السبت، 26 أبريل 2008

السونيتة العراقية







بغداد - د.جمال حسين علي:

ما دام في بغداد رمق، سيسري زفير المدينة عبر شهيق أزقتها النافخة فيها الحياة بمجرى الخطى الحاثة انفصامها عند البوابات المطلية بكحل القرون الماضية ليتوقف نشيدها عند 'جديد حسن باشا'، ذلك الحي الهرم المنحصرة فيه نصف حكايات المدينة وصناع إرثها وتاريخها، فيما شاء الزمان تسميته ونعته، في الأصول والحواس، في المقام الذي لا ينقطع وتلك الأوتار المنسجمة مع خيوط الأحلام.وما دام في بغداد رمق، ستهديكم الطراز الخاص من النغم والنشيد والسماعي الصافي ومضاعفة النوتة الآسرة حيال الكلام الدخيل ومضادات الأشجان وعذابات الليل والنهار، اتفاق فيما بين أوجاعها وهزلها، سيل يهيئ هواء أنقى للرئة وطواف شدو يحيي القمر على أكتاف شناشيلها البائدة ورفاهية الأصدقاء الوحيدة في الانضمام وراء الهيكل العظمي لموسيقى ما عادت تغار منها الشفاه ولا تفور عند التقاطها الدماء ولا تؤجل بمقبلها 'سوالف' العصافيرِستنجلي الغمة ما أن تغرق الأرض بالموسيقى والسحر الموافق على سدادة دقات آلة العجائب، الآثمة حد تحريك الحجر وتهدئة خواطر الملوك المهزومين والأمراء المحاصرين والرؤساء المخلوعين، ستنجلي لأن ما زال في بغداد رمق وشبان يصنعون النغم.التدحرج في بغداد القديمة في ساعات لم تعد تغزل ناسها ولا صيحات الجيران المتبادلة في عز ظهيرة صيفية شاقة، يخلق لحظته المنتقاة في الجادة وشقيقاتها التي لم يسكن فيها غير الباشوات والوزراء واليهود، لذا كان منطقيا أن يسموها 'مدينة الوزراء'، تلك الأحياء من بغداد القديمة التي ينام فيها جمر الأركيلات مع زهور الشرف الخشبية المضيئة بفوانيس الباحات ومتلونة بزجاج تعدى مراحل شبابه منذ دهور. مرتابة تلك الأزقة التي تلطم زاوية منها انحناءات لا تنتهي وتمايل جدران الدور العتيقة للغاية وأصداء أرواح منفوشة وعمال مختلفين وإعلانات لا تعبر بالضرورة عن شيء وبوصات معدودة ناشفة من طفح المجاري وعربات تصل السكون بالسكون لكي يدلك رجل لا يأبه بأي سؤال عن أولئك الذين أطربوا الأمة برمتها، ضئيل لم يحلق لحيته منذ سقوط الملكية، وكأنه في بوابة الردهة التي ما أن تدخلها، حتى ترافقك النغمات التي تنهي ضياعك لتضيق بك السعادة حين تقرأ بفرح لا يلين، أنك هنا وليس في مكان آخر، هنا حيث لا يزال علىقيد الحياة: صناع العود!
الصناع الأمهر
لم يقل أحد منهم بعد حوار يومين متصلين كاملين تخللتهما سهرة عزف مع أشهر العوادين في العراق، بأن الزمن لن يظفر بواحد مثله، ذلك العواد الذي سيتردد اسمه كثيراِسردها مفصلا حكاية العود العراقي، نجم العبيدي احد أشهر العوادين والمصر على ممارسة هذه المهنة التي يقول بثقة كاملة بأن أحدا لا يستطيع منافسة العراقيين فيها. بدأ تاريخ دخول العود في هذا الزقاق ومنه الى كل العراق بفضل علي العجمي وهو تركي خلافا لما يوحي به لقبه (تم تسفير ابنه الى إيران اعتمادا على اسمه وهو الآن عازف شهير في لبنان)ِ كان شبه إجماع لمن حدثونا عن ريادة العجمي لصناعة العود المعاصر في العراقِوفي العشرينات تألق العجمي ونجم الدين والموسيقار الشريف محيي الدين حيدر الذين كانوا أساتذة العواد الأشهر من بينهم على الإطلاق: محمد فاضلِ وجاء من بعده هاشم البغدادي و فوزي منشد في الزبير وجميل جرجيس في الموصل، لقد بقي محمد فاضل في هذا الزقاق حتى وفاته بعام قبل السقوط مستلما أسرار المهنة ودهاليز حياكتها من نجم الدين صانعا نحو 5 آلاف عود في حياته الحافلة بالنجوم وأكبر الموسيقيين في تاريخ الفن العربي. ومحمد فاضل لم يصنع العود فحسب، بل اشتغل في صناعة آلات القانون والسنطور ، لكنه في العود كانالأستاذ الأول، ليستلم ولده فائق الذي يصنع الأعواد في بيته الواقع في حي أور في بغداد، أسرار هذه الصناعة من أبيه الذي كان محمد القصبجي ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش ووديع الصافي ومنير بشير لا يعزفون إلا بالعود الذي يوقع عليه محمد فاضل الذي لا يزال ولده الآخر يمارس المهنة نفسها، لكن في تونس.
شجرة الأسماء
يعتبر أبرز صناعي العود في العراق الآن هشام الهاشم وفؤاد جهاد وأياد صالح منصور (الأسود) والأسطه علي وفوزي منشد وشوقي العواد ونجم العبيدي ونجم عبود وصالح علوان الصالح ونجاح البغدادي لكي يبلغ عدد من يصنعون العود الشرقي الجيد في العراق 15 صانعا محترفا. وزبائنهم من أشهر الفنانين وعازفي العود في العالم العربي كنصير شمة وكاظم الساهر وصباح فخري وعباس جميل واحمد المختار ومحمد عبده وعبادي الجوهر ورضا العبدالله وكريم منصور وعبد المجيد عبدالله و قحطان العطار اضافة الى عدد كبير من العازفين العرب والمحليين. وأغلب صناع العود من المذكورين، لا يبيعون بشكل مباشر من ورشهم، وتتكفل في الغالب معارض ومحلات بيع الآلات الموسيقية وشركات تجارية مهمة عملية 'التسويق' داخل العراق وخارجه.
صندوق العجائب
شرح نجم العبيدي بمشاركة أحمد العبدلي، الطريقة التي يصنعون فيها العود معتبرين أنها مراحل متنوعة ومختلفة تستخدم فيها أنواع نادرة من خشب السيسم الأسود اللون والأبانوس والصندل والزان والرارنج والمهوكني والجاوي والتي تستخدم عادة بتشريحها بشكل قطع لصنع 'الطاسة' وهي ظهر العود المقوس. أما وجه العود فيعد أهم قطعة في هذه الآلة الموسيقية ويؤكد العبيدي أن شهرة محمد فاضل جاءت من الوجه وليس من شيء آخر فهو كان يشتري الطاسة لكي لا يجهد نفسه بها ويعتبر أن صوت العود واختلاف أصوات عودينوعدم تشابه أي منهما مع الآخر يعود الى طريقة صنع الوجه الذي يعتمدون في حفره على خشب 'الجام' وخاصة إذا كان فنلندياِ لكنهم يعثرون عليه الآن بواسطة تفكيك أثاث قديم أو من صناديق الشاي القادمة من الهند ويروضونها بطريقة معينة لكي يخرجوها بالشكل المناسب بإضافة زخارف ونقوش على الوجه. أما 'زند' العود (يده) فيصنع من السيسم الهندي ومجموعة بيت مفاتيح الأوتار فيعملونها بطرق النجارة الدقيقة التي يسمونها 'الجراخة' من خشب الزان لكونه قويا باستخدام آلات نذكرها كما يسمونها: التورنة، الرنده، الطيارة، البالونية وطاولة التسكاة التي يصنعون العود عليها وأصباغ السبيرتو دملوك.
ويشدون حاليا أوتارا عادية في العود، بعد أن كانوا يستخدمون أوتارا خاصة مغلفة بالحرير هي ال'توماستك' النمساوي وال'برمت' الألماني والألمانية ذات الهرم. ولم تصل الى العراق هذه الأنواع من الأوتار منذ الثمانينات، لذلك يصنع لهم أحمد عارف (عازف ناي وصانع قانون) من أسلاك الكهرباء التي بداخلها حرير، فيما الأوتار الحديثة الآن تصنع من النايلون السميك المبطن بالحريرِ ولتجاوز هذا النقص، ضحك العبيدي بمرارة حين أرانا لفافة أسلاك تستخدم لصيد السمك وسكت دون أن يعلق!تتبعنا كل مراحل صناعة العود بشكل مباشر وأمامنا كانوا ينتجون العود من مرحلة صناعة الطاسة والوجه وتثبيت المفاتيح وانتهاء بصناعة الغزال على الوجه لكي تثبت عليه الأوتار وأخيرا يصبغونه بالسبيرتو دملوك بمساعدة أوراق خاصة.وأحجام العود مختلفة حسب نوع قوالبه: الصغير والمتوسط والكبيرِ والعود ذو القالب الكبير يعزف عليه الفنانون الكبار ويحبه الخليجيون.
أسرار الوجه
وعن أسرار وجه العود الذي يعتبرونه روح الصوت وجوهر النغم، يقول العواد صالح علوان الصالح ان السر يكمن في الجسور التي يتكون منها الوجه.فالوجه ليس خشبة واحدة وليس أيضا من النوع نفسه من الخشب وترص الجسور مع بعضها بطريقة خاصة وتلتئم مع بعضها البعض بطريقة تظهر وكأنها خشبة واحدة. ورشة الصالح افتتحت في عام 1922 بالقرب من سوق السراي ووالده من جيل محمد فاضل ويؤكد على أنه صنع العود قبله أوقات سلمان جورج الذين يشكلون مع علي العجمي ثلاثي صناعة العود المعاصر في التاريخ الموسيقي لهذه الآلة.ويؤكد الصالح أن الأعواد الممتازة التي صنعت في العراق كانت بأيادي اليهود لكونهم موسيقيين بارعين، مشيرا الى أن اغلب الموسيقى العراقية التراثية هي نتاج الملحنين من اليهود العراقيين منذ وقت صالح الكويتي وناظم نعيم الذي كان يعزف لناظم الغزالي وغيرهم الكثير جدا.
المحل المدرسة
محلات صناعة العود الخمسة في 'مدينة الوزراء' تعلم العزف أيضا لمن يرغب ويمكنهم ضمان تعلم العود بعشر جلسات خلال شهرِ ويشير صالح علوان الى أن على هذه الأريكة جلس كاظم الساهر وعزيز الرسام وتعلموا هنا وكانوا يأتون ويجلسون هنا يوميا قبل أن يذهبوا الى الإذاعة والكثير من مطربي ومطربات التلفزيون.
التميز العراقي
وعن أحقية الادعاء بأن العراقيين أفضل من يصنع العود في العالم يقول صالح علوان أن هناك إجماعا على هذا الشيء حتى من قبل منافسيناِ ويستطرد في شرح المعادلة: الطاسة - صنعة والزند - علم والصوت سر. موضحا أنهم أخذوا الصنعة أبا عن جد ولم يفرطوا بها ولم يصنعوا أكثر من عود واحد كل عشرة أيام لكي يعتنوا به، خلافا للورش في سوريا ومصر ولبنان وغيرها من الدول التي تصنع 20 عودا في اليوم لأغراض تجارية: 'هناك ستة عوادين في كل ورشة يصنعون الأعواد على السريع، بينما نحن في كل العراق لا نتجاوز عدد الأصابع'ِ يؤكد أن هذا الذي يجعل صوت العود العراقي يتفوق على 'أصواتهم'ِ ولا يعتقد بأن الوتر السادس أو العزف بيد منفردة 'إنجازات علمية'، بل دخلت لتسهيل العزف وتطوير العود لكي يعطيك 'ضربات غربية'.
تجارة الأصوات
المحال المتهالكة القدم والتي يحافظون فيها على صناعة العود تقل يوما بعد آخرِ فالإقبال الكبير شهدوه بعد السقوط بأسابيع وخلال أشهر فقط حيث كان زبائنهم يصلون من العراقيين في الخارج والأجانب وكذلك من العرب الخليجيين الذين يحبون العود العراقي.
غير أن هؤلاء اختفوا مع تصاعد التوتر وغياب الأمن وفقد الصناع أهم زبائنهم، فالعراقيون العاديون لا يفكرون في شراء عود، إلا إذا كانوا يمتهنون العزف والعود في البيوت ليس تقليدا عاما. انحدر سوق العود بغياب الأجانب والعرب والمغتربين في كل الأحوال وأثر ذلك في الأسعار أيضا التي تتراوح الآن من 100 دولار الى ألفين، عدا أعواد الخمسينات والستينات التي تميز بها محمد فاضل والتي يصل سعرها في محلات بيع الآلات الموسيقية من 3 - 5 آلاف دولارِالتلميذ والدرس في ركن من محل العود المظلم نهارا، جلس محمد فريق الذي يدرس العود في أكاديمية الفنون الجميلة والذي يعتز جدا بأستاذه الموسيقار العراقي طارق حسون فريد ليعلم رجلا يكبره كثيرا عزف العود. لم يهمهما الحر ولا أصوات 'جراخة' طاسة العود وتلميعها ولا رائحة الصبغ ولا فلاش الكاميرا، كان الفتى يعلم الرجل حب العود ونسمعه يداري كلماته حين يقول له: حن على العود يحن عليك، احضنه يحضنك، كلمه يكلمك. في مقابلهم عزف أمجد عبد معزوفة بغداد لمنير بشير أجابه محمد فريق بمقام سماعي دشت لسلمان شكر ومن ثم اسمعنا الاثنان معزوفة سولاف لغانم جواد، وبعدها سماعيات لنصير شمة وعصفور الطاير لمنير بشير ولم يسكت العود طوال المساء، بلوغا لما أبدعه سيد مكاوي وعمار الشريعي وجميل بشير وعلي الإمام والشريف محيي الدين حيدر وربما زرياب أو أي عازف سومري مجهول، في ذلك الحي البغدادي القديم الذي لم يسكنه غير الباشوات والوزراء في الجادة المطرزة بكيمياء السماء والمنداة بلمعان صباح جديد سيقبل، تتفطر قلوبنا جدا اشتياقا إليه.
العود والعوادون
ظهر العود في العراق القديم وفي العصر الأكدي تحديدا في الفترة ما بين 2350 - 2150 قبل الميلاد. واستخدم عرب الجاهلية آلة المزهر وهي وترية تشبه العود وجهها من الرق وأبرز عازفيه في هذا الزمان سعيد بن مسجح و وابن جامع وحبابة وسلامة وابن السريحِ واستمر الأخير في عزف العود في صدر الإسلام أيضا. وعزف ابن الحارث في عهد الخلفاء الراشدين. وفي العصر الأموي اشتهر العازف والمغني سائب خاثر مستعملا العود المصنوع من الخشب ووجهه من جلد الماعز وكان الخليفة عبد الملك بن مروان عازفا جيدا وملحنا ومشجعا للموسيقى وكذلك الحال بالنسبة للخليفة الوليد بن يزيدِ وفي العصر العباسي عرف اسحق الموصلي وإبراهيم بن المهدي واسحق الكندي ومنصور زلزل وتميز من بينهم زرياب (ابن الحسن علي بن نافع المهدي العباسي) عازفا وملحنا قبل أن تدفعه غيرة هارون الرشيد الى هربه الى الأندلس وتأسيسه أول معهد لدراسة الموسيقى في تاريخ أوروبا. وفي الأندلس كان قصر الخليفة محمد الثاني يصدح بمائة عود يوميا والخليفة المعتمد كان عازفا ومغنيا وملحنا وكذلك أبن عبيد الله. وكان زرياب أول من أدخل خيوط الحرير في صناعة الأوتار (الرابع والخامس) بينما الأول والثاني والثالث من أمعاء شبل الأسد لكونها تملك أصواتا صافية جهورية أضعاف ما في الحيوانات الأخرى (زرياب أدخل الوتر الخامس أصلا). وعزف على العود علماء أفذاذ مثل الكندي والفارابي وأبن سينا وصفي الدين الأرموي البغدادي واستخدموهفي شرح النظريات الموسيقية، اسمه العربي العود ويعني الخشب، لكنه اشتهر بتسميات أخرى مثل: القرطبة، المعزاف، الموتر، ذو الزير، ذو العتب والكران فيما يسميه الأوروبيون القدامى "لوت".
العازفون الأشهر
لا يشترط بصانع العود الماهر أن يكون عازفا بالدرجة نفسها، فلم يشتهر في العزف أي من صناع العود الذين يؤكدون أنها كالصناعة تماما، فلم ينجب بلد عازفين كالعراقيين واستثنوا تاريخيا من هذا الادعاء فريد الأطرش ورياض السنباطي فقط. وباعتقادهم يعتبر أفضل عازفي العود في تاريخ هذه الآلة هو علي الإمام والفريد جورج الذي طور العود بإضافة الوتر السادس المسمى 'قبادوكا' أو الوتر المثخنِ (الكثيرون يعتبرون أن جميل بشير فعلها قبله). أما الأشهر عالميا فهو منير بشير وكملحن وعازف محمد جواد أموري ومن المعاصرين النشطين الآن نصير شمة وأحمد المختار ومعتز محمد صالح وسالم عبد الكريم وسامي نسيم وعمر بشير وروحي الخماش وخالد محمد علي (كلهم عراقيون)ِ ومن العرب برز اللبناني شربل روحانا والمغربي ادريس المالومي والأردني ايلي خوري والسوري عصام رافع.