الجمعة، 11 يوليو 2008

الحرب حتى بداية الحرب

أصبحت الحرب الشيشانية ، سلاح الدعاية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين . وسيعتزم القلائل على النكران بأن الحرب القوقازية المستمرة بدأت كحرب " مشروطة بمعاهدة ". ولا ينكر حتى الطاغوت المالي بوريس بيريزوفسكي القريب من محيط الرئيس السابق والتالي أن لديه اتصالات مع قادة الشيشان على أبواب التدخل الشيشاني غير المسؤول في داغستان. غير أن عقد المعاهدة مسألة وتنفيذها مسألة أخرى بالمرة. لقد خدع السياسيون الذين يتلاعب بهم رجال المال في موسكو القادة الميدانيين الشيشان بكل بساطة.
وعلى الأرجح أنهم اتفقوا على افتعال القتال في داغستان والمحاربة لبعض الوقت ومن ثم الانسحاب ليزيحوا الحكومة السابقة وينصبوا فلاديمير بوتين ويعطوا الجيش فرصة استعادة هيبته بعد الهزيمة في الحرب السابقة ويمنحوا الحكومة الجديدة ورئيسها شعبية أكبر. ومن الواضح أنهم في موسكو لم يتفقوا مع القادة الميدانيين على حرب واسعة النطاق كالتي حدثت.
وأصبح من المستحيل المحافظة على طابع ثابت لأية معاهدة من هذا النوع بعد أن اندفع عشرات الآلاف من الجنود الروس الى الأراضي الشيشانية. ومن الصعب الاتفاق مع كل جنرال روسي وقائد شيشاني على حدة. واستطاعوا في نوفمبر 2001 إيقاف الحرب لكن الجنرالات هددوا باستقالة جماعية الأمر الذي كان سيحرج الحكومة ويقلل فرص فوز حزب الكرملين في انتخابات 19 ديسمبر 2000 الانتخابية.
وبعد أن فاز " الدب " بالصيد البرلماني الثمين حاولوا إيقاف الحرب مجددا بإبعاد أهم الجنرالات في الجبهة تمهيدا لتقسيم مناطق النفوذ في الشيشان بينهم والقادة الميدانيين. غير أن القيادة الشيشانية أدركت خسارتها في هذا التكتيك وأرادت الرد الفوري على كل الضربات الموجعة تحت الحزام. وتلاشت فرص وقف الحرب مرة أخرى. وقد يتفقون فيما بينهم مباشرة من وراء ظهر الرؤساء كما حدث في الحرب السابقة. فماذا يعني أن تحمي المخابرات الروسية عائلة الرئيس أصلان مسخادوف وتسكنها في بيت راق في انغوشيا وتعد لمسخادوف شخصيا بيت ريفي في العمق الروسي.
وإذا أصبح القادة الشيشان ضحايا الخداع الأول فيبدو أن الجنرالات الروس سيكونون ضحية الخداع الثاني. وفي حقيقة الأمر كانت خطتهم في البداية شبيهة جدا بخطة الشيشان في داغستان ؛ نذهب لقتل بعضهم وإذا كسبنا سنحصل على الشهرة والأوسمة والمال.. وإذا خسرنا فسيسحبنا من الشيشان الساسة الذين سنلقي عليهم مسؤولية كل ما حصل. غير أن الجنرالات أخطأوا ولن يسحبهم أحد من الشيشان هذه المرة.
وثمة في تصريحات العسكريين نبرات تهديد من طراز " لن نسمح بإيقافنا ولن نسمح بالصلح " …الخ وهذه محاولات لتجميل سمعتهم الضائعة منذ الحرب الأولى. فالجميع يدركون بأنهم سينسحبون ما أن تصدر الأوامر من القائد العام.
ولا يحاول الساسة إيقاف الحرب وما زال الجنرالات يكررون : لن نسمح بهذا أو ذاك .. لماذا ؟ أليس من الأجدر تفسير هذه التصريحات بمعناها العكسي ؟ ألا تخفي تلويحا بالطلب : متى ستبدأون في سحبنا من هنا ؟
ويبدو أنهم خدعوا الجنرالات أيضا .. أرسلوهم الى الشيشان ولن يسحبوهم من هناك أبدا .. لقد فعلوا فعلتهم وغرقوا في بحر الدماء والثأر القوقازي ، دعهم هناك يحاربون ويقتلون حتى النهاية. وعلى هذا الصعيد تتوالى تصريحات الرئيس : الحرب في الشيشان شارفت على النهاية … ستبقى هناك فرقة واحدة تابعة لوزارة الداخلية للحفاظ على الأمن ،،، غير أن هذا الكلام بعيد جدا عن الواقع فما أن يبقوا هذه الفرقة حتى يلتهمها الشيشان في ليلة واحدة ويرجع كل شيء الى بدايته وكأن الحرب تسير نحو بداية الحرب !
الحرب الدعائية ونوعها الجديد غير مدفوعة الأجر بالدولارات بل بدماء الجنود والمدنيين وهي بالمناسبة أرخص لأصحابها. غير أنهم نسوا شيء واحد وهو أن الجيش قابل للتكييف على هذه الحرب الدعائية لبعض الوقت ولكن ليس لكل الوقت. فإذا كان من الواجب حل المهام الدعائية بأساليب ووسائل عسكرية فيعني ذلك أن المهام العسكرية نفسها ستفشل بلا شك. فالحرب ليست أسلوبا لحل المشاكل السياسية الداخلية وعندما تبدأ الأعمال العسكرية لأهداف سياسية داخلية سينتهي ذلك حتما الى الهزيمة وانحلال الجيش.
في عام 1996 تسنى لهم الإفلات من الحرب والنجاة بأرواحهم. وبالرغم من الكثير من العار ، الا أن بوريس يلتسين تحول الى صانع سلام وحصلت الصحافة التي كانت تفضح هذه الحرب على فرصة لتمجيده على نطاق واسع. ولكن لا أحد يستطيع أن يلعب هذه اللعبة مرة أخرى ومعروفة عواقب النزول في النهر مرتين لأسباب غير غامضة : أولا ، لن تستطيع الصحافة التي يسيطر عليها الكرملين بالكامل تكرار حملتها السابقة دون أن تفقد سمعتها تماما. ثانيا ، بوتين ليس بيلتسين حيث كانت للأخير مساحة كافية للمناورة. بينما توجد ورقة واحدة لبوتين يكرر استخدامها بلا ضجر وهي وعوده بـ " القضاء على الإرهابيين حتى في التواليت " ( تصريح شهير لبوتين ! ). في هذا التصريح تكمن كل أيدلوجية بوتين وفي الوقت نفسه سر كل شعبيته.. لذلك ليس لديه المتسع بالتراجع ولن يصدر الأوامر بالانسحاب من الشيشان وإذا فعلها فيجب أن يترك الكرملين فورا.
أن استقالة يلتسين قبل انتهاء فترة ولايته تدل بالإضافة الى ما تدل على أن الحالة في الشيشان سيئة جدا في الحقيقة. وحتى الانتصار الصعب في مثل هذه الحروب غير المتكافئة هو هزيمة حتى بالمفهوم العسكري البحت.
أن الكذب الذي تمارسه الشخصيات الأولى في الدولة في روسيا الراهنة لم يسبق له مثيل حتى حسب المعايير السوفيتية. ومع ذلك يستشهدون بتصريحات بوتين باستحسان. ويتظاهرون في غضون ذلك أنهم يصدقون. ويبدو أن الكرملين أخذ يصدق كذبته وأن القبول الشعبي أمر واقع بالرغم من أن هذا القبول صنعه الكرملين بنفسه. وفي الواقع أن التأييد الشعبي للحرب مجرد أسطورة دعائية كتلك الأسطورة التي تحكي عن الانتصارات العظمى في الجبهة. وفي غضون ذلك أخذوا يصدقون أسطورة أخرى تتحدث عن الدولة القوية التي وعد بوتين بإعادة إنشائها .. هكذا ببساطة ! وأصبحت نتائج الانتخابات البرلمانية و بالأدق فوز الأحزاب التي أيدت فلاديمير بوتين وفشل حركة " يابلكو " التي كانت الوحيدة التي انتقدت أعمال العسكريين ولو بحياء بالإضافة الى تصريح يتيم ليوري لوجكوف زعيم " الوطن " حوله الى خائن لهذا " الوطن " تأكيدا واضحا لهذه الأساطير.
ويحاولون حتى هذه اللحظة التصوير بأن كل شيء يسير على ما يرام. غير أن ثمة مسألة لا يمكنهم السيطرة عليها وهي أن الحرب في الشيشان هي جزء من النظام العام وفشل الحملة سيفاقم التدهور الاقتصادي الذي عزفوا عن التحدث فيه منذ فترة طويلة ، والعامل الاقتصادي سيقترب حتما الى الاختناق الذي حصل في عام 1998 - 1999 وستبرز مشاكل جديدة بفضل تخفيض قيمة العملة الوطنية وتقليص الاستيراد وانعدام الاستثمارات. ولكن هذه المشاكل طمرها الارتفاع في أسعار النفط الأمر الذي ساعد على المحافظة على بيانات إحصائية سليمة.
وتبقى سلطة الكرملين كبيرة من الناحية الشكلية فحسب ، وطالما لم يكتل بوتين جهازه ستكون سلطته اسمية وما لم يتم إعادة السيطرة على الشركات الكبرى مثل " غاز بروم " و " سيبنفط " و " منظومة الكهرباء الموحدة " وغيرها من أوكار الطغمة المالية لن تتوفر أموال للكرملين لكي ينشأ " الدولة القوية " التي وعد بها.
هكذا ستستمر روسيا بغسل دمائها في الشيشان ، لابسة تاج من أشواك الأستقلال على أرض الرهبة والقبور والأطفال المغروزين في التراب بانتظار السكن في الحلم القديم.