السبت، 12 يوليو 2008

المدينة المقطوعة عن الحياة


أنزلت القوات الروسية الضربات على العاصمة الشيشانية طوال الشهرين الأولين للحرب . وعانت غروزني من الحصار لأكثر من شهر. فلا توجد فيها أية وسيلة للحياة لا كهرباء وماء وتدفئة وكل شيء مقطوع عن المدينة.
وتعلم سكان غروزني العيش في ظل الأحكام العرفية والحربية. فهم يستخدمون الشموع والفوانيس ويحضرون الطعام بواسطة إشعال الحطب ويستخدمون الآبار للحصول على الماء بعد أن جفت مواسير المياه منذ ثلاثة أشهر ولذلك يعد السكان كل قطرة ماء ويضطرون لحمله مشيا بعد الحصول عليه من صهاريج نقل المياه التي تقف أحيانا في جنوب المدينة بواسطة أدوات منزلية لعدد كبير من الكيلومترات. وحتى هذه الصهاريج فتصل الى المدينة بعد أن يحالفها الحظ فقط دون الوقوع في مرمى الطائرات. ويخترعون مختلف الأساليب لإخفاء الأمتعة من الحرائق والسطو. وبحلول البرد طرحت مشكلة التدفئة بشدة . فقد اشترى البعض مدفآت حديدية مقابل 500 - 600 روبل وصنع الكثيرون المدفئات من قص البراميل الحديدية !
ويقتصد سكان غروزني بالمواد الغذائية حيث لا يوجد أمل في الحصول عليها في الأسابيع القادمة. وبعد قصف السوق المركزية في 27 أكتوبر 1999 أصبحت الأسواق خالية تماما من الباعة ويمارس بعضهم من وقت لآخر التجارة بما تبقى من مواد غذائية وأثر ذلك طبعا على ارتفاع الأسعار. فمثلا يساوي كيلو غرام البطاطا 16 روبلا وهو حتى في موسكو لا يتجاوز 5 روبلات. وأسعار الخبز في ارتفاع أيضا في حالة توفره ونفس الشيء ينطبق على كل المواد الغذائية الأخرى.
ولا تعمل في غروزني وسائل نقل . وحتى السيارات الخاصة التي كانت تنافس وسائل النقل العامة قبل بداية الحرب أصيبت بالقصف.
ونسى الناس في هذه المدينة منذ زمن الأشياء العادية الضرورية للحياة. كافة المستشفيات مغلقة رغم أن الأطباء بقوا فيها لحاجة غروزني الملحة للجراحين الذين يجرون العمليات الجراحية في بيوتهم على أضواء الفوانيس وبدون أية أجهزة خاصة لإجراء العمليات عدا المشرط والضمادات ! وفي الحالات الخطيرة يحاولون نقل المرضى الى المستشفى الوحيد العامل في الأراضي التي لا تسيطر عليها القوات الروسية في الشيشان ويقع في عروس مرتان أو المستوصف اليتيم في ستارو أتاغينيسك.
ويشتد القصف على غروزني بالطائرات والمدفعية الثقيلة والصواريخ القصيرة المدى ليلا و نهارا. ويبقى السكان كالعادة في البيوت أو الأقبية ويتركونها في الحالات القصوى بحثا عن الأكل ، الماء ، الكيروسين ، الأدوية أو الحطب. ولا يعرف أحد ماذا تفعل السلطات : لا تعمل محطات التلفزيون والإذاعة ولا تصدر الصحف . وبناء على كل الشواهد يتحصن الشباب المسلحون في البيوت المهجورة التي داهموها وفي الخنادق التي بنوها جيدا. ويمكن القول أن جيش المسلحين يتهيأ لصد هجوم القوات الروسية على المدينة وستكون هذه المعركة الحاسمة والتي تحدد مصير الحرب الثانية.
وقال لنا بعض الناجون من هذا الحصار بأنه في الحرب السابقة كان الناس يستطيعون مغادرة غروزني في أي اتجاه وكانوا يستقبلون اللاجئين في أقاليم روسيا كلها وفي بلدان الدول المستقلة كلها وحتى في " الخارج البعيد " ويقدمون لهم المساعدات الإنسانية. أما الآن فلا يستطيع سكان غروزني من مغادرتها . وهم ضائعون في تبادل الاتهامات. السلطات الشيشانية تقول بأن القصف المستمر يمنع الناس من الهرب والروس يدعون بأن المسلحين يمنعونهم من الخروج لاستخدامهم دروعا بشرية أو كوسيلة للضغط على روسيا من قبل الدول الكبرى.
مدن مدمرة
ومهما كلن الأمر فقد أدركنا بأن الوصول الى انغوشيا مشكلة صعبة للغاية. فحتى الذين وصلوا الى قرية أسينوفسكيا يعانون من الفوضى التي أدت بحياة قسم منهم. كما لا يحبذ الكثير من الناس ترك منازلهم والعيش بمهانة وبعض العائلات فيها مسنين لا يقوون على مشاق الطريق والرحيل الى المجهول.
ويعاني السكان في الشيشان أكثر من أي شيء آخر من القصف الجوي والمدفعي والصاروخي الذي لا يستكين. والقصف يستمر لأكثر من شهرين وتقوم الطائرات بعشرات الغارات في اليوم. فما هو عدد قواعد " الإرهابيين " هذه في أراضي الشيشان التي تستحق كل هذه الغارات ؟
وعلمنا بأن كل هذا القصف لم يدمر قاعدة واحدة حتى الآن ولم تباد تشكيلة شيشانية ولم يقتل قائد ميداني واحد ؟ فلمن توجه كل هذه القذائف؟
وكما نقل لنا الأهالي في الشيشان ، فقد أدى قصف سوق غروزني الى هلاك أكثر من 140 شخصا وجرح 200 نتيجة القنابل الروسية " الذكية" على السوق ودار الولادة القريبة منه. لم تشهد الحرب السابقة والحالية هذا الكم الهائل من الضحايا بغارة واحدة. وحسب رواية العسكريين فأنهم أخطئوا هذه المرة الهدف ، إذ كانوا يصوبون نيرانهم الى منزل بساييف الذي دمروه بعد ستة أيام فقط. وثمة رواية أخرى تفيد بأنهم قصفوا السوق الذي يستخدم لتجارة الأسلحة. ومهما اختلفت الروايات فلا يوجد مبرر واحد لهذا العدد من القتلى والجرحى.
لقد أظهر الجنرالات الروس من جديد استخفافهم بالأرواح الشيشانية ( لأنهم يؤكدون في كل مناسبة حرصهم على أرواح الجنود الروس ).
ويلاحظ الناس الذين تعرضوا للقصف الاختلاف في كمية ونوعية القنابل وطريقة توجيه الضربات في الحرب الحالية عن السابقة. فلم يكونوا يلجئون في الحرب السابقة الى القصف الشامل لنقطة واحدة. أما الآن فأن الضربات الجوية على قرية إليستانجي كانت بتلك الشدة بحيث دمرت كافة بيوتها. وفي نتيجة قصف قرية نوفي شاروي في 22 نوفمبر 1999 قتل وجرح 16 شخصا على الأقل. وكانوا يقصفون بلدة سامشكي المسكينة خلال أربعة أيام متتالية ونتيجة ذلك لم يدمروا بيوتها فحسب ، بل انتزعوا حتى أساس هذه البيوت كما أقسم لنا شهود عيان ، خرجوا من الجحيم بالصدفة. ولم يبالغ الناس إذ يخبرونا بأن القصف يجري وكأنه يوجه دائما الى أكبر حشد من الناس !
وفي مدينة شاتوي قالوا لنا بأن النجاة من القصف تقل فرصه من يوم لآخر ، لذلك اضطر الأهالي الى النزوح للجبال القريبة والعيش في كهوفها حتى تزهق أرواحهم بموت بطيء من البرد والجوع والفزع.
وتطلق الطائرات صواريخها بانتظام على الطريق الوحيد المؤدي الى السهل ومن ثم الى انغوشيا. وفي كل مرة يقع المدنيين في المصيدة يترصدهم الموت والعنف في كل مكان.
قال الناس هل تكتبون عن كل ذلك . أجبتهم بأننا سننقل كل آهاتهم وأنفاسهم كما هي بلا رتوش. وحدثناهم عن سبب وجودنا معهم لأن وسائل الإعلام الروسية لم تتحدث عن مصائبهم وتعرج عليها أحيانا وتذكر اللاجئين فقط جراء " الضغط الغربي" أساسا. وقلنا أن الشعب الروسي لا يريد أن يعرف محنة الشعب الشيشاني على ما يبدو فهو واقع في أسر الوهم الناشئ بشكل مفاجئ حول الجيش القوي والحكومة التي لا تلين ورئيس الوزراء الذي لا يقهر ( وقتذاك كان فلاديمير بوتين ).
وأخبرناهم بأنه عندما اقترح زعيم " يابلكو " غريغوري يفيلينيسكي وقف القصف ولو لـ " دقيقة واحدة " لإجراء الحوار مع الرئيس أصلان مسخادوف لعنه الجميع فورا واتهموه بالخيانة العظمى بمن فيهم أنصاره الليبراليون اليمينيون والذين لم يؤيدوا استخدام القوة في السابق أبدا. وقلنا أن المجتمع الروسي يفتخر الآن بجيشه " المنتصر " ربما لأن الناس هناك تعبوا من شتم وإهانة الحكومة والجيش والدولة وكل البلاد. ولهذا السبب مسكوا بنهم بأول فرصة للتفاخر والعيش بـ " حماس " ولو مرة واحدة. ولذلك يضطر السياسيون المقبلون على انتخابات مصيرية الى السير في ركاب هذه الحالة الاجتماعية. وكما يحدث عادة يصمت كل شيء أمام الانتصارات الى لا نهاية لها حتى لو كان الأمر على حساب أرواح شعب كامل. والصحافة لا تريد المعلومات الصادقة ، لأنه بالأساس لا توجد طلبات على المعلومات الصادقة .. وهذه لا تهم أحدا على الإطلاق.