الخميس، 10 يوليو 2008

العرب في أفغانستان طليعة البناة ورواد الأعمال الإنسانية


كثرت أطنان الورق وتصاعدت أشرطة التسجيل الإذاعي والتلفزيوني وانشغل الفضاء طوال الأشهر الماضية ببث كل ما من شأنه إظهار العرب والوجود العربي في أفغانستان وربطه بما يسمونه " الإرهاب " ، لدرجة أن مسؤولين أفغان كبار كوزير الخارجية الدكتور عبد الله عبد الله عندما كان الصوت الفريد المسموع للتحالف الشمالي طلبوا منا أن نخبأ لساننا العربي وننتسب الى أية ملة مناسبة ولو باللسان. وكانت الآلة الإعلامية تحيك وقائع حرب المعلومات وتطحن وتغزل ما تشاء مع ندرة التواجد الإعلامي العربي المؤثر.
في هذه الظروف القاسية كنا أول صحافي يدخل أفغانستان بجواز سفر عربي ، ولعل أي متابع يدرك أو حتى يتصور صعوبة تلك الأيام. وكان همنا الأول ينصب في معرفة حقيقة ما يجري على " العامل العربي " في هذا الصراع ، إلا أن صاغت الأيام الطويلة ورحلة البحث المستمرة هذا التحقيق الذي لابد أن يكون بمثابة جزء من الرد على التنكيل الذي تعرض له العرب في هذه البلاد بسبب ( وهذا أمر مفهوم ) وبدون سبب ( وهذا لا يمكن غفرانه ).
ولنبدأ بطرح السؤال : هل أن كل العرب الذي مشوا على أرض أفغانستان وتزدحم بهم السجون والحاويات والأقفاص والقبور واحرقوا بدون إعطائهم فرصة للاستغاثة كانوا " إرهابيين " ولم يقدموا شيئا الى الشعب الأفغاني ؟
هل نبدأ بقنوات المياه العذبة والآبار العميقة التي شيدها العرب في باطن أرض أفغانستان ؟
هل نترك لعدستنا تصوير مشاهد المنارات الفضية والقبب الوضاءة التي تطل على خرائب كابول ؟
فليسألوا المواطن الأفغاني العادي كيف كانت توضع على مائدته يوميا وبلا انقطاع 5 أرغفة من الخبز نتاج مشروع الرشيد الخيري لإطعام الشعب الأفغاني ؟
ألم يفتح لهم العرب المدارس ؟
ألم يرمموا المستشفيات في أفغانستان ويدفعوا أجور الأطباء ويحملون الدواء على ظهورهم حتى أبعد قرية أفغانية ؟
ألم يدخل العرب أول أجهزة الكمبيوتر الى كابول ؟
ألم يفتحوا دورات تعليم الكمبيوتر واللغة العربية و الإنكليزية ؟
ولنسأل : من بنى غير العرب : المساجد ، المدارس ، المستشفيات ، دور العلوم ، دار الأرشيف ، المكتبات … الخ ؟
من رمم شبكة الاتصالات التي تطن في إذن البلاد الآن غير العرب ؟
من ضخ السيارات والباصات والشاحنات الى طرق أفغانستان غير العرب؟
من أدخل أول مطبعة حديثة وبطاقات البريد غير العرب ؟
هذه الشواهد تسبق الأحداث ونريدها جزء من " حرب المعلومات " المضادة حتى لا تكور السنون هذه التساؤلات وتمحى في ذاكرة العصر الدكناء.
مساجد وخرائب
نعترف بأننا في بداية هذا العمل وقعنا في طلاسم حرب المعلومات الغربية وصال في ذهننا شعور بأن العرب اهتموا ببناء المساجد ودور التعليم الديني فقط في أفغانستان. لذلك كان التجائنا الى وزارة الشؤون الدينية والأوقاف طبيعيا لاستكمال المشهد.
تقاذفونا ككرة بأقدام لاعبين غير مهرة ، وعذرناهم لأنهم جزء من حكومة " مؤقتة" ولأنهم مؤقتين وربما موقوتين. وكان السؤال عن الأعمال الخيرية التي قام بها العرب في أفغانستان من الحرج الى أن وصل الأمر أن رتلناه ترتيلا بثلاث لغات ، لا وللحق حتى اضطرتنا الآهات أن ننشده بلغة الداري المحكية ؟!! وكان الموظف ومسئوله ، القاضي بشرع الحكومة وحامل عقيدة المنتصرين ، وكيل الوزير وموكّل الشعب ، الوزير بجلالة رفعته وعظيم قدره ، تتمايل بهم الكراسي وتصفق أيديهم كطير مجروح ، لا يفرقون بين أوراق اليوم والأمس ، حال سماعهم هذا السؤال الصحافي البريء. وبدلا من الجواب نسمع السؤال : ما الذي يهمك في معرفة هذه الأعمال ؟ ونضطر للتعريف بأنفسنا : الصحافي خلال العمل يوجه السؤال ولا يجيب عليه. هذا عمله كما سنته اللوائح. ومن جديد نسمع السؤال : لماذا بالذات الأعمال الخيرية للعرب ؟ وتكفينا هذه العبارة لحسم الأمر : أقرأ اعتمادنا أمامكم أيها السيد ، أننا نمثل صحيفة عربية وهذا شغلنا؟
وهكذا حاصرنا المسؤولين الى الحد الذي التجئوا فيه الى الأسلوب المعتاد : تحويل الصحافي الى كرة والتبادل بها في مناولات في خط الوسط وإرجاعها الى منطقة الدفاع عندما يزيد الضغط الهجومي ، ولعلهم أسكنوها في مرماهم أخيرا عندما قررنا الاعتماد على أنفسنا كما لو كنا نعيش في " جزيرة الخرسان والعميان والطرشان ".
وكان رجل الشارع ملاذنا ، ولأن المساجد هي الأعلى والأكثر تأثيرا والأقدر انتشارا لكونها تعلن عن نفسها 5 مرات في اليوم ، فكانت مسألة البحث عنها هي الأسهل.
وفتح لنا كل مسجد الأبواب للمساجد الأخرى ، فهناك الأئمة وسدنته ومريديه ومن كل فم يمكن التقاط معلومة تفيد سير التحقيق. ولم نخف فرحتنا وبهجتنا وفخرنا عندما علمنا أن أربعة من المساجد الرئيسية الخمسة في كابول بناها محسنون مجهولون من الكويت ، أما الخامس فساعدت في بنائه منظمة خيرية سعودية. وفي المستطاع عدها والتعريف بها :
- مسجد " بول خشتي " في منطقة بول خشتي ، بنته دولة الكويت.
- " المسجد الكويتي " في مركز كابول ، بنوه الكويتيون كما يدل أسمه.
-مسجد " حضرت خير البشر " مع مدرسة ملحقة به بنته السيدة الكويتية مريم شوق الرشيدي في منطقة خير خانه في كابول.
- مسجد " درسال " بناه الحاج الكويتي إبراهيم الناصر الهاجري في منطقة هسه أول خير خانة.
وكانت الحقيقة الصريحة الأولى التي كنا نبحث عنها شاهدة بلا غبار أو ضباب أو ثلوج ، تسطع عليها الشمس : أن العرب كانوا يبنون على هذه الأرض ! وليس هذا فحسب ، كانوا يديرون هذه المساجد بأموالهم وليس بحسن نواياهم فقط ، يدفعون أجور كل العاملين فيها وينفقون على ترميمها وكافة احتياجاتها ويدفعون أجور الخدمات الأخرى بدون كلل.
انبثاق المياه
وفي أقسى الظروف الطبيعية التي تعرضت فيها أفغانستان لموجات الجفاف والتصحر وغير ذلك من عوامل يباس الطبيعية المألوفة في الإقليم لندرة تساقط الثلوج في بعض المواسم التي تعتبر مصادر المياه الأساسية هناك ، كان العرب يخوضون " معارك التصدي " للجفاف ويبادرون قبل غيرهم للاستجابة لنداء الأفغان بلا جدل لتشق آلياتهم الأرض الصلبة وتخرج المياه العذبة من كل بد وجب. وكانت أعمالهم تتجسم على الأرض وعلى موائد إفطار الناس وعلى وجوه الأمهات وعيون الأطفال الشديدة الحذق.
لا يمكن لأفغاني تذوقت أرضه المياه وأطلقتها خمائل ونافورات بعد طول انتظار نسيان ذيولها الطويلة المنحدرة على المساحات الهائلة المتشققة. كان العرب يعيدون بهجة الحياة لذرات الأرض الأفغانية ويكتشفون صورتها بلا لبس أو إبهام. فحسب المفاهيم الحديثة لقوائم الأمن الفيدرالية يعتبر المسجد وكرا للدعاة ومخازنه تخفي أسلحة دمار شامل ، ولكن ماذا عن كل هذه المسرّة وشرانق الروح والأشجار السابحة في حضن ماء يسري عابرا على سلاطة الطبيعة وقسوته ؟

دور العلوم
فقط الروس يفوقون العرب في أفغانستان في هذا المجال وليس في ذلك مفارقة كما نظن ، فالروس أساسا متفوقون على العرب علميا في العصر الحديث. ولهذا تقاسم الجانبان مجال العمل الإنساني ( الصرف والتطبيقي ) في هذا المحور. وكل طرف ترك للآخر الحيز الذي لا يفهم فيه. وإذا كانت وقفتنا الحالية تخص العرب وحدهم فلا بأس من تأجيل الحديث عن الآخرين.
انشأ العرب دار العلوم العربية في كابول. وهي دار كبيرة ، بل معهد متخصص فيه أقسام تدرّس فيها كل المعارف الإنسانية ( عدا العلوم التطبيقية ) وليس مؤسسة تهتم بتعليم اللغة العربية كما ينوه اسمها. وكان الداخلون من بوابتها الرئيسية أكثر من الخارجين. تعلم في الدار خيرة المختصين الأفغان والباكستانيين والإيرانيين والعرب في مجال اللسانيات والأدب والنحو والصرف والفقه والشريعة والتاريخ والفلسفة والقانون الدولي والسياسة والجغرافيا وغيرها من الاختصاصات النادرة التي لا يتسع ذكرها كلها.
كانت الدار التي شاركت في تمويلها أربع دول عربية على الأقل تضيء الإقليم بالخبراء في المجالات المذكورة في وقت كان فيه دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان وحاملي رايات الحرية الدائمة يضخون ويغدقون بأسلحتهم العتيقة في حضن الحركة الفتية التي أشاعوا تسميتها فيما بعد طالبان !

أرغفة الرشيد
وقد يتنبأ كمبيوتر الديمقراطيين ويخبر أصحابه بأن " دار العلوم العربية في كابول " مؤسسة شريرة لأنها تدرس الفقه والفلسفة لدين غير ودي بالنسبة لهم. ولكن ماذا عن مشروع الرشيد العملاق ؟
هذا المشروع تبنته العربية السعودية والكويت والإمارات بشكل أساسي وهدف الى إطعام الشعب الأفغاني يوميا.
ولابد من التأكيد بأن أرغفة الخبز الخمسة التي كانت العائلات الأفغانية تحصل عليها يوميا بفضل هذا المشروع كان تخلو من المنشورات الإرهابية والدعائية. كان أي شخص يذهب الى المخبز ويستلم حصته اليومية ( لا تفت على أحد بالطبع العلاقة بين عدد أرغفة الخبز وعدد الصلوات في اليوم ). وربما تحول رقم 5 الى رقم إرهابي لأنه يشير الى عدد الصلوات في اليوم فمنعوا المشروع وأغلقوا المخابز وأسكنوا القائمين عليه سجونهم الغنّاء.

العلوم المعاصرة
ولو كان في كل الأعمال الخيرية المذكورة أعلاه ارتياب وربط بشكل ما بقوائم الشر لأصحاب الحرية الدائمة فلا نعتقد أن باستطاعة شطارتهم إيجاد منفذ ما للتشكيك في حسن نية مشاريع مثل تعليم الإنكليزية والكمبيوتر.
فالإنكليزية لغة ليست إرهابية على حد علمنا ولا تعلم فنون الكمبيوتر له علاقة بالإرهاب. فلماذا أغلقت هذه المعاهد التي كان العرب يديرونها في كابول ومزار شريف ؟ وفوق ذلك نهبها أهل البلاد الأصليين بشكل مباشر دون أن يشير " الدستور " الأفغاني الى موضوع الخصخصة بعد !
كان المئات من الشبان الأفغان يتلقون تدريبهم في هذه المعاهد التي يتراوح حجمها من شقة مفروشة الى فلة فسيحة. وبالمناسبة فأن أول من أدخل الكمبيوتر الى أفغانستان كانوا عرب الإمارات والسعودية. وهذه ليست أقوال شهود عيان فحسب ، بل وثائق الجمارك الأفغانية يخليها الله لنا ويحرسها.


الاتصالات والمواصلات
ويشهد التاريخ المعاصر لبلاد الأفغان ما فعله العرب في مجالي الاتصالات والمواصلات.
لقد ساعدت دول العرب وجمعياتهم الخيرية على ترميم البنية التحتية لقطاع الاتصالات الأفغانية التي ويا للمفارقة بناها من ألفها الى يائها " الملحدون " السوفيت!
كانت كل أجهزة الاتصالات الحديثة تضخ من دولة الإمارات بشكل أساسي وليس الأمر تجاريا بحتا كما يبدو للوهلة الأولى ويكفي النظر الى أي كارتون ملقى أو تحفظ به أدوات قديمة لمعرفة مصدره.
وكذلك الحال مع وسائل النقل. فبغض النظر عن الحمير ، فأن كل الآليات التي تسير في الشوارع الأفغانية تقريبا مصدرها أما الإمارات أو باكستان. ولا ينبغي أن يفهم الأمر من وجهة نظر الدورة التجارية بين بلدان الإقليم فحسب ، بل من ناحية العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي سمحت وأهلت التواجد العربي وساعدت أفغانستان في مجالات حياتها الحيوية.


المجالات الاجتماعية
لا توجد أكثر من المدارس والمستشفيات ارتباطا بالعائلة العادية. ومع ذلك لم يبن العرب مشروعا خيريا واحدا في أفغانستان دون أن يلحقوا به مدرسة أو مستوصف تعنى بصحة العاملين فيه وأهل المنطقة. وبنوا المطابع التي شغّلت المئات وطبعت الملايين من كتب المدرسة ومناهج الجامعة ودور العلوم الأخرى.
بناء على هذه الحقائق ألا يحق للعربي العامل أو الزائر لأفغانستان أن يعلن عن هويته بكل فخر واعتزاز دون أن يطلب منه وزير الخارجية طمسها والتحدث بأي لسان حفاظا على أمنه وسلامته ؟
ألا تكفي هذه الحقائق المصورة والخالدة في نفوس الأفغان العاديين ومعداتهم على مجابهة حرب المعلومات القذرة التي راح أغلب أبناء جلدتنا ضحيتها دون تفريق بين اليد التي تحفر بئر وتطعم جائع وتطبع كتاب وتعلم على الكمبيوتر وأخرى تمسك بزناد بندقية ؟