السبت، 12 يوليو 2008

إعلان الانتصار


بداية لمرحلة الحرب الجديدة

بعد استيلاء القوات الروسية على غروزني التي استمرت المعارك فيها قرابة شهرين تكبدت فيها القوات الفيدرالية أكثر من ألف قتيل وتبع ذلك فرض الحصار ومن ثم السيطرة على شاتوي ، استعجل الجنرالات الروس في إعلان الانتصار النهائي.
أخبر وقتها قائد القوات الفيدرالية في شمال القوقاز فيكتور كازانتسوف الصحافيين " سنعلمكم قريبا بانتهاء عملية تدمير قطاعي الطرق في كل الشيشان ". وأفاد الجنرال فاليري مانيلوف نائب رئيس هيئة الأركان بدوره في أن " حجم المهام القتالية المقبلة في الأراضي الشيشانية يسمح بتقليص تشكيلاتنا " و " تجري الآن التهيئة لسحب قسم كبير من قواتنا من الشيشان ". ويقرأ العسكريون الروس بفخر أمام كاميرات التلفزيون أسماء القادة الشيشان القتلى والجرحى.
من الممكن الاتفاق مع القادة العسكريين الروس بأن مقاومة الشيشان المنظمة قد دمرت لدرجة كبيرة في سير معارك غروزني وشاتوي. ومهما قيل على أن الانسحاب الشيشاني كان مخططا له ، الا أنه جاء مخالفة لأوامر الرئيس أصلان مسخادوف الذي أمر بالدفاع عن المدينة حتى 23 فبراير يوم التهجير الستاليني القسري للشعب الشيشاني. وصاحب الانسحاب تكبد القوات الشيشانية خسائر خطيرة بالأرواح. ومع ذلك لا يعني ذلك بالمرة القول بأن الحرب الشيشانية الثانية شارفت على الانتهاء. واستنادا حتى للاعتبارات العسكرية لا يمكن فرض السيطرة والمراقبة على الأراضي الشيشانية بتقليص القوات ، بل العكس بزيادتها. فللقوات الشيشانية أفضلية لا تجادل في مسألة شن حرب العصابات ، هم بالأساس مدربون على هذا النوع من القتال ويعرفون أرضهم بشكل مثالي تقريبا. ينصبون الكمائن ويضربون القوات الروسية في أية منطقة مناسبة لهم وبعد أن يدمروها يخفوا الأسلحة ويخرجوا الى الشوارع والأسواق ليختلطوا مع المدنيين وهكذا كما في كل حروب العصابات في التاريخ. ويساعدهم في ذلك الفوضى العارمة في القوات الروسية التي جاءت عملية غروزني التي حدثت قبل أيام لتؤكدها. تم الهجوم على فصيلة " ألفا " الموسكوفية والتابعة لمنطقة " سيرغي باساد" وتم قتل 37 فردا منها وجرح ضعف هذا الرقم في معركة استمرت 4 ساعات تبعد فقط 150 مترا عن أقرب وحدة روسية. قاتلت الفصيلة الروسية المحاصرة طوال هذه المدة بدون أن تحصل على تعزيزات وإمدادات من الوحدة القريبة منها جدا. ولا أحد يعرف كيف يمكن لتشكيلة محترفة مثل " ألفا " الوقوع في هذا الفخ. والسؤال المحير الأهم : كيف علم المقاتلون الشيشان بموعد ومكان تحرك الفصيلة بحيث تسنى لهم نصب كمين لها في الوقت والمكان المناسبين ؟ علما أن تحرك القوات في مثل هذه الحالات يعد من الأسرار العسكرية حتى بالنسبة للضباط الكبار !
وإذ تعلن القيادة الروسية بأنها استطاعت إنهاء 10 آلاف مقاتل شيشاني في المرحلة السابقة وتبقى 10 آلاف آخرين وهذه الأرقام حسب معطيات الجنرال مانيلوف ، فيعني ذلك أن 10 آلاف مقاتل انصرفوا الى الجبال أو مناطق أخرى لا علم لأحد بها. ولهذا السبب يصعب للغاية بناء الخطوط الدفاعية طالما لا يعرف من أي مكان تأتي الضربة.
ومن المشكوك فيه أن القوات الروسية بكل أصنافها تستطيع السيطرة على الحالة في الشيشان. يكفي التذكير بما حصل في أغسطس 1996 ، وبالتالي لا تأتي كلمات أصلان مسخادوف باسترجاع غروزني بالقوة مجددا من فراغ.
والقوات الروسية المتكونة من 100 ألف شخص تواجه في الجبال الآن مقاتلين تهيئوا للدفاع منذ فترة طويلة وأعدوا مخازن الذخيرة والمواد الغذائية وغير ذلك. ومهما بلغت القوة النارية التي تصب عليهم يوميا فهذا لا يعني شيئا فهم بحماية الجبال ووضعهم أفضل من وجودهم في المدن.
وتسنى للوحدات الروسية السيطرة على مخارج شعب جبال أرغونسكي وفيدينسكي وسدوا الطرق كما يقولون أمام 8 آلاف مقاتل شيشاني كانوا يحاولون اختراق الحصار والوصول الى داغستان أو جورجيا. وحتى لو كان الوضع كما أشير إليه فأن فرض الحصار لا يعني السيطرة على المنطقة خاصة إذا كانت جبلية. فليس لدى روسيا قوات أو معدات متخصصة لحرب الجبال عدا المظليين ومشاة البحرية والقوات الخاصة.
وتستخدم القوات الروسية الطائرات والمدفعية الثقيلة على نطاق واسع في الجبال. وأعلن العسكريون بأن سكان الجبال تركوها منذ فترة. وبذلك يمهدوا لاستخدام أي سلاح محظور. وجرى الحديث منذ أسابيع عن استخدام قنابل زنتها طن ونصف أو الحجمية وغير ذلك. غير أن تجارب حرب أفغانستان دلت على أن كل القنابل الجوية القوية جدا ومنظومات الصواريخ " غراد " و " أورغان " لا يمكنها لوحدها حل المهام بدون قوات مشاة.
وتصريحات الجنرالات ومن خلفهم القيادة السياسية بأن الحرب ستنتهي خلال أسبوعين تفاؤل مؤسس على أشياء غير مفهومة. ولها تفسيران : إما عدم نيتهم الانقضاض على الجبال بجد والاكتفاء بحرب الشعاب والقصف. وإما أن قيادة الجيش الروسي تأمل أن تحل التشكيلات الشيشانية نفسها قبل حلول الربيع ليعودوا الى بيوتهم أو يستسلموا.
والاحتمالان يرضيان العسكريين تماما من وجهة النظر السياسية ، فلن يضطروا لتكدير الكرملين المقبل على الانتخابات الرئاسية بأخبار عن معارك صعبة وخسائر فادحة بالأرواح.
والصراع في موسكو يؤثر كثيرا بدوره على وضع القوات ويفقد قادتهم التركيز على سير المعارك فقط. ولوحظ أن الجنرالات الكبار في الجبهة يشتركون أيضا بدسائس العاصمة. فلم يمر أسبوع بدون إشاعات مجهولة المصدر عن وظائف جديدة للجنرالات كازانتسوف وتروشيف وشامانوف. والأمر يشمل وزارة الداخلية أيضا حيث تجري فيها تغييرات الكادر باستمرار. وآخر نتائج الصراع من أجل المناصب اختتم بتولي رئيس الأركان أناتولي كفاشنين قيادة الحرب في الشيشان. هذا الجنرال الذي لم يخف طموحه لشغل منصب وزير الدفاع.
والحرب في الشيشان هي مادة الحملة الانتخابية الروسية الرئيسية وتساهم فيها وسائل الإعلام " الموالية " و " المعادية " للرئيس المؤقت فلاديمير بوتين.
وتصبح حجج الخندقين من يوم لآخر أكثر إثارة. ويكررون مبتذل الكلام ويوجهون مختلف الاتهامات بعضهم للآخر. فالمعارضون للحرب يرددون بأن " هذه الحرب ضد الشعب ومن المستحيل الانتصار فيها ". والموالون يقولون بأنه " ليس في الشيشان أشخاصا يمكن إجراء المحادثات معهم " وفي خضم هذا الصراع اليومي يهلك الناس في شمال القوقاز بالمئات كل أسبوع سواء من الجانب الشيشاني أو الروسي. وعندما يتحدث أحد عن إيقاف الحرب يسارعون في القول : " ينبغي القضاء على الإرهابيين نهائيا وإلا سيفجرون بيوتنا من جديد ".
وتحتدم المناقشات أقوى فأقوى ولا يلاحظ حتى المواطن الروسي العادي بأن الحرب تقترب من نهايتها خاصة عندما يسمع أن قوات المنطقة العسكرية لشمال القوقاز التي ترابط في مقاطعتي " كراسنادار " و " ستافروبل " تحولوا الى لواء المشاة المدرع " أرغون " ولواء الإنزال " فيدينو " وجيش " سونجين " الـ 58 وهكذا فقد أخذت كل الفرق الروسية تسميات المناطق التي تقع فيها وكأنها باقية هناك الى الأبد.
ولا يسمون بقاء القوات الروسية على الأراضي " المحررة " بالحرب حتى لو استمر ذلك 10 سنوات ، فهي مجرد إجراءات عادية لحفظ الأمن. وحسب تصريحاتهم فأن الحرب يجب أن تنتهي عندما لا يبقى في الشيشان " إرهابي " واحد. غير أن للعسكريين منطق آخر. فالحرب ستنتهي بقرار قد يتخذ في أية لحظة لا تتعلق على الإطلاق بوجود " الإرهابيين " أو عدمه. ولقد تم تحديد أربع شروط لهذه اللحظة : أولا ، يجب أن تدخل القوات الروسية الى غروزني وتثبت مواقعها فيها. ثانيا ، يجب أن تدخل القوات منطقتي " شاتوي " و " فيدينو " وتثبت مواقعها فيهما. ثالثا ، يجب أن تراقب القوات وتسيطر على طول المنطقة الواقعة للجبال المحاذية للسهول التي تتمركز فيها القوات الروسية لكي تمنع تسرب التشكيلات الشيشانية منها وإليها. رابعا ، أن تفرض القوات السيطرة على الحدود الشيشانية - الجورجية والحدود الشيشانية - الداغستانية لكي لا تتمكن التشكيلات من القفز على الجيران لتحقيق أغراض عسكرية كالحصول على الأسلحة والتموين وسياسية.
ويلاحظ أي متتبع أن القوات الروسية حققت فقط الشرط الأول ونصف الشرط الثاني فقط خلال أشهر الحرب الثانية ولا يستطيع أحد التكهن بالوقت الكافي لتنفيذ الشروط الأخرى.
ومع ذلك فلا يشك أحد في هيئة الأركان الروسية بأن الرئيس بالوكالة سيعلن عن انتهاء العمليات الحربية في الشيشان في أوائل الربيع.
ومن البديهي أن المقاتلين " المحاصرين " في الجبال سيقومون بلا توقف بشن الغارات واستنزاف القوات الروسية على الدوام.
ومما يثير الاستغراب أنهم من جهة يعلنون قرب انتهاء " العملية المضادة للإرهاب " ومن جهة أخرى أحيلت أوامر الى وزارة الداخلية ودائرة الأمن الفيدرالية منذ 24 يناير بفرض نظام أمني مشدد في كل روسيا وخاصة في موسكو وذلك " لازدياد احتمال تنفيذ هجمات إرهابية على المدن الروسية " !
وفي الوقت الذي أعلنوا فيه " الانتصار " قبل 26 مارس كما توقع جميع المختصين فالجيش حتى بعد " الانتصار " مشغول بالحرب ويتكبد الخسائر.
وظهر حتى مخطط توزيع " الحامية الروسية " في الشيشان قبل شهرين. وحددوا تعدادها بقرابة 50 ألف عسكري. وإذا أخذنا في الاعتبار أن 100 ألف شخص يدخلون في الوقت الحاضر ضمن قوام القوات الفيدرالية التي تحارب في الشيشان ( مع أخذ الوحدات المرابطة في موزدوك وداغستان وانغوشيا في الحسبان ) فأن نصف القوات الروسية سيبقى في الشيشان بعد تدمير العصابات.
وطبقا لخطط القيادة العسكرية التي أوضحها الجنرال غينادي تروشيف ( القائد المستقبلي لمنطقة شمال القوقاز العسكرية كما ذكرت بعض المصادر ) فأن القوات سترابط أساسا على مقربة من النقاط المأهولة بالسكان و " المهمة استراتيجيا ". ونوه الجنرال بالأخص على أن الجيش لن يؤدي وظائف الشرطة ، بل ينبغي أن يكون ضامنا للاستقرار في مناطق مسؤوليته فقط.
وسيكلف إعالة هذه " الحامية " الميزانية الفيدرالية كثيرا. أولا ، أن أغلب أفرادها من المتطوعين في الجيش. ثانيا ، سيكون ملاك الألوية حسب وقت الحرب ، أي أكبر بثلاث مرات عنه في وقت السلم. ثالثا ، سيجلبون المواد التموينية الى القوات من خارج الشيشان التي لا يوجد فيها شيئا لإطعام هذا العدد من " الغرباء " وهي الجمهورية الفقيرة أساسا والمحروقة حاليا. رابعا ، سيضطرون لاستكمال حالة الاستقرار تلبية حاجات السكان الأساسية خاصة بعد عودة القسم الأكبر من اللاجئين.
ويفترض أن تقع " الحاميات " العسكرية الرئيسية في غروزني ، غوديرميس ، باموت ، شاتوي ، ايتوم كالا وفي بعض النقاط الأخرى. وستخصص في كل منها كتيبة جاهزة لدخول المعركة بسرعة. وسيستخدمون المروحيات للاستطلاع والدوريات للكشف.
والمخطط يقضي ببقاء وحدات من حرس الحدود بشكل دائم في الشيشان. وستغطي فصيلة حراسة الحدود التي أنزلت في وادي أرغون نهاية ديسمبر الماضي الحدود الشيشانية مع انغوشيا وكذلك الحدود مع جورجيا البالغة 80 كيلومتر. وسيبلغ تعداد قوات حرس الحدود 6 - 8 آلاف شخص.
ومع كل ما قيل لا يمكن الاستغناء عن قوة عسكرية كبيرة فطبقا لتنبؤات هيئة الأركان الروسية تشير الى أن الاشتباكات المسلحة وخاصة في المناطق الجبلية ستستمر لمدة لا تقل عن 10 سنوات.