الأربعاء، 27 يوليو 2011

حقيقة أزمة اتفاق نقل السلطة إلى العراقيين

عندما وقع رئيس سلطة التحالف بول بريمر ورئيس مجلس الحكم للدورة الفائتة جلال الطالباني اتفاق نقل السلطة الى العراقيين بما يتضمنه من قانون إدارة الدولة ومصير القوات المسلحة الأجنبية في العراق، وصلاحيات السلطة الانتقالية أو الحكومة المؤقتة وكيفية تشكيلها وكذلك الاتفاقات الأمنية وطريقة اختيار المجلس التشريعي أو ما أطلقوا عليه المجلس الوطني وآلية سن الدستور، كان بريمر قد عاد توا من واشنطن، فيما هرع أعضاء المجلس المسافرون كالعادة، للحضور الى هذا الاجتماع المنعقد في 15 نوفمبر والذي قدر له أن يسفر عن اتفاق، تملص من كان يشارك فيه من بنوده ما أن أطلق المرجع الديني السيد علي السيستاني فتواه بشأنه والتي شابهت، الى حد كبير، تلك التي أطلقها بعد إعلان تشكيل هيئة دراسة آلية إعداد الدستور والتي يمكن حصرها في موقفه القاضي بضرورة العودة الى الشعب لكي يعطي رأيه بالقرارات المصيرية التي تخص مستقبلهِ
والمعروف ان المراجع الدينية العراقية كانوا دائما وفي أقسى ظروف القمع التي شهدتها الساحة السياسية العراقية في العقود الأخيرة، يضعون الثوابت الأساسية في نظر اعتبارهم ولا يحيدون عنها ولم يسجل لهم موقف متردد أو خانع واحد، وكلفهم ذلك قافلة طويلة من الشهداءِ
فحوى الفتوى
السيد السيستاني لم يأت بجديد عندما طالب المعنيين بعدم القيام بشيء يخص الشعب داخل الغرف المغلقة مطالبا بأن يعلنوا كل شيء واشترط موافقة الشعب عليه وأن وطنية أي منهم تقاس بقدر خروجه من الشعب، كما قال مؤخرا لوفد مجلس الحكم لدى استقباله لهِ
والوثيقة التي تقدم بها سماحته ركزت على ضرورة إجراء انتخابات عامة في الربيع المقبل لاختيار أعضاء المجلس المفترض به أن يشكل في مايو المقبل الحكومة المؤقتة التي يفترض أن تستلم السلطة من قوات التحالف في يونيوِ
ونصحت وثيقة السيستاني المعنيين بإجراء الانتخابات على أساس ما يعرف ب 'البطاقة التموينية'، واقترح على اجراءها في المناطق الآمنة التي تشكل 80 % من مساحة العراقِ
وعن الدستور أكد السيد السيستاني على ضرورة 'المحافظة على الهوية الإسلامية لأي دستور مقبل في العراق' وأن لا تتعارض القرارات الصادرة مع مبادئ هذا الدستور، مع ضرورة أن 'يتحمل العراقيون قضية الأمن في بلادهم ومنح دور واسع للشعب في تولي الحكم ليعوض مدة الاضطهاد والإبعاد التي عانى منها بكل طوائفه وفي كل مناطق البلاد'ِ
هذا الرجل!
هكذا، فأن السيد السيستاني ليس 'هذا الرجل'، كما يصفه مرة بريمر ومرة أخرى الرئيس جورج بوش، ويمعن الرجلان في جهلهما لواقع الحال في العراق عندما يصرحون بكل ثقة: 'كان علينا أن نأخذ آراء هذا الرجل محمل الجد'ِ
ويفهم الشعب العراقي مواقف السيد السيستانيِِ مواقفه كلها وليس فتاواه المطبوعة، فهو للآن لم يوافق على استقبال أي أميركي، رئيسا كان أم صحافيا، وحافظ على تقاليد علاقته بالصحافة، عندما يجيب على أسئلتهم تحريريا كما فعل لمرة واحدة فقط مع 'واشنطن بوست'ِ
في عنق الزجاجة
تاليا، وضعت فتوى واحدة للسيستاني أبطال اجتماع 15 نوفمبر والاتفاق الذي خرجوا أو أخرجوا به في عنق زجاجة ارتضوا لأنفسهم الدخول فيها بلا حساب دقيق لواقع الحال العراقي الراهن الذي لا يشبه بالتأكيد، ذلك الحال الذي أعقب سقوط النظام بأيامِ فلا المرجعية ولا الشعب ولا الكثير من الأحزاب يمكن أن توافق على تحمل مسؤولية هذا " الحال الموجع " الذي تمر به البلاد، بناء على أخطاء أو ظروف موضوعية بالغة الصعوبةِ
لجنة تولد لجانا
بعد أن قال السيستاني كلمته، توالت اجتماعات مجلس الحكم لثلاثة أيام بلياليها ليخرجوا بقرار متوقع وهو تشكيل لجنة تقع على عاتقها دراسة 'أفضل السبل لاختيار مجلس تشريعي مؤقت'ِ
ما الذي يمكن أن تفعله هذه اللجنة؟
أول ما فعلته هذه أنها شكلت أربع لجان! ونسوا المثل القائل: 'إذا أردت إفشال مسألة، شكل لحلها لجنة'ِ
هذه اللجان الأربع قالوا أنها 'ستعالج استحقاقات المرحلة المقبلة لنقل السلطة بموجب الاتفاق الموقع بين سلطة التحالف ومجلس الحكم' وهي كالتالي:
الأولى، ستتولى اختيار الآلية المناسبة لانتخاب أعضاء المجلس الوطني الانتقالي (نعتقد بأنها ستنتخب أعضاء المجلس المذكور)ِ
الثانية، ستتولى مشروع كتابة مسودة قانون إدارة الدولة في المرحلة الانتقالية (ستكتب قانون إدارة الدولة، وقالها غازي الياور عضو المجلس بأن المجلس اختار مجموعة من الخبراء القانونيين فضلا عن بعض أعضائه لكتابة قانون إدارة الدولة في المرحلة الانتقالية)ِ
الثالثة، العمل مع سلطة التحالف والمؤسسات غير الحكومية لوضع آليات قانون الانتخابات (ستكتب قانون الانتخابات وتم المباشرة في هذه المسألة وفق الآلية في البند أعلاه)ِ
الرابعة، ستنسق مع سلطة التحالف بشأن المجالس البلدية في المحافظاتِ (ستنتخب أعضاء المجالس البلدية بناء على مبدأ 'التوافق' الذي اخترعته السياسة العراقية الراهنة)ِ
ملاحظة: ما وضع بين الأقواس الكبيرة، نتوقع أن يقوموا به ولم يذكرون لأسباب حقوقية ـ سياسيةِ
فتوى وليست اقتراحات
اللجان الأربع أعلاه أرادوا من خلالها مراعاة دعوى السيستاني، الذي أكد على إجراء انتخابات على كل شيء: ممثلي المجلس التشريعي وأعضاء هيئة الدستور والحكومة وغيرهاِ
لكن أعضاء مجلس الحكم يدركون بأن أعضاء المجالس المحلية في المحافظات عينوا من قبل سلطات التحالف، كما تم تعيينهم أيضا في وقت سابق من شهر يوليو الماضيِ فكيف سيجدون الحل الذي يرضون بالسيستاني (وليس بالتأكيد الشعب، فهم تذكروا الشعب بعد أن ذكرهم به سماحة السيد) وفي الوقت نفسه يرضون به سلطة التحالفِ
ومن غير المشكوك فيه أن أحدا في مجلس الحكم لا يريد إجراء الانتخابات، فبعضهم سيفوز على الأرجح، لا سيما أولئك المستندين على أحزاب قوية، لكنهم سياسيون براغماتيون، يدركون بأن إجراء الانتخابات مسألة تواجهها صعوبات جمة، يرددون أن أهمهما غياب إحصاء سكاني دقيقِ
فالاجتماع الأخير الذي عقده مجلس الحكم يوم الأربعاء، دعا سلطة التحالف الى تسليم الملف الأمني الى العراقيين، كما دعا إليه أربعة رؤساء لمجلس الحكم قبل عبد العزيز الحكيم الذي ترأس الدورة الحاليةِ
لقد انتقدوا في اجتماعهم الأخير ما آلت إليه الأوضاع في سامراء بعد سقوط عدد من الأبرياء المدنيين صرعى عملية 'المطرقة الحديدية' للاميركيين، وراقبوا بلا حذر من أعضاء المجلس، لا سيما موفق الربيعي الذي 'استبشر خيرا' عبر فضائية معادية للمجلس بنتائج عمليات الحويجة والدبس في ضواحي كركوكِ
وهكذا فأن الدعوة في نقل الملف الأمني التي كررها خمسة رؤساء للعراق الانتقالي، جوبهت بمطرقة حديدية على رؤوس الخلق في وسط وشمال البلاد، وكأن الأميركان يمعنون أكثر فأكثر في 'صناعة المقاومة' العراقية التي لا نشك كمراقبين، بأنها جاءت في جوانب منها، نتاج أخطاء مريعة ارتكبتها قوات التحالف وقيادتها السياسيةِ
كساد وركود
لقد مر مجلس الحكم بفترة كساد، استمرت من أغسطس وحتى نهاية نوفمبر، بمعنى: غياب أي فعالية سياسية مؤثرة في الساحة العراقية، ولا نعتقد بأن المسألة مرتبطة بشعبية هذا أو ذاك من الرؤساء الذين تعاقبوا على المجلس، فكلهم متفقون على الثوابت ولم ترصد حالات تناقض مباشر فيما بينهما في المسائل الأساسية، لكن الكساد الذي أعقبه الركود في الوضع، بالتوازي مع اضطراب فظ للوضع الأمني والاجتماعي والاقتصادي والخدمي، وضع مجلس الحكم ومن معه في زاوية لا تليق بتاريخ تلك الأحزاب المنضوية فيه وسمعة الشخصيات الأخرى الممثلةِ
لذلك لم يفاجأ عراقي واحد بورود بند يقضي بإلغاء مجلس الحكم ما أن تشكل حكومة انتقالية، فقد مر وقت على العراقيين نسوا فيه هذا المجلس وأعضاءه وتندروا عليه كفاية واختتموا هذه العملية بآخر نكتة وهي أنهم في النهاية سيدعون صدام لعضوية المجلس ما أن يقرروا توسيعه، ليعدمهم جميعا!
الحلقة نفسها
والنقاشات الدائرة في الاجتماعات الحالية تكاد تدور في الحلقة نفسها مع عدم اختلاف المشكلةِ
فالعراقيون غير مؤرقين في مسألة نقل السلطة، قدر تعطشهم لحياة هانئة مطمئنة، وجميعهم لم يروا قيادتهم إلا خلال الثواني المسموح بها في تقارير الفضائيات، ولكي يطالعوا صحف اليوم ويجدوا فيها بأن المجلس اجتمع امس وناقش 'الصيغ والمعايير والإجراءات' التي يمكن للانتخابات أن تجرى على أساسها وأن المبدأ الأساسي هو 'الرجوع الى الشعب وتحكيم إرادته'، فلا يجد هذا الشعب المسكين الضال نفسه في الصيغ والمعايير والإجراءات، قدر تعلق الأمر بيومياته الخربة ومساءاته المظلمة والنفق الذي أودعوه فيه دون أن يدري الجهة التي تخرجهِ
ان أكثر ما يزعجنا كمراقبين وفي المهنة خاصة، الانتظار ساعات لكي يخرج علينا ممثل مجلس الحكم ليتلو لنا ما تيسر له من عبارات هضمها الذين من قبلنا مثل 'اللجوء الى الشعب ِِ'، 'العمل جار للتوصل الى حل يرضي جميع الأطرافِِ '، 'نريد إقامة عراق ديموقراطي تعددي ِِ'ِ
العمل ينبغي أن يكون جاريا ليرضي طموحات الناس واحتياجاتهم وليس 'لإرضاء كل الأطراف'، فالشعب غير معني بالأطراف وإرضائها ومرادها وتكتيكاتها ومبغاهاِ
دورهم بالمساعدة
والطرف الآخر الأهم في العملية برمتها والمقصود سلطة التحالف، يبدو أنه أقل ما يتكلم في موضوع 'نقل السلطة للعراقيين'ِ فبول بريمر قال ما لديه في مؤتمر صحفي واحد وفسر الاتفاق على أنه 'سيرسم للعراق المسار الواضح لاستعادة سيادته'ِ
وأكد أن آلية تنفيذ الاتفاق ستتم بأيد عراقية بكل مراحلها و سينحصر 'دور سلطة التحالف بالمساعدة'ِ
أما بشأن القوات الأجنبية المتواجدة على الأراضي العراقية، فبرأي بريمر أن هذه المسألة 'سيتم التوصل الى حل بشأنها في اتفاق مع مجلس الحكم يتضمن في إطاره دعوة من المجلس لقوات التحالف للمكوث في العراق للعمل على استتباب الأمن فيه'ِ
ولابد من التوقف ومناقشة التصريح الأخير من وجهة النظر الحقوقية والواقعية والسياسية: أولا، أن مجلس الحكم باعتراف سلطة التحالف وقرارات مجلس الأمن وكل تصريحات قادة التحالف، ناقص السيادة من وجهة النظر الحقوقية، فهو بذلك غير مؤهل قانونيا لعقد معاهدات استراتيجية من نوع استقدام أو دعوة قوات أجنبية أو ما شابه ذلكِ ثانيا، أن الدعوة للمكوث تختلف عما يجري الآن من تصرفات للقوات المسلحة الأجنبية على الأراضي العراقية، وما يحدث هو عمليات عسكرية تستخدم فيها كل أنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة للغاية، فدور 'المساعدة' تعدى 'المكوث' جداِ ثالثا، كيف يمكن للمجلس الانتقالي توجيه الدعوة الى قوات عسكرية أجنبية وهو ملغي أصلا حسب 'اتفاق نقل السلطة'؟! رابعا، لم تناقش أو تطرح مسألة العلاقة بين السلطة الوطنية العراقية وقوات التحالف مع أية مؤسسة مدنية أخرى، ناهيك عن مصادقتها، غير مجلس الحكم المعين أصلا من سلطة التحالف، فيبطل بذلك أي قرار استراتيجي تتخذهِ
أزمة الانتخابات
وتواجه الانتخابات أزمة مماثلة، بل تتعدى 'الأمر الواقع لوجود قوات التحالف على الأراضي العراقية'، التي يبحثون الآن على 'صيغة' تجميلية لوجودها، فحسب معاناة بريمر نفسه والتي عبر عنها قبل أيام بقوله: 'ستستغرق الانتخابات 15 شهرا، إذ أن النظام البائد لم تكن لديه أية إجراءات أو آليات انتخابية، فلم يكن هناك قانون للانتخابات أو للأحزاب السياسية، كما لم يحدد علاقة وسائل الإعلام مع الانتخابات وعدم وجود أية لوائح انتخابية أو حدود للمناطق الانتخابية فضلا عن غياب أي تعداد للسكان'ِ
تعليق بريمر مهم وصحيح، لكنه لبلد كهولندا أو النرويج، وليس لبلد كان الذي يتحدث فيه عن الانتخابات يفصلونه من الحياة ويقطعون لسانه قبلهاِ
فعن أي قانون للأحزاب السياسية أو لوائح انتخابية أو علاقة مع وسائل الإعلام يتحدث بريمر؟ فالأحزاب السياسية في العراق كلها خارجة من نضال مرير ودموي ولا يوجد حزب مناضل واحد عاد الى العراق بكامل نصابه، فقد خلف آلافا من الشهداء والمغيبين سواء في قواعده أو قياداتهِ
ومع ذلك، لم يطلب أحد شرعية وجوده من سلطة التحالف ولم يعترض حزب واحد على تشكيل قانون الأحزاب أو قانون للانتخاباتِ فروسيا عندما كونت نفسها بعد إلغاء الاتحاد السوفيتي، صاغت قانون الأحزاب والانتخابات في غضون شهر وأجرت الانتخابات العامة (الرئاسية والبرلمانية) بعد سبعة أشهر، ولم يكن الوضع فيها سهلا على الإطلاقِ ولا التاريخ ولا حتى المهزومين ولا ديموقراطيي الجامعة العربية سيعترضون على نتائج الانتخابات مهما كانت 'عليلة'، فالمهم إجراء ولو 'بروفة انتخابية'، بكل ما تحمله من متاعب، فذاك أفضل في كل الأحوال من تشكيل مجلس أو حكومة حسب توازنات عرقية وطائفية وبقرارات مختصين في البيت الأبيض أبعد ما يمكن أن يستوعبوا 'الحالة العراقية'ِ
أعراض جانبية
يقول بريمر أن الحكومة الانتقالية الجديدة سيتم تشكيلها عبر انتخابات يتم تنظيمها في مايو، وهذه الحكومة ستشرف على الانتخابات التي ستجري 'وفقا للمعايير المتعارف عليها عالميا كي تنال المشروعية الدولية ومباركة الشعب العراقي'ِ
انتخابات مايو المذكورة أكثر ما يصدع أهل السلطة في العراق بشقيه التحالف والحكمِ فالمجالس البلدية التي أنيطت بها مسألة 'اختيار' ممثلين لها سترفع المرشحين الى مجلس الحكم وبدوره سيعرضها على سلطة التحالف وبدورها ستعيد القوائم الى مجلس الحكم ليصادق عليها ومن ثم يعيدها الى المجالس البلدية لتتمم ما اتفق عليه مسبقاِ
هذه انتخابات مايو بعرف اتفاق 15 نوفمبر بين بريمر والطالباني وهذا ما يعترض عليه بشدة السيد السيستاني (حوزة العراق) وبعنف مقتدى الصدر (ممثل الحائري ـ إيران) والكثير من القوى والحركات والأحزاب العراقية بمن فيها أحزاب مؤثرة في مجلس الحكم كالمجلس الأعلى والشيوعي والدعوة ـ تنظيم العراق والديموقراطي الكردستاني وحركة الديموقراطيين المستقلين وربما غيرهمِ
فكيف سيبارك الشعب العراقي 'صيغا ومعايير وإجراءات' يقوم بها جهاز هو بالأساس يعترض عليها؟!
وأي حكومة ستشرف على انتخابات 'تنال المشروعية الدولية' لو كان بريمر نفسه يقول العبارة التالية بعد هذه العبارة بثوان معدودات وهي أن 'الميزانية المقترحة من الرئيس جورج بوش قد خصصت للحكومة العراقية ِِِ'ِ أي أن ميزانية الحكومة العراقية المستقلة ذات السيادة التي ستشرف على انتخابات 'تنال المشروعية الدولية ويباركها الشعب العراقي' تعمل بميزانية يقترحها شخص دخل وخرج من البلاد متنكرا؟!

أخطر رجل في العراق


شارك في الهجوم الأول على مركز التجارة العالمي ويقود تنظيم القاعدة في العراق
هرب من نيويورك إلى باكستان ومنها إلى إيران واستقر في العراق
من هم الأربعة الذين يعرفون بوجوده في العراق؟
أعلن بوش: 'أريده شخصيا'ِِ فارتفعت جائزة القبض عليه إلى 5 ملايين دولار
60 ضابطا في الإف بي آي يطاردونه في العراق بلا جدوى
قال 'ليس عبد الرحمن فقط يضرب أميركا فسيأتي يوم يضربها كل العراقيين'

اسمه الكامل عبد الرحمن سعيد طه ياسين، العراقي الأصل، الاميركي الجنسيةِ والعراقي الوحيد الذي شارك في الهجوم الأول على مركز التجارة العالمي في نيويورك عام1993ِ وهو الوحيد الذي بقي طليقا ممن خططوا ونفذوا الهجوم، غير أن الجدل لا يزال قائما، في ما يخص مشاركته في عملية 11 سبتمبر، وشهادته تتعطش لسماعها وإعلانها الإدارة الاميركية عن دوره في أحداث سبتمبر، فهي التي ستعزز الاتهامات الاميركية التي كان المسؤولون الاميركيون يرددونها دائما عن تورط النظام العراقي بتنظيم القاعدةِ
فعبد الرحمن ياسين دخل الى العراق وأصبح تحت سيطرة المخابرات العراقية منذ 1993 ولغاية سقوط النظام، وكل تحرك كان يقوم به كان تحت إشراف مباشر من صدام حسين، ولو اعترف بمشاركته في 11 سبتمبر فهذا سيحسم موضوع تورط النظامِ
من هنا تكمن الأهمية الحقوقية الأولى لعبد الرحمن ياسين، أضف إليها الأهمية الاستراتيجية المنحصرة في كونه الآن يقود عناصر القاعدة ونشاطها في العراق، بل وقعت على عاتقه أخطر مهمة في تاريخ التنظيم وهي بناء 'القاعدة' في العراقِ
ونظرا لما تقدم، طالب الرئيس جورج بوش دائرة التحريات الفدرالية 'أف بي آي' أن يجلبوا له ياسين بأي ثمنِ قال هذه العبارة لأحد مصادر 'القبس' ، ضابط كبير في هذا الجهاز، وواحد من 60 ضابطا ألقيت على عاتقهم مسؤولية واحدة ومهمة ألفها وياؤها تنحصران في الاسم الذي عانت منه أعتى أجهزة الأمن في التاريخ: عبد الرحمن ياسينِ
حصل عبد الرحمن على الجنسية الاميركية بالوراثة من والده ياسين، ذلك العراقي المهاجر في الخمسيناتِ
أكمل كلية الهندسة الكيميائية في بلاده (الولايات المتحدة) ولم يكن غير شاب قصير، ضعيف البنية، لا يتجاوز وزنه 50 كلغم، ولم يفترض أحد من أصدقائه أو معلميه بأن هذا الصبي الذي يعاني من مرض الصرع، سيشغل حاسبات البنتاغون والسي آي أيه وإف بي آي وغيرهم لأكثر من عقد ونصف العقد وسيوضع اسمه في مقدمة أعمال جدول اجتماعات الرئيس في البيت الأبيضِ
بداية، ملأت رأسه جماعة الملا عمر عبد الرحمن بالأفكار المعادية لاميركا، وراحت تحثه على التطرف بذريعة أن الدنيا فانية وأن مثواه الأخير في الجنةِ
هكذا زرع به 'الجهاد' كباقي أقرانه في التنظيم، وبعد أشهر معدودات أثبت ياسين بأنه مؤهل للقيام بالأعمال الكبرى بعد سفرتين الى أفغانستان، تلقى خلالهما تدريبات خاصة روحية وفيزيائيةِ
الدخان الأول
وياسين هو اول من تسبب في الدخان الأول الذي ملأ نيويورك المسالمة والراقية بعد الاعتداء الأول الذي تعرض له مركز التجارة العالميِ
هو الذي هيأ السيارة المفخخة بالكامل ومنها أصبح المهندس الأول في تعبئة السيارات بالموت الذي كان يقرر مكانه وزمانه في أفغانستانِ وقد أرهق طبيب الأمراض الجلدية التابع للمخابرات العراقية كثيرا، قبل أن يعالج البثور والحفر و'الأكزمة' التي خلفتها المواد الكيميائية المتفجرة التي كان يحضرها على كفيه ومناطق متفرقة من ساعديهِ
بطاقة عائلية
توفي والده ودفن في اميركا وترك للعائلة بيتا في حي الجامعة الواقع في مركز العاصمة العراقية حيث تسكن فيه حتى الآن والدته وشقيقه الصغير طه والكبير سامي قبل أن ينتقل ليسكن في بيت مستقل في منطقة السيديةِ
ونظرا للصيت الخطير جدا الذي تركه الولد عبد الرحمن على العائلة برمتها، لم يحضر أحد الى مجلس الفاتحة الذي أقيم بعد وفاة والدهِ ولم يتبق من عائلته الرئيسية غير أخويه وعمه عبد الملك وعمته مليكة الذين يسكنون في حي الخضراء في بغداد أيضاِ أما أخوه منتصر، فقد تزوج من اميركية وفضل العيش عند 'الشيطان الأكبر'ِ
هذه المقدمة ليست لأغراض التعريف، بل لأن البيوت والأشخاص المذكورين يقعون حتى الآن تحت مراقبة سوبر مشددة، وتطبق كاميرات الأقمار الصناعية على رقبات ومداخل البيوت أعلاهِ
لكن أحدا من هؤلاء المراقبين لم يستطع تسجيل علامة شك واحدة تشير الى اقتراب عبد الرحمن من بيوت العائلة في بغداد، بالرغم من أنه دخل العراق منذ عام 1993ِ فكيف كانت قصة دخوله؟ِ
الهروب والعودة
بعد تنفيذ عملية نيويورك الأولى، لا يستطيع أحد الحديث عن الطريقة التي تمكن بها عبد الرحمن المراقب أصلا قبل العملية من قبل الأجهزة الاميركية، ونجاحه بعدها بالافلات من الولايات المتحدة والوصول الى باكستان في عام 1993ِ
ومن الواضح أنه أجرى الاتصالات الضرورية بالجماعة في أفغانستان، حيث لم تكن طالبان قد سيطرت على البلد وانتهت هذه الاتصالات بالاتفاق على عودته الى العراق عن طريق إيرانِ
نجح في عبور أفغانستان الى إيران وأتم الخطوات الأولى لعبوره منها الى العراق، لكن الصدفة أو قوة المخابرات العراقية وقتذاك، وربما لوشاية أحد أو لاتفاق مسبق بين العراق وإيران أو بين العراق وشخص ما في القاعدة أو باكستان، علمت المخابرات العراقية بخطة دخوله الى العراق، حيث كانوا باستقباله ما ان وطأت قدماه أرض العراقِ
تعاون وابتزاز
تبقى العلاقة التي بدأت بين عبد الرحمن والمخابرات العراقية غير واضحة البداية فهي أمر من اثنين لا ثالث لهما : الأول، بعد القبض عليه (في الناصرية)، في حالة إذا قبض عليه أصلا، تم إجباره على التعاونِ الثاني، ثمة تعاون مسبق بينه وبين المخابرات العراقية أو بين ولاته وهذه المخابرات، وتم التظاهر (من الجانب العراقي) على أساس أنه ألقي القبض عليه في العراقِ
كان العراق في تلك الفترة يحاول فتح أي ثغرة في جدار المقاطعة الاميركي الصلب، واعتقد صدام بأن ياسين قد يكون ورقته الرابحة في يوم ما، وبالفعل فقد كان عبد الرحمن ضمن أهم بنود التنازل التي قدمها صدام للإدارة الاميركية قبل الانقضاض عليه بأيامِ
وهذا اما اكدته الصحافة الاميركية الاسبوع الماضي في كلامها عن وساطة قام بها رجل اعمال لبنانيِ
وأيا كان شكل العلاقة، فالنهاية كانت واحدة وكما أرادها الطرف العراقي بطبيعة الحالِ ومباشرة وبعد توجيه صدام وإشرافه المباشر ألقيت مسؤولية رجل القاعدة الخطير على اثنين من النسق الأعلى للمخابرات العراقية وهما رئيسها طاهر جليل الحبوش ومساعده حسن عزبة، وعلى الثالث وهو الضابط محمد الدليميِ
الظل المعدوم
كلف محمد الدليمي الذي كتب عليه ملازمة ياسين كظله طوال 10 سنوات بهذه المهمة، أي أن يلازمه ويبقيه على قيد الحياة وكما قال له حسن عزبة بأن صدام حسين قال له شخصيا بأنه لو تم كشف أمر عبد الرحمن ياسين أو جرى عليه شيء أو هرب فان ذلك يكلف الثلاثة حياتهمِ وعلى هذا الأساس بنيت خطة الاحتفاظ بياسين ببالغ السرية لمدة 10 سنوات، على مبدأ عدم حرمانه من أي شيء، عدا النساء والخروج من البيت الذي فرضت عليه الإقامة فيهِ
السجينان
وجد الدليمي نفسه وحيدا مع عبد الرحمن، فقد كان من غير الممكن أن يطلع على السر شخص آخر غيره وغير الثلاثة الكبار المذكورينِ فكان الدليمي يجلب له دواء الصرع ويعالج قدمه اليمنى التي أصابها الفسخ جراء مطاردة فاشلة من الاميركان له في جبال باكستان وكانت السبب في الانزلاق الذي تعرضت له فقراتهِ
فتح الدليمي لياسين سجلا طبيا في مستشفى 'بلاط الشهداء' في بغداد تحت اسم مزيف، وكان هذا المستشفى المتخصص الوحيد في علاج الأمراض المزمنة كالصرع والفقرات وغيرهاِ
هكذا، لم يسمحوا له بالاقتراب من الباب الرئيسي للدور المتعاقبة عليه في العقد الذي وجد نفسه فيه أسير الدلال العراقي والمداراة التي لم يفهم ثمنها بالضبطِ
توالي البيوت
بدءا أسكنوه في بيت خاص للمخابرات يقع في الكاظمية، ومنه نقلوه الى بيت في حي الجامعة، ثم الى آخر مشابه في الكرادة وبعدها نقلوه الى بيت في الجادرية بالقرب من سجن الحاكمية التابع للمخابراتِ
ولعل صدام أدرك أن الاميركان لم يتقبلوا عروضه في 'الصلح' وفي الأيام الأخيرة قبل الحرب التي أطاحت به، أمر بإيداعه في سجن أبو غريبِ
وضع الحبوش وعزبة الخطة للدليمي، وكانت تتلخص في فتح ملف خاص وباسم مستعار لياسين كمحكوم بقضية خاصة وإيداعه في زنزانة انفرادية في سجن الأحكام الخاصة في أبي غريبِ
وبالفعل، أخذ الدليمي رفيقه ياسين الى سجن أبو غريب وأودعه هناك ولم يتبق للحرب أكثر من ساعاتِ وكانت المرة الأخيرة التي يراها فيها وليس صدفة ما دفع ياسين ليقول لمحمد الدليمي لحظة توديعه : ليس عبد الرحمن الوحيد الذي سيضرب الاميركان، سيأتي يوم سيضرب العراقيون كلهم هؤلاء الاميركان!!
المحظوظ
لم يستضفه أبو غريب طويلا، فقد كانت منطقة السجن واحدة من ميادين أهم المعارك التي شهدتها الحرب الأخيرة، والتي أدت الى سيطرة القوات الاميركية على السجن وحولته الى معسكر لقواتها قبل سقوط النظام بأيام معدوداتِ
وكان للتخبط الاميركي وعدم وجود تنسيق بين الأجهزة الاميركية بشأن مسائل كثيرة من بينها مصير السجناء في أبي غريب وغيره من السجون العراقية، فقد تم إطلاق سراحهم جميعا، وبالمناسبة، فان أغلب السجناء كانوا قد أطلقوا سراح أنفسهم، بعد هروب الشرطة والسجانين مباشرة، ولا تتحمل القوات الاميركية إلا الوزر البسيط في عملية تحرير السجناء الكبرى في العراقِ
وفيما يخص بطل حكايتنا، فقد وجد نفسه أخيرا حرا، حاله كحال آلاف السجناء، في بلاد ضيعت سلطتها وقادتها وكل ما يتعلق بها كدولةِ وكخبير في التخفي والهرب وله باع طويل فيها، لم يجد صعوبة في الحصول على مأوى والانطلاق منه، قبل أن يرتب الاميركان أنفسهم، فقد شعر في تلك اللحظات بأن أعداءه اللدودين ركبوا المحيطات والبحار وقدموا إليه، وفي هذه الأثناء بدأ التخطيط لاستئناف المعركة التي أشعلها في ديارهم واستكمال 'الجهاد 'ِ
الممتلئ
تحول ذو الخمسين كيلوغراما الى رجل مربوع ومملوء ويحمل 93 كيلوغراما حسب آخر مرة قاس وزنه فيها محمد الدليمي، فلم يكن يمارس شيئا طوال 10 سنوات غير الأكل ومشاهدة الأفلام 'الهابطة'! وأدت هذه التغييرات التي طرأت على شكله العام الى ارتباك الفريق الاميركي المكلف بالبحث عنهِ
وكانت الأشهر الثلاثة الأولى التي أعقبت دخول قوات التحالف الى العراق، كافية لأن يعود عبد الرحمن ياسين الى وظيفته القديمة، فقد نجح، حسب الاميركان أنفسهم الذين اعتبروا جائزة صيده 5 ملايين دولار، أي أكثر بأربعين مرة من جائزة صيد المسؤولين العراقيين التقليديين، في بناء أو إعادة بناء فرق ضاربة للقاعدة في العراق، ولعل أسلوب السيارات المفخخة الذي نفذ به أول عمليات القاعدة، غير بعيد عن لمسات كفيه اللتين عالجتهما المخابرات العراقية من البثورِ
وسيكتب التاريخ مزيدا من الأحداث وستتناسب عدد البثور والحروق في كفيه طرديا مع كل سيارة تتطاير أشلاؤها مع عراقيين أو غرباء، حتى اليوم الذي سيجلس فيه طبيب أحد الأجهزة المخابراتية، يتفحص فيها كفيه من جديد، ليكتب لشخص يشبه الدليمي أفضل مرهم لإزالتها منه.

دي ميللوِِ الرجل الذي أجابنا عن كل الأسئلة


هناك لحظات تمسك بنا لسنين، تفكك أوصالنا وتلمها في باقة واحدةِ
منذ يومين، يلح علي صحافي صديق، كنت أمازحه دائما بالقول: انك آخر الأصدقاء الأحياءِِ فلنذهب،، يقولها ويكرر القول،، تعال معي إلى المؤتمر الصحفي لمنسق الغذاء في العراقِ فندق القناة جميل وخدماته قد تنسينا حر بغدادِ
قلت له إن لدي أسلوبي في العمل، لا أذهب إلا في الأحداث الكبيرةِ اذهب أنت واخبرني، لو بشركم أحدهم هناك بإلغاء البطاقة التموينية واستبدالها بالدولار، فهذا ما يريدون عمله، مقدما، أقولها، فلا يقوى أحد منهم على تحمل هذا العبء وعد أكياس الطحين والرز والسمن، فمهربو البلاد قاموا بالواجب وأكثرِ كان مقررا للموجز اليومي أو الأسبوعي أن يقدمه أبو الغذاء العراقي في مقر الأمم المتحدة في فندق القناة الساعة الرابعة عصراِ وفي هذا الوقت كنت مرتبطا بموعد عمل شاق لمسؤول يأتي أو لا يأتيِ
أكتب لك يا صديقي وقد تكون تحت إحدى صخور القناةِِ جافة يداك وشفتاك، بينما أسطر لك سطورا لا تريد التأجج، فهي الساعة الرابعة صباحا ولم يبق في نفسي شيء من بكاءِ
كنت أتوسل للرجال الأميركيين الذين يمارسون عملهم بأني أسمع صوتك تحت الحجارة، لكنهم جنودِِ وأنت تعرف الجنود، سؤال أحمق، يمضغ الحشرجة في الحلقومِِ
أهي أمانيك التي كانت تتصدر فقاعات المبنى، كأني أشعر بأنك مستلق هنا، رب، اجعل هذه اللحظة ماثلة، لم يراودني القلق عليك، كما تفرقنا اليومِِ قلت لك، سأذهب الى القناة في حالة واحدة فقط، لو أرتب موعدا مع دي ميللوِِ نبيل لا، ولا غسان، حتى لو كان وزيرا سابقا، أو صديقكِِ
أتذكر، كيف كنت تقول اسمه كما لو ولدت برتغالياِِ ضحكنا، يا دي ميللو،، ضحكنا، حتى بدأت أنطق اسمك بالبرازيليةِ
في هذا المبنى لم يسقط رجل عادي، في هذه الرقعة من الأرض اهتزت بهجة البلاد وأدركنا في هذه اللحظات بأن هذه الحرب لا تريد أن تنتهيِ
سحقا ان كلماتي تقصر في الإفصاح عن الألم وعن تلك الأجساد التي تتدفق بجراح لا تقترب منها الدماء وان حياتنا الصحفية وحياتهم واحدة على هذه الأرض التي لا تكل من الاغتسال بالأرواح.
من أسماها القناة، أي باشا عثماني الذي أسرف في مياهها، ها هي الآن نهير يرتد الى الوراءِِ وراءنا، لقد انتهت الأشياء التي تسير بنا الى الأمام في هزيع الرابعة وخمس أربعين دقيقة من الثلاثاء الأسود علينا أجمعينِ
المهد قبل الولد
قلت لي: إنك غير معقولِِ تحضر المهد قبل الولد
قالها بعد أن كتبت صفحتين عن سيرجيو دي ميللو، يفترض أن أضعها في مقدمة حوار وشيك معهِ تصرخ بي: تكتب مقدمة عن الرجل ولم تقابله بعد؟
أجبتك: هي جزء من النضالِِ لكي لا تشغلنا معاركنا اليومية في بغداد وتنسيني اللقاء، لكي أحرص وبلا هوادة من أجل لقائه.
وماذا أقول عن البرازيلي الذي لم ينسه غبار بغداد وحرها ووجعها، أناقته التي تبرزه كما لو كان خارجا للتو من صالون للتجميلِ الخمسيني الذي يتحدث في قاعة قصر المؤتمرات الكبيرة ويشعر كل من في القاعة بأنه ينظر إليه، أي يتحدث له وحدهِِ هذه الكاريزما التي تقول كلمات قلائل، لكنها تدق كالساعة ناثرة موجات الرضى على الزمان والموجوداتِ
لم يقل ولم نسمع من دي ميللو كلمة واحدة، بل فكرة واحدة، ليست لصالح العراقِ
لم يتحاش سؤال صحافي واحد، كان يقول كل ما يعرفه، ويتحملنا جميعا، الأسود والأبيض والأشقر والأشهب والأصفر، فهو الذي عمل في راوندا وكوسوفو ولبنان وتيمور والعراقِِ آخ العراق، الذي لم يمنحك نهارا آخرِِ
لم تضيف البرازيلي الوسيم كما يجب، لم تحبه كما أحبك، هكذا تفعلها حتى معهِِ مستندا على شاهدة قبرك بعد أي من السنوات، لأقول إننا سنفقد الرجل الذي لم يقل كلمة واحدة لا يريد أن يفعلهاِ
لم يجد عنان في كل طوابق الأمم المتحدة التي أرغب في تسلق مصعدها الكهربائي قبل الموت، في كل فروعها وهيئاتها المنتشرة في كل العالم، أفضل منك ليرسله الى العراقِِ لأنه ببساطة، لا يوجد أفضل منك يا أيها الإنساني الكبير.
ولن يعثر العراق، لا حصاته ولا أنهاره على أفضل منكِِ
فلكي أوضح: قرأ دي ميللو أكثر منا جميعا عن العراق قبل أن يصل إليهِِ كان لديه أعمق شيء يمكن أن يمتلكه مندوب سامي أو دبلوماسي يحترم نفسه وعمله هو 'الرؤية'ِ.
اكثر المسائل وجعا
كان لدى ميللو رؤيةِِ لذلك فرض نفسه على كل من وطئت قدماه أرض الرافدينِِ فرض نفسه على الوطنيين والمحتلين والعملاء والأشاوس السابقينِِ وكان يجيب عن أكثر المسائل وجعا: داوى العراق، غذى أيتامه وعجائزه، كفه غلالة بيضاء وشحت مستشفيات البلاد المنهوبة، في غضون شهر، كان أكثر من خمسين مستشفى تعمل في بغداد وحدها بكامل قواها العقلية والطبيةِِ
من يفعلها غير دي ميللو؟
من لا يجلس في مكتبه غيره؟
من كانت تقاريره تصل الى كل الصحافيين والوكالات في بغداد مطبوعة أنيقة مثله؟
من كان يتوجع لأي ذبابة تطير على وجه طفل عراقي؟
من أصلح مواسير المياه والمجاري وقنوات التصريف الصحي؟
من أزاح القذارة السائرة تحت أقدامنا وحول مياهنا فضة مجانية؟
من الذي حلم مثله بعراق أجمل وأبهى؟
من الذي كان يعلم ساستنا ضرورة الانفتاح على العالم؟
من الذي سافر الى الجوار يقنع هذا أو ذاك من القوميين أسرى الألحان والألوان بمد اليد للعراق في محنته؟
البرازيلي الأنيق وحده الذي كان يلم الشمل العربي!
البرازيلي المثقف من كان يطالب بالحرية والسيادة وخروج المحتلين
لو تنظرون الى كمبيوتره، ستجدون لجانا ومئات الآلاف من العاملين في برامجه،،
هو الذي كان يعمل هذه الأيام ليبرمج أفضل طريقة لإحصاء سكان هذا البلد التعيسِِ
هو الذي كان يقلق على الدستور أكثر من قاضي قضاتنا،.
هو الذي كان يردد عبارات السيادة أكثر من أي ماركسي حارب في الأهوار والجبال والسويدِِ
هكذا فرض نفسه على كل الألوان والمسميات في العراق، ولم يستطع أحد التعامل معه دون أن يحبه، فأسلوبه جاد وجديد وصادق، رسم للقضية العراقية شكلا شرعيا في الأمم المتحدةِِ
أي طفل وعجوز وصبي وشاب لم يجد عملا بعد هو الخاسر الأكبر بغياب دي ميللوِِ
دور قيادي
لم تعد الأمم المتحدة الى اللعبة، بل كانت تقودها بكيفها، وبحرفنة دي ميللو، دخلت صوتا وعمقا هادرا في العراق،، فمن كان يريد أن يجرح العراق مرة أخرى؟
سأطل على هذا السمو الذي صنعته يا صديقنا البرازيلي، سأجلس على مائدة كلماتي لأروي كل مرة بأني فقدت آخر الأصدقاء الأحياء في تلك اللحظة التي هدموا فيها أناقتك ولامسوا بشرتكِ
من أجل هذا سيقدم لك العراق لو قدر له أن يبقىِِ الشكر والأسف، وبمزيد من الرضا، سنذكرك في فتات الخبز وبقايا الفاكهة والماء النظيف ولقاحات الأطفالِِ
عذرا لأولادك وزوجتك وكل من ينتظرك،
حمدا لهذه الحياة التي قضيتها سحابة ترمي مطرها على الجميع، ولا تتلبد.
شد أزرنا فنحن خائرو القوى، مرغت أنوفنا أرذل الأيام
جبهتك صافحت السماء، ولم يمسسها تراب العراق.
حان الوقت لأستأنف البكاء عليكم أجمعين.

موسكو بين الغاز والألغازِِ وتصرفات الخاطفين والمقتحمين

المسرحية التي تحولت الى مأساة في المسرح الموسكوبي، لاتزال تكشف عن فصول اضافيةِِ واسرار الغاز الذي استخدم لدى اقتحام المكان يشكل واحدا من هذه الفصولِِ وكذلك الملابسات المحلية والخارجية لهذا التطور العاصف في الازمة الشيشانية وفي نهج القيادة الروسية التي اعلنت امس ان 'حربها على الارهاب' لن تقف عند اية حدودِ

لدى استعادة بانوراما الساعات الستين يتضح ان عدد الخاطفين بلغ حسب الإعلان الرسمي في النهاية 53 شخصاِ بعد تنفيذ العملية تم قتل 18 امرأة و 32 رجلا واعتقال 3 بينهم امرأتانِ بلغ عدد الرهائن من 700 - 750 (لم يذكر أحد رقما محددا حتى الآن) وأطلق الخاطفون سراح 190 رهينةِ
نفذت عملية الاقتحام في الساعة الخامسة والدقيقة 40 من صباح 26 أكتوبرِ وتقول السلطات الروسية بأن العملية استمرت 40 دقيقة ، غير أنها استمرت أكثر من ساعتين لأن أول رهينة تم تحريرها كان في الساعة السابعة و 22 دقيقةِ تم قطع بث كل قنوات التلفزيون الروسية والراديو في هذا الوقتِ وتدعي السلطات بأن الاقتحام جرى بعد أن بدأ الخاطفون تنفيذ تحذيرهم بإطلاق الرصاص على الرهائنِ ولكن أي شيء من هذا القبيل لم يحصلِ لأن السلطات بدأت بنشر الغاز الذي يصيب الإنسان بالشلل والإغماء منذ الساعة الثانية ليلا ، أي قبل الاقتحام بنحو خمس ساعاتِ
لحسن الحظِِ المسرحية شبابية
استخدمت السلطات 'غاز الإنكاباسيتان' الذي لا تملكه غير روسيا والولايات المتحدة في العالمِ وقد تم إنتاجه في السبعينات من قبل معهد الأبحاث الكيميائية والبيولوجية في لينينغراد (بطرسبورغ حاليا)ِ
لا يؤدي الغاز الى وفاة الأصحاء ولكنه يسبب قتل المدخنين والمصابين بالقرحة والربو وكبار السن والأطفال والذين يعانون من متاعب في الدورة الدموية والقلب والجهاز العصبيِ ولو لم تكن المسرحية شبابية وجمهورها بالبداهة كذلك ، لهلك جميع الرهائن لو كانوا من الجمهور التقليدي للمسرح في موسكوِ
والغاز مخدر يصيب الإنسان بشلل تامِ ولأنه جديد من الناحية التكنولوجية والعلمية فان قائمة المواد الكيميائية والبيولوجية المحظورة التي وقعها الاتحاد السوفيتي عام 1925 لم تتضمنهِ
تقول الأجهزة الخاصة بأنها بدأت بنفث الغاز في قاعة المسرح قبل نصف ساعة من بداية عملية الاقتحامِ غير أن مصادر علمية روسية تؤكد بأن الموعد قد يكون قبل ذلك بثلاث ساعات على الأقلِ وفي كل الأحوال تؤكد المصادر بأنه يفترض أن يعطى المصاب بهذا الغاز حال إنقاذه حقنة مضادة تحتوي على مادة 'انتي بدوت'ِ لكن هذه الحقنة لم تصل الى الرهائن الذين سحلوا أو حملوا من خارج القاعة من قبل القوات الخاصة التي كان يصرخ بعضهم : أين الأطباء؟ ألا يوجد أطباء هنا؟
الحقنة الانقاذيةِِ غائبة
كان يفترض للذين خططوا استخدام الغاز توفير كادر طبي وتمريضي كاف لزرق هذه الحقنة مباشرة بعد إنقاذ الرهائنِ غير أن الرهائن وجدوا أنفسهم ممددين في الباحة المطلة على المسرح تحت المطر واحد فوق الآخر بدون أن يسعفهم أحد غير أفراد القوات الخاصة الذين كانوا يصرخون بدورهم بحثا عن الأطباءِ
مسؤولو الأجهزة الخاصة أكدوا بأنهم أضافوا الى العصير الذي أدخلوه للقاعة على مادة تخفف من وطأة الغاز ، لكن هذا العصير كان بكميات قليلة وربما لم يصل الى الجميعِ كما لا يوجد ضمان بأن الخاطفين سيعطونه للرهائنِ زد على ذلك فان عربة العصير وصلت الى المسرح قبل يومين من تنفيذ الاقتحام ، فهل كانت الجرعة كافية لتحمل الغاز المستقبلي؟
سربت الأجهزة الخاصة الغاز عبر أنابيب التهوية، الامر الذي أدى الى إصابة كل من كان داخل البناية المغلقةِ وسلم منه فقط الذين كانت مناوبتهم في الممرات وعلى سطحها وقرب النوافذ المفتوحةِ ويفسر ذلك أن بعض الخاطفين قاموا بمقاومة القوات المقتحمة وأوقعوا بها خسائر باعتراف بعض أفراد القوات الخاصةِ
ممثلا وزارة الصحة الروسية الطبيبان نيكولاي لوجنيكوف وأندريه سولتسكوفسكي عقدا مؤتمرا صحفيا يوم الاثنين الماضي وقالا انهما لا يعرفان الغازِ فكيف يعالجان الناس ولا يعرفان ضد أي شيء يعالجونهم ؟ أيعقل هذا ؟ طبيب يعالج مريض ولا يعرف سبب إصابته ؟
وفوق ذلك يقول أطباء آخرون عبارة رنت في الأوقات الستالينية: الغاز أحد أسرار المخابرات ! طيب، قل لنا هل هو طبي
ِِ عسكري ِِ مخدر ؟
يجيب : هذا سر !
هو غاز يعرفه من عمل في هذا المجال وأراد انقلابيو أغسطس 1991 استخدامه ضد المجلس الأعلى للبرلمان عندما اعتصم به بوريس يلتسين ورفاقه ولكنهم أحجموا عن استخدامه لخطورتهِ
معركة مع النيام
لدى اقتحامها ، أطلقت القوات الخاصة النار على الخاطفين وهم نيام وأغلبهم من النساءِ وربما كانت الأوامر التي تلقوها هكذاِ أما لخشيتهم من استخدام أحدهم زر تفجير العبوات الناسفة التي يحملها والتي أطلق عليها 'حزام الانتحاريين'، أو لأن السلطات في غنى عن أسرهم ومحاكمتهم بشكل 'ديموقراطي '، الأمر الذي سيحول محاكمتهم الى فتح ملفات الحرب الشيشانية أمام القضاء والرأي العام العالمي والمحليِ وثمة سبب ثالث الخشية من حدوث عمليات مشابهة يطالب فيها الخاطفون المستقبليون إطلاق سراح رفاقهم وهكذا تستمر العملية بلا نهايةِ لهذه الأسباب صدرت الأوامر على ما يبدو بتصفية كل الموجودين بلا استثناءِ أما الثلاثة الذين تم القبض عليهم كما أعلن، فلم يتأثروا بالغاز وقد تحتاجهم السلطات لاستكمال التحقيقِ
إخفاء الجثث
رفضت السلطات تسليم جثث الشيشان الى ذويهم، ورفضت أيضا إخبارهم بالمكان الذي ستدفنهم فيهِ هذا الإجراء يثير تساؤلات إضافية أخرى أولها التقليدي : لماذا؟ وهل تريد إخفاء ما يمكن تسميته 'سر الغاز' معهم وطمره في واحدة من حفر موسكو؟
هل تخشى قيام أهالي الشيشان القتلى بتشريح الجثث في الخارج لإثبات هذه أو تلك من الحقائق التي لا تريد السلطات أحدا أن يعرفها؟
وكيف الحال بجثث القتلى من الرهائن الروس ؟ هل سيسلمونها الى ذويهم بتوابيت لا تفتح ؟ هل سيسمحون لأهلهم التصرف بها ؟ على الأرجح سيستلم ذوي الضحايا الجثث من المشارح ويقيمون عليها الصلاة ويدفنونها مباشرة بدون إجراءات أخرى وستراقب السلطات العملية هذه وستشرف عليها بمعرفتهاِ
لا يعرفون شيئا عن الاسلام
ويوم 27 أكتوبر انقشع الغاز واختفت أصوات الرصاص واستمر الرهائن في نومتهم في المستشفيات المختلفةِِ وفيه ظهرت البرامج بشكل مخطط له للتأكيد على الأشياء التالية وتثبيتها في الوعي الاجتماعي الروسي: أولا، الاقتحام كان حتميا لأن الخاطفين كانوا سيفجرون المبنىِ ثانيا ، عملية الاقتحام جرت بمنتهى الروعة والحرفيةِ
وشارك في هذه الحملة كل المسؤولين الروس تقريبا واستخدموا شخصيات معروفة كيوري لوجكوف محافظ موسكو الذي وصفها بالعملية الرائعة والمدهشة، ويفغيني بريماكوف الذي تحدث عن لقائه مع اختفاء الشاهد الآخر بعد مقتل قائد المجموعةِ وقال بريماكوف مبررا ما حصل انه لا يوجد عنده أدنى شك بحكمة تصرف قيادته وأن الإرهابيين كانوا قد نفذوا وعودهم وانه قال لبارييف انه يعرف القرآن أفضل منه وأنه طلب منه أن يحترم الأكبر منه حسب التقاليد الشيشانية ووصف الخاطفين بأنهم لا يفقهون شيئا لا عن الإسلام ولا عن الوهابيةِ وقيل أكثر من ذلك بكثيرِ
كيف دخلوا بكامل اسلحتهم؟
لقد تمكن الخاطفون من إدخال متفجرات وأسلحة زنتها حسب التقديرات الرسمية طنانِاستخدموا في عملية نقل الأسلحة 4 سياراتِ حسب الخاطفين تم التخطيط للعملية مدة شهرينِ ولغاية هذه اللحظة يقف ميكروباص استخدمه الخاطفون أمام بوابة مبنى المسرحِ فكيف تسنى لهم التحرك بحرية أمام رؤوس الأشهاد ؟
نسمع التبرير الحكومي: مسرح بيت الثقافة كبير بما فيه الكفايةِ وتعرض فيه عدة مسرحيات في آن واحد ويتطلب الأمر نقل ديكورات وأجهزة وغير ذلكِ علاوة على ذلك تجرى فيه عمليات الترميمِ ولذلك فان وصول شاحنات مختلفة الأحجام الى المسرح مسألة تعود على رؤيتها رجال الشرطة المسؤولون عن المنطقة وكذلك حراس المسرحِ
والأهم في التبرير الحكومي قولها: يوجد عمال في المسرح لهم أصول شيشانية! بمعنى ان هؤلاء العمال قد ساعدوا الخاطفين على إدخال الأسلحة إلى المسرحِ ولابد من التعليق على هذه المبررات : أولا ، كل المسارح في موسكو تعرض أكثر من مسرحية في آن واحد وتبدل ديكوراتها بشكل سلسِ ثانيا ، أعمال الترميم تجري حتى في الكرملين فهل هذا مبرر لإدخال أطنان المتفجرات لمقر الرئيس مثلا؟ ثالثا ، الأيدي العاملة الرخيصة في موسكو أغلبها من القوقاز وآسيا الوسطى ومولدافيا ، فما الجديد في حالة مسرح الثقافة؟ وماذا بخصوص الروس الآخرين الذين يعملون في المسرح ، حراس وإدارة وغيرهم؟ رابعا ، هل ان السؤال ينحصر في إدخال المواد المحظورة الى المسرح ، أم أنه أكبر من ذلك بكثير ِ كيف وصلت هذه المجموعة الكبيرة بكامل أسلحتها الى موسكو قاطعة الطريق من الشيشان ومنهم معروف لدى الأجهزة الروسية باعترافها بمشاركتهم مع شامل بساييف في عملية احتجاز رهائن بوديونوفيسك عام 1995؟ ِ
القرار اتخذ وبقي التمويه
لقد قررت 'مجموعة الأزمة' المكلفة بالإشراف على هذه المشكلة، منذ اللحظات الأولى، توجيه من بوتين بوضع خطة اقتحام المبنىِ بغض النظر عن نتائج المباحثات مع الخاطفين أو مطالبهم ِ وأضافت السلطات المباحثات مع الشخصيات السياسية المذكورة لكسب الوقت لا أكثر واتباع تكتيك التمويه لتضليل الخاطفين بأنها سائرة في طريق المباحثات السلميةِ
ان من درس أسلوب الرئيس بوتين في تعامله الحازم مع القضية الشيشانية ، كان يدرك أنه لن يستجيب لأي مطلبِ
كما ان معرفة بسيطة بأمور الغاز وما يتعلق بتنفيذ عملية معقدة، تؤدي الى الاستنتاج بأن السلطات كانت بحاجة الى وقت كاف للإعداد وليس الى نصف ساعة كما صرحواِ المسألة تتطلب دراسة خريطة المبنى من كل الجوانب وهندسة التكييف وتصميم النوافذ ِِِونقل الغاز وتثبيته جيدا (هم أنفسهم صرحوا بأنهم زجوا مع العصير الذي قدموه ليشربه الرهائن داخل المسرح مواد مضادة للغازِ والعملية هذه جرت قبل الاقتحام بيومينِ
تصريحات متناقضة
وقد اعترف نائب وزير الداخلية فلاديمير فاسيلييف بحدوث خسائر بين القوات الخاصة المقتحمةِ غير أن أحدا لم يذكر هذه الخسائر بعد تصريحهِ وحتى فاسيلييف لم يصرح بعد ذلك بأي شيءِ وأكدت مصادر رسمية مختلفة فيما بعد عدم حدوث خسائر في صفوف القوات الخاصة المكلفة بالاقتحامِ وتضاربت تصريحات المسؤولين حول فرار بعض الخاطفينِ ِ ففي الوقت الذي قال فيه رئيس المخابرات باتروشيف ان أحدا من الخاطفين لم يتمكن من الفرار ، وزعت شرطة موسكو على المخافر صورا تقريبية لخاطفين هربوا بعد العمليةِ ووزير الداخلية بوريس غريزلوف أفاد بأنه تم اعتقال 30 شخصا في موسكو ادعى أنهم ساعدوا الخاطفينِ ولم يوضح ظروف اعتقال هذه المجموعة الكبيرة ولماذا قبض عليهم بعد العملية وليس قبلهاِ
حصار إعلامي
ولغاية يوم الاثنين بلغ عدد القتلى في صفوف الرهائن 117 شخصا حسب الإعلان الرسميِ وتفرض السلطات حصارا إعلاميا على وضع 349 رهينة لم يغادر أحد منهم المستشفىِ والكثيرون رأوا أقاربهم في التلفزيون فقط، وتعم حالة من فوضى شديدة المستشفيات، ولا أحد يعطي معلومات عن حالة الرهائن، كإشارة الى الوضع الصحي المتردي بفعل إصابتهم بالغازات السامةِ ووصلت تعليمات الى كافة وسائل الإعلام الروسية بعدم الخوض في مسائل الرهائن ووضعهم الصحي والتهويل فيما حدث وعرض أفلام سينمائية تمجد الروس وبطولاتهم وعرض تقارير وبرامج تؤكد على 'إرهابية' الشيشان وفتح ملفات عملياتهم السابقة ودور الدول الأجنبية في تأجيج الوضع في القوقازِ وذلك لتقليل مشاعر التعاطف ومعارضي استمرار التدخل الروسي في الشيشانِ وتسابق المسؤولون الروس في الإعلان عن رغبتهم في استبدالهم بدل الرهائن لنيل الشهادةِ وكان أهالي الرهائن وبعض المواطنين في روسيا قاموا بتنظيم مظاهرة قرب المسرح طالبوا فيها بوقف الحرب في الشيشان وعدم اقتحام المبنىِ كما أكد استطلاع للرأي العام بأن 70 % من الروس لا يؤيدون تنفيذ عملية الاقتحامِ وتدل هذه الفعالية التي أقيمت بشكل سريع ومرتجل على نمو تيار معارض للممارسات الروسية في الشيشانِ ما حصل عليه معظم أقارب الرهائن أرقام هواتف للاتصال الأول : 2518300 لمعرفة حالة الرهائن المرضى والثاني 2908159 لمعرفة مصير المفقودين ، أي الذين لم يوجدوا لا بين الأحياء ولا بين الأمواتِ وعند اتصال الناس بهذه الأرقام يتلقون الإجابة الوحيدة التالية : لا معلومات ! ولمن يريد التأكد عليه الاتصال بالأرقام المذكورة ليسمع الجملة المعتادةِ
أخطاء الخاطفين وما أكثرها!
يبدو ان من خطط للعملية ونفذها لم يتوقع الهجوم الكيميائي، لذلك لم يجلبوا معهم أقنعة وقائية ضدالغاز ولم يفتحوا الشبابيك للتهوية أو يغلقوا فتحات التكييف التي عبر الغاز منها داخل المبنى المغلق ويدل ذلك على عدم درايتهمِ والى جانب التمويه، زودت الشخصيات التي دخلت الى القاعة وقابلت الخاطفين السلطات الروسية بمعلومات كاملة عن وضعهم ودرجة استعدادهم والأسلحة التي يستخدمونهاِِ الخِ ويرجح ان السلطات دست بعناصرها خلال الساعات الأولى عندما كان الوضع لم يسيطر عليه من الخاطفين، وأدى ذلك الى معرفتهم بما يحدث في الداخل، بالاضافة الى ذلك، سمح الخاطفون لحملة الهواتف الجوالة الاتصال بأهلهم وكذلك اجراء المقابلات الصحفية بشكل حر، وأفادت معلوماتهم السلطات الروسية كثيراِ
كما ان الفرصة الوحيدة التي أتيحت للخاطفين للتعبير عن آرائهم لم يستثمروها بشكل كاف واكتفوا بترديد عبارات محددة كما لو كانوا يحفظونها عن ظهر قلب دون درايةِ
ويبدو ان الشيشان أرادوا بشكل ما كسب ود الرهائن ولعلهم ألقوا عليهم بعض الخطب العاطفية، لذلك كانت القاعة تدوي بالتصفيق بين الحين والآخر، خاصة في الساعات الأولىِ
الخاطفون ارادوا مفاوضة اليهود فقط!
لوحظ أن كل الذين طلب الخاطفون مقابلتهم كانوا يهودا ما عدا إيرنيا خاكامادا وهم : بوريس نيمتسوف وإيرنا خاكامادا من حزب اتحاد القوى اليمينيةِ ويفغيني بريماكوف رئيس غرفة التجارة والشخصية السياسية المعروفة وغريغوري يفيلينسكي رئيس حركة 'يابلكو ' ويوسف غبزون المطرب وعضو مجلس الدوماِ يلاحظ عدم وجود أي روسي بينهمِ
ورفض الخاطفون دخول أي طبيب روسي الى المسرحِ وطالبوا بأطباء أجانب ومنظمة أطباء بلا حدودِ والطبيب الوحيد الذي سمحوا بدخوله هو البروفيسور ليونيد راشال وهو يهودي أيضاِ
تجدر الإشارة الى أن كل الذين قابلهم الخاطفون منعوا من الإدلاء بأي تصريح صحفي واختفوا عن الأنظارِ ولكنهم ظهروا فقط بعد انتهاء العمليةِ
مسخادوف المغضوب عليه
تقول السلطات الروسية ان الخاطفين نفذوا اوامر الرئيس الشيشاني اصلان مسخادوف، على الرغم من ادانة هذا الاخير لهاِ
واعتمدوا على قول موفسار باراييف قائد العملية في حديثه الوحيد لقناة 'انِ تيِ في' داخل المسرح بانهم كمقاتلين يحسبون لمسخادوف الحساب ويحترمونهِ وقال بالحرف: 'العملية جاءت تنفيذا لاوامر القائد العام للقوات المسلحة في جمهورية ايتشكيرا شامل باساييف'ِ ولم يتطرق الى مسخادوف بغير ما قالهِ ولا يستطيع اي حقوقي او مراقب منصف اعتبار هذا الكلام دليلا على علم او مشاركة مسخادوف بعملية موسكوِ
ان اقحام مسخادوف في هذه العملية هدفه واحد: افشال محاولات ايجاد حل سياسي للازمة الشيشانية وقطع الحوار المفتوح معه سرا مرة وعلانية مرات اخرىِ
العامل الإسلامي وتورط السعودية؟!
في محاولة منها لإبراز 'العامل الإسلامي' أكدت كل وسائل الإعلام الروسية في اليوم الأول على أن الخاطفين أطلقوا سراح المسلمين فقطِ وهذا لم يحدث كما ذكروا ، لأنهم أطلقوا مسيحيين من جورجيا وحتى نساء روسيات وثلاث أذربيجانياتِ ووافقوا على إطلاق سراح الأجانب شرط تسليمهم مباشرة الى سفرائهمِ غير أن سببا ما منع السفراء من دخول المسرحِ
وكان إطلاق رئيس مجموعة الخاطفين الشيشان موفسار بارييف على مجموعته تسمية 'رياض الصالحين' ، أثار الكثير من الجدل والتعليقات، حيث أشارت بعض قنوات التلفزيون الروسي ومنها الأولى والثانية و أن تي في الى أن " رياض الصالحين 'تعني' الرياض " عاصمة السعودية !! وادعت ليس بغباء بالطبع أن ذلك يعني تورط جهات في المملكة العربية السعودية في هذه العمليةِ فهل يوجد إرهابي في العالم يسمي مجموعته بعاصمة مموليه ؟
وعرضت الأجهزة الخاصة في التلفزيون تسجيلا مشوشا ليس من الصعب على أي شخص تركيبه ، خاصة أن الشهود كلهم أموات عند ربهم ، ادعت فيه ان للخاطفين مسؤولا اتصلوا به في الخارجِ ورافق ذلك عرضهم لتأكيدات بوتين ونيكولاي باتروشيف رئيس المخابرات على أن منفذي العملية لديهم اتصالات في الخارجِ
أين اختفوا ؟
والسؤال المحير يتعلق بما يسمونهم المفقودينِ فالمعروف أن ساحة الحرب كانت قاعة المسرح ومنافذها ونوافذها كانت محكمة لكي يمنع تسرب الغازِ ودخلت القوات الخاصة وأخلت الرهائن واحدا اثر واحدِ فكيف أصبح من عداد الرهائن مفقودون؟ وأين ذهبوا؟ وما حل بهم ؟ هل هي ساحة معركة بآلاف الكيلومترات المربعة حتى يفقد فيها أحدِ لم تكن سوى قاعة صغيرةِ وإذا كان المقصود الرهائن الذين لا يحملون معهم وثائق تدل على شخصياتهم ، فان أقاربهم عادوا الى أساليب الحرب العالمية الثانية وتعامل الناس مع مفقوديهم بحمل صورهم ولصقها على يافطات والتجول في المستشفياتِ
لقد تم الإعلان عن أن 349 رهينة في المستشفيات يتلقون العلاج وأن 117 منهم لقوا مصرعهم ، سيكون المجموع 466 رهينة معلوم أثرهم بين الأحياء والأموات ، أين ال284 شخصا الباقون إذن؟ لو حسبنا العدد التقريبي للرهائن بنحو 750، على الرغم من أن كل التصريحات متضاربة حول العدد النهائي للرهائن والكل يجمعون على أنه ما بين 700 - 800 ولا أحد يقول رقما محدداِ
الرهينة الخاطفة!
بينما كانت إحدى الطبيبات في المستشفى رقم 13 تتفحص إحدى الرهائن ، بدا لها أنها ضمن الخاطفين ، معتمدة على ملامح شكلها الذي يشبه الشيشان وعلى آثار في أصابعها تركتها المواد المتفجرةِ اتصلت مباشرة وتم تطويق المبنى وفرض حراسة مشددة على الرهينة أو الخاطفة المحتملةِ
غير أن المصادر الرسمية لم تؤكد تحول الرهينة الى خاطفة حتى الآنِ ولا يوجد في قانون العقوبات ما يعاقب به المرء على الملامح الشيشانية ، وحتى هذه الملامح يحملها كل سكان القوقاز وربما يحملها روس متزوجون من هناك ِِِالخ وحتى لو كانت المريضة شيشانية بالفعل ، ألا يحق لها دخول المسرح ومشاهدة العرض حالها كباقي خلق الله وتعرضها لما تعرض إليه الآخرون؟ِ
تحديد الجنسية بالنظر
حالة ارتجالية اخرى بطلها فاليري شانتسيف نائب عمدة موسكو، عندما اثار ضجة اخرى بقوله البطولي: 'تجولت في المبنى ورأيت بام عيني الارهابيين القتلى وكان بينهم عربي وافغاني'ِ
شانتسيف لم يشاهده احد طوال الساعات الستين، وظهر فقط عندما اصبحت بردا وسلاما ليتفحص الجثث باقدامهِ ولا احد يعرف كيف ميز الافغاني عن العربي عن الشيشاني وكلهم خلقة واحدة ومتشابهون، وهل يمكن لانسان عند النظر الى شانتسيف نفسه تمييزه اذا كان روسيا او اوكرانيا او بولونيا؟