الأربعاء، 27 يوليو 2011

دي ميللوِِ الرجل الذي أجابنا عن كل الأسئلة


هناك لحظات تمسك بنا لسنين، تفكك أوصالنا وتلمها في باقة واحدةِ
منذ يومين، يلح علي صحافي صديق، كنت أمازحه دائما بالقول: انك آخر الأصدقاء الأحياءِِ فلنذهب،، يقولها ويكرر القول،، تعال معي إلى المؤتمر الصحفي لمنسق الغذاء في العراقِ فندق القناة جميل وخدماته قد تنسينا حر بغدادِ
قلت له إن لدي أسلوبي في العمل، لا أذهب إلا في الأحداث الكبيرةِ اذهب أنت واخبرني، لو بشركم أحدهم هناك بإلغاء البطاقة التموينية واستبدالها بالدولار، فهذا ما يريدون عمله، مقدما، أقولها، فلا يقوى أحد منهم على تحمل هذا العبء وعد أكياس الطحين والرز والسمن، فمهربو البلاد قاموا بالواجب وأكثرِ كان مقررا للموجز اليومي أو الأسبوعي أن يقدمه أبو الغذاء العراقي في مقر الأمم المتحدة في فندق القناة الساعة الرابعة عصراِ وفي هذا الوقت كنت مرتبطا بموعد عمل شاق لمسؤول يأتي أو لا يأتيِ
أكتب لك يا صديقي وقد تكون تحت إحدى صخور القناةِِ جافة يداك وشفتاك، بينما أسطر لك سطورا لا تريد التأجج، فهي الساعة الرابعة صباحا ولم يبق في نفسي شيء من بكاءِ
كنت أتوسل للرجال الأميركيين الذين يمارسون عملهم بأني أسمع صوتك تحت الحجارة، لكنهم جنودِِ وأنت تعرف الجنود، سؤال أحمق، يمضغ الحشرجة في الحلقومِِ
أهي أمانيك التي كانت تتصدر فقاعات المبنى، كأني أشعر بأنك مستلق هنا، رب، اجعل هذه اللحظة ماثلة، لم يراودني القلق عليك، كما تفرقنا اليومِِ قلت لك، سأذهب الى القناة في حالة واحدة فقط، لو أرتب موعدا مع دي ميللوِِ نبيل لا، ولا غسان، حتى لو كان وزيرا سابقا، أو صديقكِِ
أتذكر، كيف كنت تقول اسمه كما لو ولدت برتغالياِِ ضحكنا، يا دي ميللو،، ضحكنا، حتى بدأت أنطق اسمك بالبرازيليةِ
في هذا المبنى لم يسقط رجل عادي، في هذه الرقعة من الأرض اهتزت بهجة البلاد وأدركنا في هذه اللحظات بأن هذه الحرب لا تريد أن تنتهيِ
سحقا ان كلماتي تقصر في الإفصاح عن الألم وعن تلك الأجساد التي تتدفق بجراح لا تقترب منها الدماء وان حياتنا الصحفية وحياتهم واحدة على هذه الأرض التي لا تكل من الاغتسال بالأرواح.
من أسماها القناة، أي باشا عثماني الذي أسرف في مياهها، ها هي الآن نهير يرتد الى الوراءِِ وراءنا، لقد انتهت الأشياء التي تسير بنا الى الأمام في هزيع الرابعة وخمس أربعين دقيقة من الثلاثاء الأسود علينا أجمعينِ
المهد قبل الولد
قلت لي: إنك غير معقولِِ تحضر المهد قبل الولد
قالها بعد أن كتبت صفحتين عن سيرجيو دي ميللو، يفترض أن أضعها في مقدمة حوار وشيك معهِ تصرخ بي: تكتب مقدمة عن الرجل ولم تقابله بعد؟
أجبتك: هي جزء من النضالِِ لكي لا تشغلنا معاركنا اليومية في بغداد وتنسيني اللقاء، لكي أحرص وبلا هوادة من أجل لقائه.
وماذا أقول عن البرازيلي الذي لم ينسه غبار بغداد وحرها ووجعها، أناقته التي تبرزه كما لو كان خارجا للتو من صالون للتجميلِ الخمسيني الذي يتحدث في قاعة قصر المؤتمرات الكبيرة ويشعر كل من في القاعة بأنه ينظر إليه، أي يتحدث له وحدهِِ هذه الكاريزما التي تقول كلمات قلائل، لكنها تدق كالساعة ناثرة موجات الرضى على الزمان والموجوداتِ
لم يقل ولم نسمع من دي ميللو كلمة واحدة، بل فكرة واحدة، ليست لصالح العراقِ
لم يتحاش سؤال صحافي واحد، كان يقول كل ما يعرفه، ويتحملنا جميعا، الأسود والأبيض والأشقر والأشهب والأصفر، فهو الذي عمل في راوندا وكوسوفو ولبنان وتيمور والعراقِِ آخ العراق، الذي لم يمنحك نهارا آخرِِ
لم تضيف البرازيلي الوسيم كما يجب، لم تحبه كما أحبك، هكذا تفعلها حتى معهِِ مستندا على شاهدة قبرك بعد أي من السنوات، لأقول إننا سنفقد الرجل الذي لم يقل كلمة واحدة لا يريد أن يفعلهاِ
لم يجد عنان في كل طوابق الأمم المتحدة التي أرغب في تسلق مصعدها الكهربائي قبل الموت، في كل فروعها وهيئاتها المنتشرة في كل العالم، أفضل منك ليرسله الى العراقِِ لأنه ببساطة، لا يوجد أفضل منك يا أيها الإنساني الكبير.
ولن يعثر العراق، لا حصاته ولا أنهاره على أفضل منكِِ
فلكي أوضح: قرأ دي ميللو أكثر منا جميعا عن العراق قبل أن يصل إليهِِ كان لديه أعمق شيء يمكن أن يمتلكه مندوب سامي أو دبلوماسي يحترم نفسه وعمله هو 'الرؤية'ِ.
اكثر المسائل وجعا
كان لدى ميللو رؤيةِِ لذلك فرض نفسه على كل من وطئت قدماه أرض الرافدينِِ فرض نفسه على الوطنيين والمحتلين والعملاء والأشاوس السابقينِِ وكان يجيب عن أكثر المسائل وجعا: داوى العراق، غذى أيتامه وعجائزه، كفه غلالة بيضاء وشحت مستشفيات البلاد المنهوبة، في غضون شهر، كان أكثر من خمسين مستشفى تعمل في بغداد وحدها بكامل قواها العقلية والطبيةِِ
من يفعلها غير دي ميللو؟
من لا يجلس في مكتبه غيره؟
من كانت تقاريره تصل الى كل الصحافيين والوكالات في بغداد مطبوعة أنيقة مثله؟
من كان يتوجع لأي ذبابة تطير على وجه طفل عراقي؟
من أصلح مواسير المياه والمجاري وقنوات التصريف الصحي؟
من أزاح القذارة السائرة تحت أقدامنا وحول مياهنا فضة مجانية؟
من الذي حلم مثله بعراق أجمل وأبهى؟
من الذي كان يعلم ساستنا ضرورة الانفتاح على العالم؟
من الذي سافر الى الجوار يقنع هذا أو ذاك من القوميين أسرى الألحان والألوان بمد اليد للعراق في محنته؟
البرازيلي الأنيق وحده الذي كان يلم الشمل العربي!
البرازيلي المثقف من كان يطالب بالحرية والسيادة وخروج المحتلين
لو تنظرون الى كمبيوتره، ستجدون لجانا ومئات الآلاف من العاملين في برامجه،،
هو الذي كان يعمل هذه الأيام ليبرمج أفضل طريقة لإحصاء سكان هذا البلد التعيسِِ
هو الذي كان يقلق على الدستور أكثر من قاضي قضاتنا،.
هو الذي كان يردد عبارات السيادة أكثر من أي ماركسي حارب في الأهوار والجبال والسويدِِ
هكذا فرض نفسه على كل الألوان والمسميات في العراق، ولم يستطع أحد التعامل معه دون أن يحبه، فأسلوبه جاد وجديد وصادق، رسم للقضية العراقية شكلا شرعيا في الأمم المتحدةِِ
أي طفل وعجوز وصبي وشاب لم يجد عملا بعد هو الخاسر الأكبر بغياب دي ميللوِِ
دور قيادي
لم تعد الأمم المتحدة الى اللعبة، بل كانت تقودها بكيفها، وبحرفنة دي ميللو، دخلت صوتا وعمقا هادرا في العراق،، فمن كان يريد أن يجرح العراق مرة أخرى؟
سأطل على هذا السمو الذي صنعته يا صديقنا البرازيلي، سأجلس على مائدة كلماتي لأروي كل مرة بأني فقدت آخر الأصدقاء الأحياء في تلك اللحظة التي هدموا فيها أناقتك ولامسوا بشرتكِ
من أجل هذا سيقدم لك العراق لو قدر له أن يبقىِِ الشكر والأسف، وبمزيد من الرضا، سنذكرك في فتات الخبز وبقايا الفاكهة والماء النظيف ولقاحات الأطفالِِ
عذرا لأولادك وزوجتك وكل من ينتظرك،
حمدا لهذه الحياة التي قضيتها سحابة ترمي مطرها على الجميع، ولا تتلبد.
شد أزرنا فنحن خائرو القوى، مرغت أنوفنا أرذل الأيام
جبهتك صافحت السماء، ولم يمسسها تراب العراق.
حان الوقت لأستأنف البكاء عليكم أجمعين.