السبت، 12 يوليو 2008

صراحة مع الجنود الروس


يُنقل القليل عبر وسائل الإعلام عن الحالة داخل القوات الروسية في شمال القوقاز والظروف التي يعيشها الجنود الروس. وكان الصحفيين الروس يجلسون في خيمة الإقامة الجبرية بانتظار أن توزع لهم نشرة الصباح التي يعدها المركز الصحفي التابع للقوات تتضمن آخر أنباء الجبهة والقتال. ويتسابق هؤلاء فور استلامهم النشرة لإيجاد طرق نقلها لهيئات تحريرهم في موسكو.
لم يطلع أحد منهم كيف يقاتل الجيش الروسي ولا توجد لديهم معلومات عن وضع القوات ، أما المعلومات عن الخندق الآخر فهي مستحيلة ويترك كل صحفي المجال لمخيلته أو يشحذ هممها للتوقع فحسب.
تحدثنا مع ضباط الكمائن والهندسة الذين يشرفون على زراعة الألغام أو إزالتها. وتبين أن الألغام في هذه المنطقة ستصيد أجيالا متلاحقة ولمدة مائة عام وتكفي بعددها الهائل لإزالة كل الأحياء في الإقليم.
وقال ضابط آخر أن ما يعرضه التلفزيون هو كأفلام الكارتون عن الحرب ، فلم يستطع صحفي حتى الآن تصوير ما يجري على أرض الواقع.
وشرح ضابط آخر أسلوب القصف : تبدأ المدفعية والمنظومات الصاروخية بفتح " ممرات آمنة " لقوات الصولة الأولى ومن ثم تأتي الوحدات الرئيسية لتحتل المرتفعات وتتخندق بها ويجري التقدم على هذا النحو خطوة أثر أخرى. وأطلق على أسلوب الزحف هذا " التعشيش المربع ".
وقال لنا أفراد المدفعية بأنه ما أن يتلقون الأوامر من الراصد الذي يحدد الإحداثيات التي تنطلق منها النيران حتى يقوموا بإنزال الضربات عليها ويمشطون كل أطرافها. وعندما سألناهم : هل تتعاملون بالإحداثيات فقط ؟ ألا ترون موضع إصابة قذائفكم ؟ ألا تخشون أن تصيب قرى آمنة أو بيوت هي ليست سوى أكواخ طينية ؟
اجابوا بأن هذه مهمة ضابط الرصد وكل شيء يعتمد على ضميره ولا تتعدى مهمتهم سوى التنفيذ !
وعندما تحدثنا مع ضابط الرصد أجاب بشكل عسكري صرف بدون أن يولي للضمير أهمية تذكر : هناك طريقتان في القصف ؛ أما أن ندمر الجميع وكل شيء بلا تمييز أو تنصرف العصابات من تلقاء نفسها !!
وأحيانا يحصل ما يلي : " حررنا قرية وقمنا بتطهيرها وبعد يوم واحد أفراد العصابات بشكل لاجئين وبدئوا يطلقون النار خلف ظهورنا ".
ولمعرفة معنويات الجنود تحدثوا معنا في البداية كمن اتفق على عبارة واحدة عن سبب وجودهم هنا : " من أجل الوطن " ! ومن الواضح أن جنودا أعمارهم بين 18 - 19 يرددون هذه العبارات بدون وعي ولمجرد إملائها عليهم من الضباط مسبقا في حالة لو سألهم هذا الصحفي ذي الملامح الشرقية المتطفل عليهم.
وأمام أجوبتهم التي تشبه ما يقوله الروبت بدأت بتوجيه أسئلة يفهمونها وتقترب من وعيهم : هل تشتاقون للبيت .. منذ متى وصلتكم آخر رسالة من الأهل .. هل تتذكرون صديقاتكم .. كم مرة يعطوكم الغذاء .. كم بدلة عسكرية تمتلكون .. هل تستحمون جيدا وهل يوجد لديكم ماء حار .. كم رسالة تبعثون في الأسبوع .. هل تسمعون الأخبار الخارجية .. أين تنامون وكيف حالكم مع هذا البرد.. كيف يتعامل الضباط معكم .. ما هو المرتب الذي تتقاضونه .. كم شهر تبقى من خدمتكم .. هل ستوافقون على تمديد خدمتكم الى الاحتياط .. هل تريدون إكمال الدراسة بعد انتهاء خدمتكم ؟؟؟
وهكذا نزلت عليهم طائفة من الأسئلة " الإنسانية " التي تمس حياتهم بشكل مباشر. ونعترف بأنه مهما كانت قدرة الضباط على تهيئتهم لمجابه فضولنا فقد تمكنا من إدراك عمق الحالة التي يعيشها ويشعر بها الجنود الروس. ويمكن تلخيص " معدل " أجوبتهم على الأسئلة أعلاه كالتالي : تصلهم رسائل في البريد العسكري كل أسبوع .. لا يوجد من لا يشتاق لأهله فالبيت دائما أفضل كما يقول المثل الروسي .. يتناولون الغذاء ثلاث مرات في اليوم وهو غير سيئ .. لديهم بدلتان لكل موسم وهذا يكفيهم .. يوجد لديهم حمام ويحصلون على الماء الحار أحيانا .. لم يذقوا طعم النوم المريح منذ ثلاثة أشهر .. تعامل الضباط معهم نسبي ويعتمد في درجة أساسية على الضابط نفسه ومزاجه .. تبقت لهم أشهر معدودة فكلهم من المكلفين ولم يبد أحد رغبته في التمديد لخدمة الاحتياط .. يتقاضى الجنود 1200 روبل ( 50 دولار ) في الشهر ويصرفون لهم يوميا 800 روبل يوميا مخصصات الحرب. وقالوا بأنهم يستلمونها يوميا ، غير أننا لم نصدق ذلك حتى قال أحدهم بصراحة بأن هذا المبلغ يتم تحويله الى أهلهم .. ولم يعرف أحد إذ كان أهله تسلموا مخصصات الحرب هذه. ولا أحد يعرف لماذا تحول هذه المخصصات الى أهلهم.
وأظن بأن مسألة هذه المخصصات ستبقى معلقة وربما لن تصل إليهم أبدا. وتجدر الملاحظة أن أخطر مما قيل في الحوار مع الجنود هو موضوع انتهاء خدمتهم وعدم رغبة أحد بالتمديد حسب اللوائح المعمول بها ( بعد انتهاء المكلف خدمته لسنتين يوضع أمامه خياران : التسريح من الخدمة أو الاستمرار بها بعد توقيع عقد مع وحدته ). ولو افترضنا بأن هذا القانون سيسري ويحترمه الجميع فأن الوحدات الروسية التي تسيطر على الأراضي الشيشانية ستخلو بعد أشهر من أغلب الجنود الذين سينهون خدمتهم لأن أغلبهم من الذين قضوا أكثر من سنة ونصف في الجيش. وهنا ستبرز مشكلة كبيرة وهي صعوبة تعويض هؤلاء الذين اكتسبوا خبرة القتال والتعايش في ظروف الجبهة وتكيفوا الى حد ما معها بجنود جدد. ناهيك عن الارتباك الإداري والتعبوي الذي ستسببه حركة التنقلات هذه. وعلى الأرجح أن المقاتلين الشيشان على دراية بهذه المسألة جيدا.
ولا يعرف أحد من الضباط والجنود كيف ستؤول إليه الأوضاع ومتى سيبدأ المقاتلين الشيشان شن حرب العصابات ضدهم . غير أن أحدا منهم لم يعبر عن رغبته في استمرار لعبة القط والفأر هذه كما وصفوا بها الحرب وكانوا يميلون أكثر للحديث عن " التعايش السلمي " بعد " القضاء على العصابات " طبعا.