الأربعاء، 9 يوليو 2008

قنبلة موقوتة أسمها مزار شريف


" أيتها المدينة الميتة
يا مدينة الجنود والصيادين"
أ . ماتشادو

هي من طراز المدن التي لا تطوي الأسرار ، بل تحاكيها. وتتغير ما أن نظرت إليها لتشع في عينيك الصورة المتأرجحة في أحاسيسك. كالزهرة التي تتبدل بين الغدير والحديقة. سكونها سكون موتى ، وذكائها بحزن العشاق وجدرانها تنساب بلا نظام وناسها ينبضون تحت سواد ثيابهم أو بياضها فلا ألوان فيها غير الأسود والأبيض. وهي من طراز المدن التي تسحب زهو العواصم وتدق فيها الساعة الخامسة والعشرون : بطرسبورغ ، الإسكندرية ، البصرة وأمثالهم.
اخفت آثار الطلاب بسرعة رصاصة ، حيث لم تتآلف يوما معهم ولم تغرق بالجمود. تحررت قبل وصول طلائع المنتصرين ، لأن أحدا لم يستطع تفكيك أوصالها وترويضها. وكما الطريق إليها طويل .. طويل ، فلا تكاد تشعر فيها بأنك في أفغانستان. هي ليست لفة من لفات البلاد ، ناتئة ، داكنة ، بهائها محير ، لا يرى .. شديدة الحيوية وتعتمر بكل أسباب التناقض. طرية للذي يريد نقش أسمه على جسدها وكأنها في كل يوم تلد أبن غامض ،، وهنا تكمن مشكلتها : هي مرضعة لأبنائها وليس للغرباء.


إبهار فطري
في مزار شريف كل جمال البلاد ومتاعبها. وهِبَت الرذاذ ، الثلوج ، الأمطار ، المرتفعات ، البغال ، الجِمال ، الكمبيوتر و الروابي : أرضها مهيأة للحياة ؛ الكراهية والحب الوجود والانبعاث ، الأناقة والصلف …
ينتصب المزار في مركزها ، حيث لا تشك الأقوام المتعاقبة على البلاد بأن الإمام علي مدفون فيه. تظلل قبابه الحمامات البيضاء بلا كلل وتتلألأ حروف أفضل النقاشين في الإقليم على جدرانه وأقواسه المشكّلة لاستقبال الناظرين.
يتداخل الناس في مركز المدينة ويكاد كوكب الرياح يلوح بهم ويضاعف عددهم. ويبدو أن الكثرة الواقعية والمفترضة خالية من الشغل. وحتى في أعنف اللحظات التي مرت في تاريخ المدينة ، تراهم يتجمهرون بخناق الاجتماع بلا سبب عند الساحات وبقايا التماثيل وإشارات المرور العاطلة ونهايات الشوارع الصغيرة ومشاريع المقاهي المنتظرة. سلسلة من الخلق تدور بلا هدف وتستقر عند أقرب بقعة شمس في مهابة انتظار نهار جديد يحمل من الحدس ما يفوق الآمال والاختلاف ما يمحو الوئام.
بين جذورها المرئية وغير المرئية معاقل الجديد وعصارة أناقة البلاد. ولا تخلو يمنة فيها أو يسرة من متاعب الماضي والحاضر ، وكأن من حل فيها سيدا تربع على الطقس ليسير الهواء بمشيئته وكل الرعية عليها ترديد العبارة الوحيدة : مرحبا بك !
لا وجود لمؤسسة واحدة تعمل يوما كاملا لخدمة المدينة. فهي تمشّي نفسها بنفسها ولعل الحيوانات تنهض بهذا الدور أكثر من الإنسان : عربات الخيول لنقل المتنقلين ، الجِمال لنقل البضائع الثقيلة والحمير يدورون في دورة ما تبقى من بنية تحتية للمدينة.
وللأصحاء دوران لا ثالث لهما : الالتحاف بالساحات ومراقبة العابرين أو حمل السلاح والالتفاف على ظلال السادة وامتطاء سيارات الجيب والتبختر بحمل أكثر الأسلحة وزنا وقيمة.




الأمن المحروس
لا تلاحظ الكثرة من الأسلحة والمعدات العسكرية في أية بقعة في أفغانستان كما يمكن مشاهدتها في الطريق الى مزار شريف وفيها وحولها. وإذا كان الطلاب غادروا الإقليم والحياة السياسية كلها بالتراضي وجماعات القاعدة بين أسير ومقتول ، فلِمَ كل هذه العدة والعتاد ؟
فسر ذلك الجنرال مجيد روزي نائب حاكم الإقليم بعبارة واحدة : التحسب من الانفلات الأمني.
غير أن عسكرة الإقليم بهذه الطريقة هي التي ستؤدي لا محالة الى الانفلات الأمني حسب تجارب سابقة للحرب الأهلية في هذه البلاد وغيرها. ومهما حاول الجنرال روزي وهو من أمراء الحرب البارزين أن يكون لطيفا ، فهذه المودة مخصصة للصحافيين على الأرجح. وكما قال تشيخوف مرة ، بأن السلاح عندما يكون في يدك لابد أن تستخدمه عاجلا أو آجلا.
والسلاح في يد كل الأطراف هنا. ولا تخلو المدينة منهم وسلاحهم ، بل لا تغفو لحظة حتى تنجب مسلحين جدد وهكذا.
فهل تحرس كثرة المسلحين الأمن أم هي التي تهدده بالمقام الأول ؟




النفوذ بالشوارع
نفى أمراء الحرب مجيد روزي وبعده الجنرال عطا أسود أن يكون أي خلاف بين
" الرفاق " على تقاسم السلطة ، ونفوا أي خلاف عرقي. وهذا كلام. أما الواقع فيؤكد على أن سيطرة الأوزبيكي عبد الرشيد دوستم على السلطة ومركزيتها في الإقليم زلق الى حد بعيد. فهو دخل مع الجميع الى المدينة ومدن الإقليم الأخرى على سجادات القنابل الأمريكية التي فرشت له. وتراه يفطر في المزار ويتغدى في أوزبكستان ويتعشى في فيلته التركية. لا أثر واضح لديه في المزار أو أفغانستان. فكيف يدير الإقليم بدون تواجد يومي في " ساعات العمل " ؟
والخلافات لا يشترط أن تكون بالكلام والتصريحات ، فواقع الحال كفيل ببرهنتها. وزعوا مناطق نفوذهم حسب الشوارع. ولمتجول سريع في المدينة فرصة ملاحظة ذلك بدون صعوبات.
بالتالي ، فأن فرصة التصادم بين الأطراف المسلحة المقسمة على أساس أثني ليست واردة فحسب ، بل تحصل يوميا تقريبا.
فلا يعرف هؤلاء لغة أخرى للتفاهم غير السلاح الذي هو أثقل من لسانهم ودرايتهم ومعارفهم. حتى مثلا عندما صورناهم، لم يعرضوا وجوههم ، بل كانوا يضعون أسلحتهم أمامها. هذا التباهي الفارغ هو علة الأمن مع اختفاء العدو المشترك.
الطريف أن بعضهم يرتدي غطاء الرأس لجيش ألمانيا الشرقية !

طاجيكي بين الأوزبيك
الجنرال الطاجيكي عطا أسود رافق دوستم طوال الحرب الأخيرة وكان بحق قوته الضاربة. ولم تكن هذه الرفقة من قبيل المصادفة. فقد كان دوستم خاصرة أحمد شاه مسعود الرخوة ونقطة تفكك " التحالف " الشمالي على مر السنين. وكان لابد للطاجيك من اختراق هذه الخاصرة وتقويتها برجل اللحظة والزمان المناسب. ووقع اختيار مسعود على عطا أسود وأثبتت الأيام والأحداث اللاحقة بأنه لم يخطأ أبدا. وهكذا زحف أسود بالتدريج الى الإقليم وخاصة بعد غياب دوستم أو هروبه من مزار شريف أبان سقوطها بقبضة طالبان الى تركيا واستقراره وعائلته هناك.

مسعود كفل أسّود
كانت الساحة فارغة في تلك البقعة الشمالية من البلاد بعد أن استسلم دوستم وغادر الوضع السياسي والعسكري. وفي تلك الأيام أرسل مسعود واحد من أخلص مساعديه الذي عرف فيما بعد كعطا الأسود مع مائة مقاتل ليملئ هذا الفراغ.
لم تكن ثمة حرب منذ خريف 1998 وحتى 11 ديسمبر 2001 ، بل كانت مناوشات مستمرة وإزعاج أمني يفرضه كل طرف على الطرف الآخر بين الحين والحين. وتمكن أسود خلال هذه السنوات من تعزيز أنصاره ليصلوا الى 500 شخص ، في وقت تناثر أنصار دوستم مع هذا القائد الميداني وذاك وتفككت الأواصر بينهم حتى عودة دوستم منتصف عام 2000 ومحاولته رص الصفوف من جديد التي ساعده فيها أحمد شاه مسعود وروسيا وأوزبكستان. واتفق وقتها أن يكون عطا أسود نائبا له. استمر الوضع هكذا لغاية اللحظة الحاسمة في سبتمبر الأمريكي.
ومع بداية التحضير للحملة الأمريكية كان عدد جنرالات دوستم يزداد وكذلك أنصاره ولم تبخل روسيا وأوزبكستان والى حد ما تركيا ومن ثم الولايات المتحدة وفرنسا عليه بأي شيء حتى أصبح قوة لا يستهان بها في أكتوبر 2001. ولم يكن ثمة حاجة ولو لإظهار الخلاف بين أمراء الحرب ، لأن العدو المشترك كان أكثر الكوابيس إلحاحا بالنسبة لجميع الحلفاء.
صراع الغنائم
غير أن الانتصار السهل والمريح الذي تحقق في مزار شريف حمل معه المدّعين كما جرت العادة. والاسترخاء في مدينة بعد منافي الجبال يطرح على الأمراء الحصول على المزيد والمزيد من الغنائم ، لا سيما وأن أي رابط لا يوجد بين الطاجيك المتعطشين للسلطة والأوزبيك الذين يتملكهم الإحساس بالاضطهاد والغبن. وفي النتيجة تدخل الى شارع يمتلأ بالمسلحين الأوزبيك لأن فيه مؤسسة يديرها أوزبيكي ، وتنعطف في الشارع المقابل لتجد المسلحين الطاجيك لأن هناك مسؤولا طاجيكيا. ويسيطر الشعور بأن كل من يجمهر المسلحين حول بنايته التي أنعمها عليه الانتصار يعتبر نفسه ملك البلاد.
ماذا سيحصل لو خطر ببال الصدفة خروجهم في لحظة واحدة ، أو رغبتهم في تناول الغداء في مطعم واحد ، أو مجرد لآمة من أحدهم لزيارة موقع حكومي خلال زيارة آخر ؟ ونظرية الاحتمالات الدموية تتسع للمزيد من فرص التصادم المبرر وغير المبرر. فمثلا ، تحدث أسود طوال الوقت عن التنسيق والتفاهم والسيطرة على الأمن وحتى استنكر وجود اختلافات بين قادة الإقليم وفضل أن يلقي الذنب على الصحافيين باختلاقها. ولكن ما أن خرجنا منه حتى لعلع الرصاص إيذانا ببدء جولة دورية من المناوشات بين جماعته وأنصار دوستم !

عذرهم أنها أيامهم الأولى في السلطة على بلد غطي بالنار ومسحه الدمار الشامل. ولابد من الاعتراف بأنهم يستقبلون الناس البسطاء في مكاتبهم على طريقة مشايخ العشائر. يستطيع أي من سكان المزار مقابلتهم وعرض مشكلته وأبوابهم مفتوحة للجميع وكنا شهود على ذلك. ولا يتعاملون مع الناس بترفع ،، ولهم بساطة الأفغان وربما طيبتهم عند التعامل في القضايا الاجتماعية والإنسانية. ولكن المشكلة تنحصر في الأولويات ؛ أي أنهم يهتمون بأنصارهم المسلحين في المقام الأول ، بينما لا حيلة لهم أمام السواد الأعظم من البشر. وهذا أمر مفهوم وقد يكون طبيعيا في المرحلة الأولى من السلام. ولكن الخشية في أن يستمر الحال هكذا كمنظومة جديدة لمسيرة الحياة.
رحيل القوات الدولية
فهم الدوليون معادلة مزار شريف مبكرا. وأدركوا بأنهم يجلسون على قنبلة موقوتة حقيقية. لذلك فضلوا سحب شبابهم بسرعة وترك الحبل على الغارب. فقد انسحبت القوات الفرنسية من مطار المدينة ما أن أكملت الترميمات اللازمة فيه. وبقت هناك القوات الأردنية في منطقة يصعب الوصول إليها أو فهم مهامها. لا وجود لأجانب مسلحون إطلاقا في شوارع المزار ، بل لا يلاحظ الأجانب عموما. ثمة موظفين الأمم المتحدة فقط.
شواهد عربية
لا تزال بعض الشواهد التي تثبت وجود " الجالية " العربية في مزار شريف. فهناك الحمامات المصرية وحتى يافطاتها مكتوبة بالعربية. وفي الأسواق لم تنفد بعد جبنة دمياط أو الفول وغيرها من المأكولات العربية.
وجدنا صحفا عربية في إحدى المقاهي أيضا. في حقيقة الأمر كانوا ينظفون بها الزجاج ولم تترك للقراءة.
هذا ما تبقى منهم إضافة الى الأسرى : حمّام وجبنة وصحف لتنظيف الزجاج !