السبت، 12 يوليو 2008

خطة الأركان الروسية بشأن الشيشان

فلاديمير بوتين مع وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان الروسية - عدسة المدوّن


صرح رئيس الأركان الروسية أناتولي كفاشنين بأنه سيتم الانتقال الى مرحلة جديدة للعملية المعادية للإرهاب في الشيشان. والمرحلة هذه ستنحصر في استبدال العمليات العسكرية الواسعة النطاق بتأمين أمن السكان ونشاطهم الحياتي الطبيعي.
تجدر الإشارة الى أن مثل هذا التصريح سمع من القادة العسكريين الروس قبل أكثر من عام ، ودوت في ذلك الحين تصريحات عن " المرحلة الجديدة ". غير أن التصريح الحالي تلازمه بعض الإجراءات التنظيمية الملموسة. فجنود الحاميات الروسية تركوا أكثر من 200 منطقة مأهولة بالسكان لقوات الشرطة المحلية ( الشيشانية ) والمرسلين من المدن الروسية المختلفة. ويفترض نشر 100 - 120 شرطي في كل حامية.
وتركز خطة الأركان الروسية على إنشاء هيئات أركان عملياتية على مستوى المناطق يترأسها ضباط روس. وسيدخل في قوامها ممثلو أقسام الداخلية في المنطقة وأقسام دائرة الأمن الفيدرالية وقادة وحدات الجيش العاملون فيها. ويجب أن تتخذ هيئة الأركان العملياتية قرارات جماعية خاصة بتوفير الأمن في المنطقة المسؤولة عنها.
ويعني ذلك في الواقع أن وحدات الجيش ستحط رحالها في القرى والبلدات الشيشانية ، وبغير ذلك فأين يمكن إسكان آلاف الجنود ! وحسب قرارات كفاشنين فسيتخذ هؤلاء بنايات المدارس المحلية مقرا لهم حيث لا يوجد في القرى الشيشانية أدفأ منها. ومع ذلك تلعب المدارس في الحياة الشيشانية الراهنة دورا خاصا ، حيث انقطع الأطفال الشيشان عن التعليم منذ عهد جوهر دوداييف. لذلك صدرت الأوامر للجنود والضباط الروس المقيمون في المدارس تعليم التلاميذ الشيشان في النهار بالمناهج " العلمانية " المرسلة من موسكو في النهار والعيش في المدرسة بقية اليوم.
وقال الجنرال كفاشنين بأن المرحلة الجديدة ستشهد إقامة حواجز هندسية بما فيها حواجز للألغام حول مواضع الوحدات في المناطق السكنية. وفي الوقت نفسه تتم الآن عمليات " إكمال الخطط الخاصة بالطيران والمدفعية والمدرعات "
ويبدو واضحا أن أعضاء هيئة الأركان يستجيرون من الرمضاء بالنار ، حيث يؤمنون حماية القرى بحقول الألغام داخلها ويؤمنون حماية المقار العسكرية بالطائرات والمدرعات والمدفعية التي قد تدمر القرى في حالة تعرض الوحدات العسكرية المرابطة بها لهجوم مفاجئ ويعد ذلك أمثل أسلوب لتأمين حماية السكان.
إلى ذلك ، يعتبر وجود القوات بشكل دائم في المناطق السكنية أمر خطير للغاية من حيث المبدأ. ففي ظروف الحرب يتحول أي احتكاك في السوق أو الشارع الى نزاع دموي ، آخذين بنظر الاعتبار انحلال الجيش وتحول عمليات " التمشيط " الى نهب حقيقي وابتزاز صريح لسكان القرى بالرغم من أن " عملية حماية السكان تجري على قدم وساق وأخمص بندقية " !
وقد يفهم القرار الخاص بإنشاء الحاميات الروسية وسط الأماكن المأهولة للدفاع عن السكان كنية الى تحويلهم الى رهائن ، خاصة وأن الفكرة الروسية عن الشيشان لم تتغير ، فالعسكريون يميلون أكثر فأكثر الى تحميل كل الشيشان مسؤولية تفجير ناقلة مدرعة ما أو الهجوم المباغت لحرسها أو تعرض قافلة عسكرية لكمين. وأوجه هذا الميل كثيرة ، فمثلا يوقفون بعد كل عملية من هذا النوع جميع السكان وخاصة الرجال ويشبعونهم ضربا ومن المعروف أنه لا توجد فرصة للعثور على الفاعل باستخدام هذا الأسلوب ، فلماذا التمادي في استخدامه ؟ ناهيك عن أن البحث عن " المجرمين " ليست مهمة العسكريين ، بل هي واجب المحققين المحترفين.
في 24 نوفمبر 2000 أطلق مجهولون في سوق غروزني النار على جنديين ، وبعد ثلاث ساعات دمر العسكريون السوق وأحرقوه بعد أن نهبوا التجار ومن ثم منعوا البيع في المكان. تجدر الإشارة الى أنه في ظل انعدام فرص العمل في الشيشان يلجأ أغلب السكان لممارسة التجارة البسيطة لغرض العيش.
وتستند الأفعال الروسية " التأديبية " على الأيدلوجيا القائلة بأن السكان مرتبطين بـ " قطاع الطرق " ويؤثرون على تصرفاتهم ويعتقدون أن هذه الأعمال الانتقامية ستؤدي الى ردع المهاجمين. ويبدو أن قرار توزيع الحاميات في المدن والقرى انطلق من هذا المنطق : لن يهاجمنا قطاع الطرق طالما يعرفون أن ذلك سيؤدي الى تدمير قراهم. ولكن الأمر ليس على هذا النحو ، فأغلب المهاجمين لا ينحدرون بالضرورة من القرى التي يهاجمونها ، فضلا عن إيمان المقاتلين الشيشان بفلسفة مفادها أن تفاقم الوضع يسير لصالحها حتى لو كان ذلك على حساب أرواح السكان.
وهكذا فأن " تكتيك العقوبات " لم يبرهن على صلاحيته حتى الآن. فعملية تدمير سوق غروزني أدت الى انخراط شبان جدد في صفوف الأنصار وكانوا قبلا " سكان آمنين " ، علاوة على عدم وجود أحد يمكنه إقناع المقاتلين بالعدول عن التفجير أو نصب الكمائن ، فهذه أصبحت من أساليب حرب العصابات التقليدية التي تحولت الى ممارسة يومية.
وإذا نظرنا الى الفائدة السياسية من توزيع الحاميات فلا يمكن العثور على شيء منظور ، لأن الحملة الشيشانية منذ البداية أخذها الجنرالات على عاتقهم وتعد قضية الجيش الأولى. وتبقى الأحاديث عن " الانتقال الى السلم " مجردة من المعنى والواقع طالما لم تؤد القرارات السياسية الى تحقيق ذلك.
وبموجب القرار الأخير سيتوزع الجيش الروسي على عشر مواقع حصينة كبيرة وسينتشر 20 - 25 ألف عسكري ضمن 200 سرية تشكل الحاميات المذكورة. ومن الواضح أن تشتيت الجيش بحاميات صغيرة وسط السكان سيهل من مهمة المقاتلين للانقضاض عليها أو محاصرتها كل على حدة. بالإضافة الى أن المحطات اللاسلكية التي تجهز القوات الروسية بها غير مفيدة عمليا في الجبال فإن هذه الحاميات لن تتمكن من استدعاء النجدة. وحتى لو وصلت طلبات المساعدة فلا توجد وحدات احتياط سريعة الحركة يمكنها فك حصار حامية ما. وفي النتيجة ستضطر القيادة العسكرية لاستخدام المدفعية البعيدة المدى لدك القرى بحامياتها. أما الوحدات العشر الحصينة فتتكون من 50 ألف عسكري وترابط فيها أفواج الفرقة 42 الآلية وألوية القوات الداخلية الخاصة.
تذكرنا مبادرة الجنرال كفاشنين بالحالة في ربيع وصيف 1996 عندما كانت القوات الروسية مشتتة أيضا في نقاط إسناد غير حصينة ، لذلك استطاع المقاتلون الشيشان بسهولة في أغسطس من محاصرتها وتحرير غروزني ولم يستطع كل الجيش الروسي من نجدتها أو شق الطريق إليها. وتظهر حرب الألغام التي ينفذها المقاتلون الشيشان نجاح أسلوب حرب العصابات ، حيث يستطيعون إيقاف تقدم الوحدات المدرعة في اللحظة والمكان اللازمين. وبالنسبة لدور الطيران ، فلا يستطيع أحد تصور نقل آلاف الجنود بالجو في المناطق الجبلية التي يكسوها الثلج تماما.
لقد أخبر القادة العسكريون الرئيس فلاديمير بوتين بانتهاء العمليات الحربية في الشيشان منذ ربيع 2000 ونصحوه بإلقاء مسؤولية مطاردة " الإرهابيين " المتبقين على عاتق وزارة الداخلية والبدء بسحب قوات الجيش. غير أن بوتين أدرك الحالة الواقعية في الشيشان اعتمادا على مصادره الخاصة ولم يصدق تقارير الجنرالات. ولهذا السبب بقى الجيش في الشيشان وسيبقى. ولم يظهر بين الجنرالات الذين دفعوا بوتين الى الحرب بحماس كبير من يقول الحقيقة بأن " الجيش لم يحقق الانتصار النهائي ط وأن الوضع الراهن في الشيشان سيدوم سنوات لا أحد يعرف عددها ، وقد تكون هدف خطط هيئة الأركان الجديدة للتقليل من " سخط الرئيس " لا أكثر.