السبت، 12 يوليو 2008

جذور الأزمة الشيشانية

في الحديث الإذاعي الذي بثه الراديو الشيشاني في 15 يوليو 1998 بدأ الرئيس أصلان مسخادوف مواجهة الجميع ضد الجميع والتي كان مقدراً له ان تقع منذ أحداث عامي 1990 و 1991 . حمّل مسخادوف المسؤولية على " الأجانب " الذين جلبوا معهم أيدلوجيا غريبة على الشعب ؛ والمسلحون الذين ما انفكوا عن مواصلة الحرب وخطف الناس بغية الاتجار بهم ؛ الوزراء الذين يقفون ورائهم ؛ السماسرة وتجار الحروب وغير ذلك .. وأعلن الحرب على هؤلاء ، مبتدأ بمدينة غوديرمس التي اعتبرها معقل حَمَلة " الأيدلوجيا الغريبة " .. غوديرمس التي لم يستطع حتى الجيش الروسي من اقتحامها وقت المحنة والحرب .
في هذه المدينة يسكن الرئيس السابق والأمام الحالي سليم خان يندرباييف ووزير الخارجية الحالي مولدي أودوغوف الذي سيعفيه الرئيس من منصبه قريباً ، سكنها عندما كان صحفياً في جريدة محلية . ليس هؤلاء فقط يسكنون هذه المدينة ؛ ثمة 300 ألف شخص ساوى القصف الروسي منازلهم مع الأرض أيام النضال الجماعي من أجل الحرية . هناك القائد الميداني عربي بارييف الذي يشرف على المجاميع المسلحة في المدينة والمقرب الى أودوغوف والبعيد عن خطّاب الذي يكفي ذكر اسمه لبث الذعر في فرقة روسية كاملة ؛ هذا العربي ـ الشيشاني أو العكس ؛ رغم انه لا يحب هذه التسمية ويكتفي بالمسلم ؛ يسكن عروس مرتان وفي هذه المدينة يدرب الشباب الشيشاني على استخدام السلاح .أسمه الحقيقي أحمد ؛ دربه المصريون في بيشاور الباكستانية على أعمال التخريب ؛ تقول المصادر الروسية بأنه أردني وثمة من يقول بأنه سعودي . وبالمناسبة يعود الفضل الأول للصمود الشيشاني ومن ثم الانتصار الى مجموعة العرب الذين وصلوا من أفغانستان أو الأفغان العرب كما اعتادت صحافتنا تسميتهم . لم يكن هؤلاء يجيدون القتال وخاصة مع القوات الروسية فحسب ، بل علّموا الشيشانيين القتال بكل ما تحمله هذه العبارة من تفاصيل . أدخلوا الى جانب الأفكار الغريبة على الشعب الشيشاني كما قال مسخادوف كل ما أنتجته الحرب الأفغانية .. كل شيء ..
هناك إلى جانب ما ذكرناهم عبد الملك مجاهد والشيشاني الفاتح والسوري وحمزة غلاييف الذي كان يدعى روسلان وغيرها من الأسماء الحركية ، ومجاميع مسلحة مختلفة مثل كتيبة الخلفاء الراشدين وجنود القفقاس وجيش دوداييف وغيرها . وكما قال الكاتب الروسي تشيخوف : طالما يرقد السلاح قربك ، لا بد وان تستخدمه يوماً ما .
والمسلحون في غودرمس وعروس مرتان و ستاري أتاغي يتّبعون إرشادات يندرباييف، ويتبادل هذا المعسكر الاتهامات مع المعسكر المقابل في جروزني الذي يسيطر عليه مسخادوف وشامل بساييف الذي عُيّن قبل أيام بمنصب نائب القائد العام للقوات المسلحة الشيشانية . ولكن أي قوات هذه؟
فمسخادوف طلب عشيّة المصادمات في " ستاري أتاغي " حشد خمسة آلاف شخص من خريجي حرب التحرير الخاضعين لقادة مختلفي المواقف والمصالح والطباع ، ليكوّن منهم قوات مسلحة ، ولكنه استطاع بالكاد جمع 1500 شخص لا يجمعهم أي رابط عدا الارتزاق من مهنة الحرب . وهناك في المعسكر المقابل يسرقون النفط من الأنبوب المار بالشيشان الذاهب الى نوفيروسيسك عبر إستراخان ، طوال مسيرة الأنبوب تشاهد الثقوب التي تسرب النفط الذي يتحول الى سلاح حديث يوجه الى صدور رفاق الحرية . ولا يعرف أحد بالضبط ماذا يجري للنفط الشيشاني او النفط الذي يعبر الأراضي الشيشانية من أذربيجان والوضع الداخلي في الجمهورية مرهون بالنفط والسيطرة على خطوط إمداداته . ويستخرج من حقول النفط الشيشانية حوالي مليوني طن في السنة وتصل الكمية نفسها من إقليم ستافروبل وداغستان وانغوشيا الى مصفاة جروزني . وهذا لا يعني ان كل كميات النفط هذه تصل الى المصفاة ، لأن تكرير النفط يحتاج نفقات لا تتحملها خزينة الشيشان الخالية ، لذلك يقوم المسيطرون على النفط بعمليات أخرى مربحة . وعملياً يسيطر القادة الميدانيين على آبار النفط ويسرقون النفط كما ذكرنا . لذلك أعلن مسخادوف قبل حدوث المواجهة الحرب ضد وحدات تكرير النفط غير المرخص بها . وغير معروف هل تشمل هذه الحرب أصحاب الأنابيب المتفرعة من الخط المار بالشيشان وكيف سيكون الأمر مع أصحاب البيت ! لا يصل النفط الى المصفاة لأن المسلحون يبيعونه الى من يدفع نقداً . وثمة أسعار ليس لها علاقة بالأسعار العالمية ولا المحلية ( الروسية ) فسعر الطن قرب حدود الشيشان 40 دولارا وفي داخل الشيشان يمكن شراء طن من النفط مقابل 8 دولارات فقط . لذلك وجدت مافيا النفط الروسية لغة مشتركة مع المجاهدين الشيشان فالعملية مربحة حتى لو تدفع الضرائب والرسوم التي تفرضها السلطات الروسية ؛ ويمكن تخيل الربح إذا علمنا بانهم لم يدفعوا شيء مما ذكرنا . وللمسلحين الذين يحاربهم مسخادوف الآن مصدر آخر للرزق وهو تجارة المخطوفين الذين يمثلون الشركات الغربية والصحفيين والعاملين بمنظمات حقوق الإنسان والمساعدات الإنسانية ، فمثلاً دفعت القناة الروسية المستقلة 4 ملايين دولار لتحرير بعثتها التلفزيونية العاملة في الشيشان وطلب الخاطفون 7 ملايين دولار للإفراج عن فالنتين فلاسوف ممثل الرئيس الروسي في الشيشان ، كل هذه الأفعال لا بد وأن تؤثر على سلطة الرئيس الشيشاني .
وحلّ يندرباييف ثالثاً بعد مسخادوف وبساييف في الانتخابات الرئاسية ، ولا يريد الاعتراف بالهزيمة حتى اليوم ، وصفق الباب بقوة ورائه عندما اضطر على الخروج من المضمار السياسي في الجمهورية التي تعبت من السياسة أكثر مما تعبت من الحرب . حاول يندرباييف بعد مصرع جوهر دوداييف الدخول في لعبة سياسية كبيرة في الوقت الذي كانت فيه موسكو تجري مباحثات صعبة مع الناتو . وحين اقتحم يندرباييف مع مجموعة من الشيشان في 23 أغسطس وبعد ساعات من فشل الانقلاب الذي أراد الإطاحة بغورباتشوف مقر الكي جي بي في جروزني ، حاول الحصول على الملف الخاص به حتى لا يقع في يد من لا يحب ان يعرف ان نشاطه لم يكن يقتصر على العمل الأدبي وحده . ولكن رجال الكي جي بي استطاعوا إرسال بعض الوثائق الى موسكو وفق ما قاله الجنرال إيغور كوتشيبه رئيس لجنة أمن الدولة بجمهورية الشيشان ـ الأنغوش وقتئذ . كان يندرباييف قائداً للنضال من أجل استقلال الشيشان منذ عام 1988 وهو الذي اختار دوداييف لأنه الشيشاني الوحيد الذي أصبح جنرالاّ في الجيش السوفيتي . وكان دوداييف يعيش بهدوء مع زوجته الشاعرة الروسية آلا في بيت متوسط المستوى في المدينة البلطيقية فيلنوس ، وأراد يندرباييف ان يكون الجنرال الطيار قائداً صورياً فحسب ؛ ولكن دوداييف برهن له وللعالم بعد أشهر بأنه ليس من المصادفة أن يكون الجنرال الشيشاني الوحيد . وكان ياندرباييف وأنصاره هم الذين وضعوا تكتيك واستراتيجية النضال من أجل التحرر بالتنسيق مع الجبهات الشعبية في جمهوريات البلطيق . لهذه الأسباب رفض يندرباييف فكرة الانتخابات واعتبر نفسه الوريث الشرعي الوحيد لرفع لواء النضال بعد رحيل دوداييف . ويتهم اليوم مسخادوف العقيد البارز في الجيش السوفيتي ومن العقداء القلائل الذين أوكلت إليهم قيادة فرقة الصواريخ الاستراتيجية السوفيتية والذي ترأس الأركان الشيشانية قبل وطوال أيام الحرب المريرة وبعدها بأنه يعمل لصالح المخابرات الروسية ، بعد ان أراد مسخادوف نزع سلاح الفصائل الباحثة عن حرب والقضاء على الجريمة وبناء الحد الأدنى لبنية مجتمع حضاري .وتعرض بسبب ذلك الى محاولة اغتيال في 23 يوليو أكد للاستخدام المحلي بانها من تدبير المخابرات الروسية مساهمة منه في المزايدات ضد العدو المشترك ؛ رغم ان المتتبع العادي يدرك بان من مصلحة روسيا وجود مسخادوف قوي وعلى حد تعبيره في الخطاب الإذاعي الذي بثه الراديو الشيشاني بعد فشل المحاولة " لا يجوز لي ان أموت اليوم فأمامي عمل كثير " .
ففي الشيشان اليوم أكثر من 120 ألف قطعة من الأسلحة وأكثر من 3ملايين قطعة من الذخائر على اختلاف أنواعها بما فيها الخراطيش والقنابل اليدوية والعبوات الناسفة والألغام ؛ وعشرات الدبابات والمدرعات وأيضاً عشرات المدافع من مختلف الأعيرة وما لا يقل عن ألف قذيفة لكل مدفع ، ويمكن الحصول على مختلف أنواع الأسلحة وقت الضرورة . هذه الأسلحة تدل على ضعف السلطة وبكلمة أدق غيابها ، وسبق أن أبدى الرئيس دوداييف قلقه من ضعف السيطرة على الفصائل المسلحة وحاول ترويض هذه الكتائب التي لم تتبع لأمرته ، ولكنه لم يمض في المعركة ضدهم الى النهاية وارتكب أخطاء كثيرة فقد سمح لكل من يرغب امتلاك السلاح ، ثم حظر حيازة السلاح بعد فوات الأوان.
ومع حلول عام 1995 كانت كل أسرة شيشانية تقريباً تمتلك قطعة واحدة على الأقل من الأسلحة ( لا يزيد ثمن الرشاشة في سوق غروزني اليوم عن 200 دولار ) . ويبدو ان مسخادوف أراد ترتيب البيت الشيشاني من قسمه العسكري في الوقت الذي لا تتوفر فيه الظروف المواتية لتطبيع الوضع الاجتماعي والاقتصادي . ولكن كيف سيتسنى له ذلك وثمة أكثر من خمسين مجموعة مسلحة تتسابق اليوم لوضع الطرق البرية والسكك الحديد وخطوط الأنابيب تحت سيطرتها ؟
فالشيشان تبتعد أكثر عن الحد الأدنى من الحياة الطبيعية ، المدارس مغلقة منذ عام 1993 ، لا توجد مستشفيات الاّ واحدة في جروزني ، الخدمات الاجتماعية اقل من الصفر ؛ لم تكن الشيشان قريبة من الحرب الأهلية كما هي عليه الآن.