا. فجورجيا مسيحية ولا تهددها الأصولية ، ومن المستحيل تحويل الجورجيين المسيحيين الى وهابيين !
وأصحاب هذه النظرية يرون بأن أذربيجان سترى نفسها بعد انتصار الإسلاميين في شمال القوقاز بين دولتين إسلاميتين أصوليتين : في الجنوب جمهورية إيران الإسلامية وفي الشمال الدولة القوقازية الإسلامية. وستبدأ فورا في منطقتي أذربيجان الشماليتين
" ختشمازسكي " و " كورساكي " حركة الليزغينيين القومية وقد تنتشر هذه النار في كل البلد.
وأظهرت الأحداث أن ظهور نقطة ساخنة أخرى في حدود روسيا مع أذربيجان ليس من صالح موسكو أيضا. ولهذا السبب لن تؤيد روسيا الانفصاليين الليزغينيين ، غير أنها تستخدمهم بين الحين والآخر للضغط على أذربيجان ، كما تعاملت مع أبخازيا واستخدمتها للضغط على جورجيا.
وإذا ما بدأ الانفصاليين الليزغينيين ينشطون في شمال اذربيجان فأن نفوذهم سينتشر في مناطق داغستان المأهولة أساسا بهم.
ولكن هل تسمح موسكو بذلك بعد مرارة التجربة الشيشانية ؟ ويرى بعض الاستراتيجيين بأن إيران مهتمة بتفكك أذربيجان الراهنة. ففي حالة ازدهار أذربيجان الشمالية المستقلة فقد يطالب أبناء أذربيجان الجنوبية الذين يقدر عددهم حسب معطيات مختلفة من 18 الى 30 مليون نسمة بالاستقلال من طهران. ويفهم القادة الإيرانيون بأن الولايات المتحدة إذا نجحت في تمريغ سمعة روسيا في شمال القوقاز في وحول الشيشان فقد تسعى الى تفكيك إيران. وقد يستخدم الأمريكان في غضون ذلك سيناريو تفكك الاتحاد السوفيتي نفسه ؛ بمساعدة حركات التحرر الوطنية الساكنة في إيران في الوقت الحاضر.
غير أن استقلال كافة الأقليات القومية في إيران ليس من مصلحة الولايات المتحدة. فإذا حصلت كل قومية في إيران على استقلالها فقد يثير ذلك وفق " مبدأ الدومينو " كافة القوميات الأخرى في الدول المجاورة. وهذا يهدد بعواقب وخيمة كل من باكستان وأفغانستان المتعددتين القوميات أيضا وسيحولهما الى دول صغيرة. وستنتقل حمى الاستقلال بالتأكيد الى كردستان وسيسبب ذلك فوضى جيوبوليتيكية تعصف أربع أقاليم في العالم حالا : في الشرقين الأدنى والأوسط وفي آسيا الوسطى والهند الصينية.
والورقة الكردية ستسقط من واشنطن فورا في حالة استقلال كردستان الإيرانية عندما تنشأ مشاكل مع الدول الأخرى حيث سينضم إليهم أكراد العراق ( المستقلون عمليا ) وفي تركيا وسوريا ، الأمر الذي يهدد هذه الدول بالتجزئة. وهذا الانفلات الجيوبوليتيكي يتعارض تماما مع المصالح القومية الأمريكية.
والورقة الكردية غير مقبولة في الملعب الآن ، لأن سوء استخدامها من قبل واشنطن في هذا الوقت سيؤدي الى إلحاق الضرر بحليفتها الاستراتيجية والعضو في الأطلسي تركيا التي تشن منذ أكثر من عشرين عاما حربها ضد الأكراد.
لهذا السبب تغمض الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى عيونها من أعمال القوات الروسية في الشيشان كما فعلت مع القوات التركية التي أبادت الأكراد.
وفي هذه الظروف يبقى استقلال أذربيجان الجنوبية الأسلوب الوحيد لتفكيك إيران بالنسبة للولايات المتحدة. حيث ستتمكن من تحقيق خططها الجيوبوليتيكية الرئيسية فيما وراء القوقاز والشرق الأدنى وإقليم قزوين. وستبقى هنا بعد طرد روسيا من مناطق ما وراء القوقاز وقزوين. فروسيا مهزومة وإيران مقسمة وأذربيجان دولة موحدة فتية مستقلة ضعيفة وفقيرة يكون التحكم فيها أسهل جدا من إيران. ومخاوف طهران من أذربيجان المستقلة تنبع من هذه المقدمة.
وفي السياق ذاته يجدر الانتباه الى موقف إيران من أحداث شمال القوقاز. فمن مصلحة إيران انتصار الإسلاميين في شمال القوقاز ومن ثم في أذربيجان. وليس من المصادفة أن إيران استنكرت أكثر من أية دولة إسلامية أخرى وبسرعة بالغة العمليات العسكرية الروسية ضد الإسلاميين في داغستان وطالبت موسكو بالكف عن محاربة المسلمين في شمال القوقاز. وانطلاقا من ذلك فأن إيران هي المعنية بانتصار الشيشان أكثر من أذربيجان وجورجيا التي تتهمها روسيا بمساعدة المقاتلين الشيشان عبثا.
وتركيا هي الأخرى معنية بعدم الاستقرار في شمال القوقاز ، فأنقرة تغض النظر عن المساعدات التي تقدمها بعض المنظمات والصناديق والمراكز الثقافية للجاليات التركية للمقاتلين الشيشان. والمساعدات المالية تورد عبر تركيا بشكل مستمر. وترتبط مصالح أنقرة في عدم استقرار شمال القوقاز بالمقام الأول بتحقيق مشروع بناء خطوط أنابيب النفط المكلفة جدا والممتدة من باكو الى ميناء جيهان التركي. لأنه في حالة هزيمة المقاتلين الشيشان واختفاء تأثيرهم في الإقليم ستعود موسكو بأنبوبها الجاهز الى ميناء نوفوسيبيرسك وسيسقط مشروع خط باكو - جيهان غير المفيد من وجهة النظر الاقتصادية. لأن الخط الروسي أكثر ربحا ولا يتطلب نفقات إضافية ويستطيع نقل 15 مليون طن من النفط سنويا من أذربيجان الى أوربا. وقد تزداد قدرته بعد التحديث لينقل 25 - 30 مليون طنا من النفط سنويا.
وستبرز عدة ظروف أهمها الانتهاء قريبا من بناء خط أنابيب النفط من غرب كازاخستان الى ميناء نوفوروسيسك عبر مناطق روسيا الجنوبية المنفذ من قبل كونسورتيوم خطوط أنابيب بحر قزوين. وسينقل النفط الكازاخي بمسار هذا الكونسورتيوم. ويعلنون في كازاخستان بأنهم لا يتمكنون من نقل النفط المستخرج من الجرف القاري الكازاخي لقزوين عبر خط باكو - جيهان. علما أن أعمال التنقيب تجري في القطاع الكازاخي وحفرت الآبار الأولى والتي لم تؤكد على بوادر وجود النفط !
وهذا الظرف يضع مشروع باكو - جيهان تحت الشك. فإذا لم يعثر على النفط اللازم في القطاع الكازاخي فلا يوجد شيء يملئون به هذه الأنابيب لأن كمية النفط الأذربيجاني ( المشكوك أيضا بكميتها الكبيرة ) غير كافية لتغطية الاستثمارات الكبيرة التي ستوضع في المشروع !
واعترف رئيس شركة النفط الحكومية الأذربيجانية ناطق علييف بهذا وطلب من القيادة الكازاخية إعطاء موافقتها على نقل النفط الكازاخي بمسار باكو - جيهان.
غير أن كازاخستان لا تريد الاستعجال وتصرح كالسابق بأن النفط الذي سيستخرج ( لم يستخرج بعد ) من جرفها القاري سيسيل الى جيهان!
ولهذا السبب ، طالما لم تظهر تأكيدات على وجود كمية كافية من النفط لملئ الأنابيب في القطاع الكازاخي فمن المشكوك فيه أن يورط مستثمر غربي نفسه ويهدر أمواله لشراء نفط في البحر ! ووفق ذلك يمكن دفن مشروع باكو - جيهان عمليا. لذا فأن عدم الاستقرار في شمال القوقاز وفي محيط الخط الروسي الشرط الوحيد لبناء خط باكو - جيهان.
لكن موقف باكو من أحداث الشيشان لا يتعلق بالمصالح الشيشانية. لأن حالها كروسيا ، تعاني من تأمين سلامة أراضيها. فهي في صراع مع الانفصاليين في قره باغ الجبلية قبل ظهور حركة التحرر الشيشانية بقيادة جوهر دوداييف. وسترتبط الأحداث المستقبلية وطريقة حل مشكلة قره باغ في كثير منها على حل المشكلة الشيشانية. وقد يؤدي انتصار روسي في الشيشان الى منح حجة ما لباكو لاستخدام القوة في قره باغ.