الأربعاء، 3 سبتمبر 2008

مشاهد عراقية


" بالكلمة أستطيع أن أحكي
أن أصرخ
أن أبكي
أن أتمتع
أن أندم
أن أعيش
إنها تبرق
والحبر يسيل "
-كارين لينتز -

تطلع من رحم الحياة العراقية ، غافلة ، ضاحكة ، باكية ، ألوانها: صور لا غير ،، لكن ملامستها تولد الأفكار العجولة والطرية ، وتلك القابلة للتأويل. هو العراق الراهن ، كل ما يبرق فيه صورة ، ترقبه وانشطار النيران في العيون ، بريق تتأمله فتزدهر الكلمات.
واستمرارا لسلسة " العشر صور " التي افتتحنا قسم منها في اللوح الأول من أيام العراق القارسة ، نسويها اليوم كهواء يبحث بالكاد عن أغصان وصدى ممحو في الفضاء ، تتابع أرواح طليقة تعبر عن متنفسها بمساعدة هبوط العبارة.

الثلج الفرحان
مبكرا ، استلمت بغداد من الصيف غباره وشمسه الطويلة ومطره الكاذب وقرار يعد بداية مايو عطلة للعمال الذين حولوهم السابقين الى موظفين والراهنين الى عاطلين.
والصيف البارد الذي وعدوا به لن يستسلم لقرون من سخونة الأجواء ولن يقف مكتوف الأيدي بلا كهرباء تصعق حرارته وقيظه وتحولها الى نسائم وماء بارد في الثلاجات الماليزيات والمصريات والتركيات التي تملأ شوارع العاصمة.
بانتصار من جاءه الولد بعد سبع بنات ، يسير الرجل البدين بما فيه الكفاية حاملا قالب الثلج على كتفيه في واحد من أعرق الأزقة البغدادية ، وكلحظات سهدى يضرب بها ربع قالب الثلج ، تدفق الحرارة من شحمه الملتهب والذائب بين أخاديد جسده الممتلئ ، تسيح سعادة البرودة على قوامه ، وتبلله بأحلام متسعة الأرجاء ، سائرا ، بضعة أمتار ، لا تكفي لأن يصل الثلج صاحيا الى بيته بعد أن بدأ " يموع " على جسده المعجون بالحرارة.
يرتفع فرح الرجل البدين ولا ينهار ، ففي الداخل ، حيث تنتظره عجوز بدينة أخرى ، لا تقدر أن تنام من نهش مناقير الحر الضاحك على ميغاواطات المانحين.
يهدي إليكم هذا الزقاق العريق صورته كفكرة بكر ، وافرة ، مفرطة بانسيابية الحياة ورشاقة البوح.
القطار الفائت
كنسيان يتيه في نسيان ، تتألف مشية عجوز عراقية مثقلة يسير دمها مع نظراتها وفزع التعب وهو يتقاطر من حلقها على أرض حياتها الراقدة كعظام عتيقة.
وراءها تمتد سكة السنين بلا قطار ، كم هو مؤلم امتداد الطريق بلا مسير.
عناصر اللوحة : سنون وسكة وزبالة ! حيث انتهت عذوبة الأيام ومهد الليالي وولى صدى الأسحار.
بماذا تمني أيامها هذه العجوز ؟
وكيف تساير سياط العواصف ؟
أهكذا تنكر الحياة أبنائها وتشرب من أحشائهم ؟
لا أحد يستطيع وصف هذه العيون وجمرة التعب وحدة السنوات المتلاشية مع القطار الذي لن يأتي أبدا.
الصباح الذي يدفع مثل هذه العجوز الى الشارع قاس جدا والبلاد التي لا ترحم الكهول لن تزهر فيها الطيـّـبات.
كم مرت من ليال ترسم فيها أجفانها وتكحل عيونها وتمطر خدودها بالورد ، لكن مروحة الأيام لطمتها وأمالت عليها الغيوم وعمدتها بالكيس الذي تحمله.
وإن جهلها الآخرون فمرآتهم باطلة وضبابهم لا يدرك ، فملامحها تدل على نبلاء غيـّـبهم البحر وزينة فصلتها الأنهار وأعزة القوم عندما تتبدل عليهم الثياب الكريمة.
ترنيمة عراقية
لو ترمي الرجل بعقال ودشداشة في ملايين السنين الضوئية القادمة ، ستصفه وكالات الأنباء الكوكبية بأنه عراقي ! فهو من رأسه حتى منبت أظافره من الأقوام التي لا يصنع منها اثنين.
لم يتمش على الطرقات ، للتنزه أو لعدّ الأحجار وأكوام القمامة التي ليس لها صاحب، ولم تزدهر أذنيه بوشوشات الطريق وأغاني أبواق العربات ومزامير المروحيات ، كان يمشي صاغيا لصوته وحده.
هذا التحام الصدى بالجسد وكلاهما بالأخيلة ، ولعله من الأناس الذين لا تشلـّـهم المداعبة ويحفظ من القوافي والنكات الكثير ، لكن هذه الدنيا أمالت جبهته لتسيل على تراب الطريق ، نظراته وسنابله التي تركها في الحقل وحلّ بالمدينة حالما ببستان الجوري.
أكانت قرية أو مدينة ، فصوته نفسه لا يمحوه شرح أسباب السكوت. هاديا منتشيا بحلاوة نغمات كانت تعلمه إياها الأزاهير التي ما جففها الطين ولا إلغاء الذراع عندما تهوي على الحصاد.
أغنية الرجل ، بل ترنيمته ، تعزيه في نهار الخرائب وفلك الماء النادر في السواقي التي تركها قلبه الذي لم يفصمها من الذاكرة.
ولأنه الفجر موثقا بنهوضه اليومي ، تتدلى مسبحته كومضات متسلطة على اللحن ، باسم ارتياحه في الدمار ، عرف الرجل القروي كيف يؤانس الطريق الترابي وتجاعيد حجار الطريق بموشح الارتباك ، أليس جميلا الإبقاء على اللذة الوحيدة وسط كل هذه القيود !

كومة أوجاع
النسوة الملتصقات في حوض " البيك أب " ، لا يدل مظهرهن على أنهن ذاهبات الى عرض سعيد في هذه الدنيا. فهن الساهرات ، النادبات ، مبتكرات دروب التعاسة ، كل ذلك مبان في جلستهن وقسماتهن وأفقهن المترنح بسطو الدمعة على انفراج الابتسامة.
ولشدة صفعة هذه المشاهد المنحازة الى الحياة العراقية ، نمرن القلب على مشاطرة الأحرف ذؤاباتها لكي تجد لنا وصفا يستيقظ وسط الأعشاب الموهنة في التئام النزوات وقوارب الهوّة التي تمطر علينا هذه الصور التي لا تردمها كلمات شاقة قيلت قبلها أو ستقال بعدها.
فالكلمات إذا كانت شاطرة ، فلتنبع لهن فقط ولمرة واحدة ، تخريم يشيل عنا الهمّ ويغوي تماسكنا في اللافائدة المنسوبة لأصوات موتى.
تسير العجلات مع العباءات وهذيانات الطريق المرجّّّـل بفتوة شمس تدلهن على الضياء. وما أن يزاول الشارع حقه في الارتطام ، تتوقف العجلات ، لينزلن منها متهالكات ، صامتات كمن قضى حياته بلا سرير. ولأنهن في كل مكان ، سنلتقي بهن ، حتما ، دون أن نفتش عن الصورة.



ضد التيار
عجلته الوحيدة السائرة عكس التيار ؛ شاب عراقي يمتهن الرجاء في المنعطفات.
كما لو حل أخيرا في السباق ، يتقطر عرقا وسط مفرقعات الغاز المستورد وحديد الماطورات المستهلكة ، في الدوار الذي سار فيه نصف قادة العالم الثالث الزائرين البلاد ، دائرا ظهره للأيام التي أقعدته ، محاولا البحث عن حصته بين الأبواق الزاعقة في جريانه المكرر.
لابد أنه عاش أسرع وأقوى مما هو عليه ، ولم تأته طويلا جرعة البكاء والحسرة والعبث المربك الذي يعبر به من مركبة لأخرى ، لكن جروح حرب انتزعت منه قواه ومشيته وسرعته ، أو حروب شارك فيها كل أبطال الشارع الذي يسير عكسه بفم مفتوح وعيون مطفأة.
كم مرة مالت عليه العربات ونجح في تخطي دهستها وكم عليه الهروب من مهنة تقاسم العيش فيها مع الجوابين في الظهيرة المخدوشة وكم يا ترى حلم بالرصيف !
لغة الأرض
في عزّ الظهر البغدادي يقيس مسـّاح ذبذبات وجيولوجيا أحد شوارع العاصمة.
ما الذي يسمعه في جهازه الغريب وماذا تقول له الأرض هذه الساعة ؟ أن يعرف التفاهم بلغة الأرض مبهج ترفّ له السماء وأن يعمل عراقيّ في الظهيرة ولا يبالي بالمتطفلين وقطاع الطرق ليؤسس بناء جديد أو يزيح خراب داخل هذه الأرض أو فوقها ففي ذلك حلاوة الماء المطواع ونمو الصنوبر وانتفاض جياد الأمل.
وأشد ما يرق للمشهد ، أنه وجد عاملا منشغلا جدا بممارسة وظيفته، لا يشعر بالوحدة أو الظمأ وليس في ملامحه تذمر من شيء ، في تمام جهده وفي خضم انسجامه مع معطيات الآلة التي يمررها على منعرجات الطريق ، لتوصله بما هو أعمق. تناغم ذبذبات إشارات الأرض وقراءته لمعطيات الشاشة المحمولة وتحرك جسده البطيء ، علامات الحياة الرصينة كالمهر الذي وجد حقله.



المدفع المنهوب
ما الذي يوحي به مشهد مدفع مقاومة طائرات مسحوب من لوري مدني في بلاد سرّحت جيشها ؟!
المدفع لم يمسسه سوء ولا صاروخ معادي ، وهو بكامل قيافته وطلائه يبدو حديثا وحتى عجلاته سليمة والدليل أنه مسحوب وليس محمول. ووقفة هذا النهـّاب أمامنا واستعداده لقتل المصور حالا لو كان بيده سلاح والطريقة التي هرع بها تجاه الكاميرا لمنع تصوير سرقته ، تدلل بلا شك على أن موج اللصوص الهادر في البلاد لم تستطع حتى القوى العظمى إيقافه في العراق.
أليس من المؤلم أن تباح الأشياء والقواعد للحد الذي يتحول فيه حتى الإنسان العادي الى لص ويمد يديه على ما هو متروك ليسرقه كاللصوص؟
قد يكون من السهل العثور على مدفع مخبأ لدى الأهالي وليس من الصعوبة شرائه بمبلغ ما وربطه بهذا اللوري لا يتطلب عقد ميكانيكية بالغة، غير أن اجتياز المدينة به والوصول الى الطريق الدولي ومن ثم السير في هذا الطريق المليء بدوريات الحلفاء الراجلة والطائرة وعشرات الأرتال ، وربما المئات التي ستقابل هذا المدفع المنهوب ، يتطلب جرأة غير طبيعية يحسد عليها هؤلاء النهابون ، أو أنهم أدركوا بأن لا قوة قادرة على إيقافهم من سرقة الممتلكات العامة لغاية مرور عام على البداية الجديدة وبعد أن عرف كل امرء قدره ومكانه في البلد.
ألا يثير ذلك الشك في أن القوى التي يفترض أن تلجم هؤلاء ، متواطئة أو على الأقل راضية على هذه التصرفات ، إيمانا منها بأن عمليات النهب هذه لا تضر بالمصالح القومية العليا ، ولطالما أن النهابين ليسو إرهابيين في كل الأحوال !


خضراء وحمراء
في شارع معرض بغداد الدولي هذا ، انفجرت الكثير من القذائف والألغام على الخلق ، وكان هذا السبب الرئيسي الذي ألغوا فيه طموح البلاد في استئناف نشاط المعرض التجاري والصناعي وخسرت البلاد جراء ذلك التعرف على المستثمرين والصناعيين والتجار الأجانب.
الحديث عن المعرض ليس موضوعنا ، لكنه ضروري لتبيان أهمية هذا الشارع في بغداد ، فهو الذي يربط الكثير من الأحياء الراقية ، بالنصف الثاني من الكرخ ، لاسيما الذي تقع به قيادة التحالف ومعظم الوزارات ومقر الانتقالي.
وقضيتنا ليست الاختناق المروري لأننا بحثناها سابقا ، بل النظام الذي لا يحترمه العراقيون ما أن اختفى النظام !
فهل حقا أن رحيل النظام يعني خرق النظام من قبل المواطنين ؟
يحتاج الأمر الى بحث سيكولوجي واجتماعي وتاريخي ، لكن ما هو أكيد أن لا أحد في هذه البلاد يحترم أبسط قواعد النظام ، لا العامة ولا القادة، لا القواعد ولا الزعماء ، فما الذي جرى ؟!
أنهم يقفون الآن ، في الإشارة الخضراء ويسيرون في إشارة المرور الحمراء !! وثمة من يستدير ويعود "رونغ سايد" عند الإشارة ، هل يعقل هذا !
مشهد يجسد حال العراق الراهن ، لا خضراء تمشيهم ولا حمراء توقفهم وكأن تراب الطريق الأغبر هو الذي يسيرهم وليس سراج الوطن ومبتغاه.
وكم من الطعنات يمكن لوطن واحد تحملها ؟!


حرية الأسلاك
لافتات وصور ومتظاهرين وشعارات : رموز للحرية.
أسلاك شائكة وأسلحة معمرة بالبارود : رموز للقمع.
هل يوجد تفسير آخر لهذه الرموز.
وإذا جمعت هذه العناصر في لوحة واحدة ، فكيف يمكن تفسيرها : حرية مشروطة ، ديمقراطية محدودة ، لهو مقموع ، العصا والجزرة ، المد والسحب .. جميعها واردة ، غير أنها متعرجة وشعرتها أدق من الشوق الحقيقي.
في النهار اللاهث ، لا يجد هؤلاء العاطلين مهنة يمارسونها غير التظاهر والصراخ بما يعتقدونه حقا لهم. ولا يجد الطرف الثاني من حل لهم سوى تركهم " يزعقون " خلف الأسوار الشائكة حتى تنشف حناجرهم ويعودون الى بيوتهم لكي لا يكرروها بعد الآن.
لكن المشهد حمل لمن يتمعن فيه ما هو أهم من حديثنا السابق كله : النظرة الخاطفة لمجموعة الرجال غير الحليقين.
لكن من المؤكد بأن هؤلاء الرجال غير منشغلين أن تكون دولتهم على أساس ديني أو دستورهم مكتوب أو مطبوع أو مترجم ورئيسهم من هذه الطائفة أو تلك وعدد الألوان في علمهم وكم النوتات في نشيدهم الوطني ، نظرتهم فيها سؤال واحد يبحث عن الجواب : كيف نستطيع العيش والعمل لكي يكون لحياتنا معنى ؟!
للذي يستطيع الإجابة على هذا السؤال يمكنه العيش بلا أسلاك شائكة وستكون صدور هؤلاء الشبان أول من يحميه والذي لا يستطيع الإجابة ولا يريد فسح المجال لغيره الذي يستطيع ، فعليه استيراد المزيد من الأسلاك والأعمدة الكونكريتية التي مهما امتدت لن تحميه.


أطفال وخرائب
في الفناء المخرب المهجور ، وجد الصبية لعبتهم بعد انتهاء الدوام. هذا مختصر الحكاية وملخص الصورة. عزف على وتر واحد ، يصدر نغما ولكنه النغم المعصور الملقي أسئلة بلا معنى.
كأن المشهد يلاحق آلام الماضي وكأن على أطفال العراق المرور بدرس اللعب في القمامة بعد استكمالهم مناهج اليونسكو.
نراقبهم في الضفة الأخرى من الحاضر ليوجعنا الماضي بامتداده العسير، فهل ينبغي أن تبقى الرسالة دون صاحب على الدرب الذي كثر مدعيه وأفلت أزهاره بفوران الهياج ؟
هذه زاوية واحدة من فيافي الحياة العراقية وإن لم تحمل كل أنباءها بلسان غريب وأمنيات مشوهة ، ورويدا للصبر المهاب والرفض عند العذاب والبذل إن طال الطريق وشذ الجدل.


أم المعدوم
أم عبد الرحمن ، تحمل صورته واسمه ، تأكلها حالة مؤثثة بالألم ، بين البحث عن ابنها ، وبين فضح صدام وجرائمه. يهدها التعب أحيانا لتردد مع نفسها : كم من السنين كنت أشق صدري وأدعو .. أعطنا هذا الولد .. أعطنا ولدا وإلا لخرب الدار ..
أعطانا هذا الصغير .. عبد الرحمن .. هكذا أسميته ، لأن الرحمن وحده الذي جلبه لنا بعد أن عجز الأطباء .. ربيناه على الصلاة والسلام ومن هدوءه تكاد لا تسمعه ، أبني عبد الرحمن ، لم يفعل شيء ، هو لا يستطيع أن يفعل ما يغضب أحد ، أعرفه ، لا يهتم سوى بأمه وبالبيت وبكتبه وسجادته ، لم يزعج حتى من يعتدي عليه ، أبعد ما يمضي إليه جامعته ، لا ادري ماذا فعلوا به.
بعد أن سكتت تحدثنا معها ولم تبطل بالجواب حتى على الأسئلة التي لم ننطقها : أنظر له غادرنا بهذا العمر ، له 21 سنة وفي الصف الثاني في الكلية ، ما الذي يمكنه أن يفعله هذا الطفل ! ها أنا أنتظره منذ 22 سنة ، كلنا ننتظره .. هل عليّ أن أنبش كل مقابر العراق لكي أتشمم عظام صغيري. كل يوم أصب سهمه من الغذاء ، لم أغير مكان جلسته في الغداء ، أصبها وأرميها فلا أحد يستطيع مس صحونه وغذائه. انظر إليه ، هل يستطيع إيذاء أحد ؟


إعلان أسود
بغياب الكهرباء ومكبرات الصوت ، الجرائد والراديو والتلفزيون ، يعلن الأحياء عن أمواتهم في العراق بالطريقة التي يتحول فيها الطفل والطبيب ، العلامة وبائع الحب ، المؤمنون والملحدون ، السمان والضعاف ، الشقر والسمر ، الى لافتة حجمها صادقت عليه أعلى الهيئات القيادية في البلاد : رئاسة الجمهورية.
هكذا يتحول الجميع ، الى لافتة ، تتطايرها رياح الحرب وغبار الروح ومطر الألم الذي لا ينوي مغادرة القلوب.
ما جناه علينا الرئيس ، وما ودعنا به ، وصايا الموت المهين ، كان يردد بحماس : على كل عراقي عمل حفرة في حديقة داره ،، هكذا يوصيهم أبنوا قبوركم في دوركم ، فسيأتي يوم لا تستطيعون فيه إيصال أمواتكم حتى الى المقابر.
تحققت نبوءته الحكيمة ، ومات الناس في بيوتهم ، فبفضلك ، لم يستطع الناس الوصول الى المقابر التي شغلتها بضحاياك ولا يوجد فيها شبر ، زائد. وماذا نفعل بالمقابر فبوجودك تحولت مدننا وبيوتنا وقرانا الى مقابر !
ولسنا بحاجة الى الماء والكهرباء طالما أنت تضيء دروبنا ، والشهيد لا يحتاج الى تغسيل ، لدينا الآبار التي حفرناها في الأرض الهزيلة ، التي جفت ما أن مشيت عليها من الاضطراب والفزع.
ماذا أبقيت لنا ؟
حولت كل منا الى لافتة سوداء على أنقاض بيوتنا وأسمائنا المنظمة بإرادتك.

أطفال الماء
لا ذنب لهم في المصائب التي حلت وستحل ، سوى أنهم مكسوون بزهور البلاد وأريجها ، حكاياتها وجدرانها اللدنة ، فهل من الصواب جريانهم المثقل بهذه العربة في بلاد الروافد الرائقة والنهارات المشعة والأرض المستقرة !
قالت أكبرهن : لا نريد صورا .. نريد ماء !
للسان حين يخبو حافة مرتفعة واسترخاء أعشى ، هكذا تشعر كما لو تلعثمت بلغة حائرة .. بين السؤال والجواب خلوة وفراغ .. فما جدوى المطالب والتساؤل ؟
في الصباح الطري .. الصباح المغبر الجليل .. ينبغي أن تقود أقدام أطفالنا توزعهم نحو المدارس والألعاب المبتكرة .. لكن الهواء السحيق ، يحملهم لثغور ماء لا يعلم بها المطفئ الأكبر في الوطن.
أكفهم أجنحة تثقب الانفصال واللهو المخير ، وشعرهم المتطاير غير المغسول بشامبو أصيل منذ الولادة ، رسالة غائصة في وحل بناة المجد وعشاق الطفولة ومرددو العبارات المنسية وأناشيد الخلود للقائد المتضامن مع حيامن رجال البلاد والثاقب أرحام نسائه.
سلسلة بفص حقول حنطة يوم اعتدال الربيع ،، هي ازدهار ضحكاتهن وغنج ضفائرهن .. برج شمس تومض في زوايا المدينة الخربة ، سرورنا ومبتدأ عذابنا ، ذلك الضجيج المقاوم الذي تخلفه عربة الماء.
هكذا ينقل الماء في عاصمة السلام الأبدي ، بالعربات والأطفال ، بدل استنشاقه بأزرار الكترونية وحنفيات من الذهب كما كانوا يعيشون.

لافتات النخيل
تنمو اللافتات في بلادنا المعاصرة أكثر من أوراق الأشجار وجذوع النخيل. ويملأ الخطاطون ما بجعبتهم من أفكار ، ما أن يستفيق زبون يتمطى بدوار الحرية ليعلن عن نفسه وهواه ومقبض معدته وإمساك أمعائه .. تجل أجدادنا الغائبين بالوطن السعيد الذي لم تسعفهم جنازير الانقلابات والمنتفضين الإمساك به.
لافتات عذبة وبريئة وتحمل أصح العبارات ومجهر الآمال ، كأنها تمشط خصلة البلاد المبعثرة : انعموا بالجمهورية .. الملكية .. الفيدرالية .. التعددية .. الديمقراطية .. النموذجية .. المحسوبية .. الإسلامية .. العلمانية .. الاحتلالية : المتعرية بلا إذن ، المتظاهرة بسواعد أبنائها كل يوم وشارع وضفة ، حذائها جريح وقلبها عتيق ..
هو ذا النهار كغيره متقلبا ، مدعوكا بأسى شفيف ، مرتجا بغثيان المظاهرات والمطالب غير المستحيلة المستوحاة من أفواه جافة ورقاب ضمآنة، تهبط الى الشارع ملمومة بعتاد شعاراتها التي لا تشبع ولا تروي.
فابقوا مع الأماني والمثل العليا التي هدوا الوطن لكثرة هجائها واتركوا القلوب المحبة لبغداد ترى قليلا من الكلام وشطرا من اللافتات وقدرا من السكوت.
اتركوا بغداد ساكتة على ما أصابها ، كاظمة ألمها ونفيها ولجانها ومنسقيها الدوليون ، فلو أطلقت حسرتها فستبدد كل ألحان لافتاتكم وظمأكم ومخاوفكم وعذاباتكم وزنابير صحفكم.
اتركوا بغداد ساكتة !

سينمات العاصمة
من الذي لم يتعلم الحب والمطر والعالم والأزياء والشجر والبحيرات وسرقة البنوك ومطلوب حيا أو ميتا وأجمل الاستعراضات وأقسى الحروب وأتعس الرحلات البحرية ، من السينما وأيامها الزاهية.
هي واحة الظهيرة لشاب قادم من الجنوب يلقي بتعبه في سينما الخيام أو روكسي ، بابل أو النصر . اختفاء سريع يرعاه ظلام الصالة وجلبة ابو اللايت وباعة الحب والبيبسي في أبو الأربعين.
هي المواعيد البائسة وتلمس يد الحبيبة للمرة الأولى وعد شرايينها النافرة وأوردتها الحارة.
يا بهو الضائعين والرطبين والمهتاجين والحالمين والغائصين
يا مرصفة عواطفنا ومترجمة ودنا وأملنا وتباهينا
مطفأة شوقنا ولهيب حرماننا ، سينمات بغداد وقمة أفلام الستينيات وتحرر السبعينيات وتكنولوجيا الثمانينات وسوبر صوت التسعينيات وإدهاش قرن عولمة الفنون.
في يومها الراهن ، سينمات بغداد ، متكئة على أزبال الحضور الكرام، حر يعانق رطوبة وغبار أليف ، ذات الوجه الواحد والفيلم الثابت. أنوارها مغبشة كامتلاء جيوب الجمهور بالفراغ.
لا ترى فيها فارسك ولا فتاتك ولا مصارعك المحبوب .. لا يضحكك فيها أروع كوميدي ولا تبكيك حسرات الملك لير .. جمهورها جوقة صبيان طوقتهم التجارب الغاشمة.
بلا إلهام يدور الشريط المتقطع مع صراخ الباعة ومأمور القاعة : منو بالله طابك البرازيلي كدام الباب ! يقطع الفيلم لكي يبحثوا عن صاحب الفولكس واغن الذي ضايق عبور المارة وباعة الدسكات المزورة وجوازات الوطن المباحة.
تنفجر عبوة ديناميت في الفيلم ، تبدأ التعليقات عن سذاجة التفجير ، فكل الجمهور خبراء متفجرات وقنابل ، أيوجد مجد أكثر روعة من هذا !
تقطع الكهرباء وينادي أحدهم بأن الفيلم انتهى ويطلب من القطيع مغادرة الصالة ، في أثناء التدافع يشرح لهم نهاية الفيلم كما يراها !

الراية والنظام
أيام المحن تشد الناس للذكريات وكلما تزداد عسرا تسمن ابتكاراتهم وبغياب البطل يهرع العامة للرمز وباكتفاء النشيد من لحنه ، والنجمة من سمائها والصغير من ثديه المرضع ، يتستر الزمان بالعَلَم !
لم يجد حامل راية البلاد شيئا ثابتا يعلقها عليه سوى هذه الإشارة الضوئية العاطلة ، فهي بلا كهرباء ولا شرطي ، تماما كالعلم الذي لم يعثر بعد على نشيده الوطني ومن يؤد له التحية ومن يضعه على صدره ومن يغرزه أمام السيارة الدبلوماسية والموكب الرئاسي الغائب حتى إعلام آخر.
ترفك لايت بلا شرطي مرور كالعلم بلا حكومة ودستور ومجلس أمةٍ . ولو اتحدا سيكونان تشكيل مجسد لأيامنا التائهة في محروقات التاريخ ودروبه الوهمية وافتتان قصائد المعارضين من كانوا سابقا مداحين للقادر على كل شيء ، طبق الكبة أو الباجة المنحسر في الصحون ، دليل عانسات البلاد الى حمام الهنا ، هلع النخيل من الصواريخ المفككة ، تردد منفيين بين العودة والوصية المقبلة ، ظلال يتشهاها أعمى ، بخور يعالج مرض الصمود المزمن، بكمالهم وقدرهم : النظام والراية !
افتراس شوق الشعب للملاذ والحياد
تخبط مقاومة الأبرار في مستنقعات الوطن
تخوم وجروف ولحم المعارضين المغربل في السواقي.
تخطيط متعدد الجنسية
أجمل الوزارات العراقية شكلا وبناء : وزارة التخطيط.
دمرها النظام بسوء التخطيط وقصفها الأمريكان لسبب في عقل الصواريخ الذكية ونهبها اللصوص كما جرت الأعراف وأحرقها الزبالون السابقون من الذين ألقيت على عاتقهم تنظيف مخلفات النظام وجرائمه وسرقاته وسوءاته أجمعين.
تطل على أجمل الجسور وأروع الأنهار. لونها خاص ، رماني غامق في بلاد فرض الرئيس على الناس فيها طلاء بيوتهم باللون الأبيض فقط ، وما أن يهب الغبار ، حتى يتحول الوطن الى كومة صفراء – رمادية من اسمنت محلي.
نوافذها الفضية لم تفتح يوما ولم يطل منها رأس ، جلس فيها نائب رئيس البلاد ، تصوروا حجم الكارثة عندما يقوم طه ياسين رمضان بالإشراف على الخطط الخمسية والعشرية والمئوية ، وهل يوجد بلد في العالم يكون فيه المخطط الأول قائدا للجيش الشعبي في آن واحد ؟
تندثر البناية الجميلة وملفاتها وحكاياتها وزبانيتها ، فالعراق يسوقه منسقون متعددو الجنسيات : للصحة والتعليم والمالية والإعلام والثقافة والشرطة والزراعة والري وما وهبونا بفضل الهارب.
ستبقى بناية التخطيط شاهدا على ذلك الصباح الذي سيتكلم فيه معلمونا بالياباني والمصرفون بالأمريكي والمزارعون بالبولوني والأطباء بالدنماركي وسواق الحافلات بالهولندي والصحافيون بالإنكليزي والشرطة بالنيكاراغوي والزبالون بالعراقي.
المنصور
مؤسس بغداد وباني أسوارها : أبو جعفر المنصور. يذكره صدام دائما ، ويحلو له تسلم الراية منه التي كان قد تسلمها قبلا من نبوخذنصر. هكذا صمم صدام بغداد حسب منظوره وفهمه للتاريخ.
لا يبدو مؤسس بغداد كما تخيله النحات ، نشعر كما لو يطرق رأسه أكثر ، خاصة بعد أن غادرت الحمامات عمامته التي تحمل رمز الامبراطورية العباسية.
طالته يد التدمير في حملة تنظيف بغداد من الأصنام ولأن ابو جعفر المنصور كان " طائفيا " وأعدم بدوره في زمانه من أولياء الله وأهل البيت.
إذن ، يوجد انطباع بأن منظفو العراق من آثار النظام السابق يريدون " إعادة كتابة التاريخ " أيضا ومراجعته ، ولعل باني أسوار بغداد شعر مبكرا بالذي ينتظره ، سامع أصوات لكنة غريبة وجنازير لم يعهد بها ووجوه لم يألفها.
تتراص حاجبيه ليمعن بدقة التفحص ، بيقين أول من أدخل العسكريين الغرباء الى حياض الوطن الذي لا يهدده الطاعون هذه المرة ولا الحمى الصفراء ولا الرمادية ، بل جراثيم الفوضى والطفيليين والشارات والشعارات والأذناب وأيام الأسبوع التي لا تهم أحد غير الذين ينتظرون عرس الخميس.


برج المأمون
أعلى طابوقة في بغداد تقع في برج المأمون للاتصالات الدولية. تسري في صوامعها كل الكابيلات التي نقلت لسعات الزمان : من الأم لأبنها الوحيد المغترب الذي ينتظر شهادة المهرب المزورة ، المهندس الشاب الذي وجد له عملا في كراج تفكيك للسيارات يطمئن على ولادة ابنه البكر ، والد المصابة بفقر الدم والأنيميا يسأل معارفه في الخارج عن الدواء الجديد ، صوت الخطيبة التي بعثت صورتها للتأكد من مهارتها في النطق قبل عقد الزواج الغيابي ، منحة الوالدين العجوزين وأيتام الأخوة المعدومين ،، أصوات مرتجفة تقول نصف الحقيقة ، ظنا واعتقادا وتأكدا من تنصت المستبدين على مكالمات الشعب الداخلة والخارجة.
دمرت كابيلات الألم وأحرقت الشرايين التي نقلت ملايين الرسائل السرية ، لفتى جرب للمرة الأولى كلمة : أحبك ، وتاجر يحصي محاسن صفقة مشبوهة لشريكه و تذمر من الأوضاع بين الأخ وأخيه والولد وأبيه ، أحداث وترتيب أحداث ، شبكة من المسافات تعصرها وتلقطها أزرار المأمون لتضعها على صواني العائلة : كلمات .. كلمات ،، كالأجساد الحية ، النازفة ، طافحة برؤيا الفصول.


هاند أب!
تستمر لعبة الشرطي والحرامي في شوارع بغداد الحلوة. فبعد أن سكتوا عن نهبها وحرقها وبيعها على قارعة الطريق لأنه " ماكو أوامر " ، جاءت مكرمة المدير الجديد للبلاد حيث أصدر بيانا قرأته مذيعة التحالف بلكنة من يملك جنسيتين لتطمئن الناس بقرب نزع أسلحة المدنيين.
والطريف أن البيان المتحضر لراعي حرمة العراق الجديد توسل بـ " العراقيين الجيدين " لكي يسلموا أسلحتهم.
غير أن " العراقيين الجيدين " هم ضحايا " العراقيين غير الجيدين " ، لذلك لم تفهم المعادلة كما ينبغي. فليس لدى الجيدين شيء لكي يسلمونه غير إيمانهم بالقضاء والقدر والمكتوب والقسمة والضرب على رؤوسهم وقفاهم. أما غير الجيدين فهؤلاء مزروعين في كل منعطف ورابية ودكان وبسطية وسطح مبنى مصادر ، هم الذين يبيعون الراديوات المسروقة للجيدين الذي يسمعون بيانات راعي البلاد ، وهؤلاء لا يعرفون لغة أخرى غير حزم القانون المؤجل الى ميتم آخر لطفل يسقط نتيجة إطلاق نار عشوائي أو عائلة ينتهك شرفها في وضح النهار.
وللدوريات الأجنبية في عاصمة المحبة الغائبة ، حسابات لا ندركها، فقد يسمحون لمائة سيارة بالسير ويوقفوا الواحدة بعد المائة ، هكذا عشوائيا أو لمجرد الشك في هزالة الرقم المثبت ، والذي يمكن شرائه ببساطة مع سنوية السيارة لقاء 50 الف دينار في باب الشرقي وأمام الدوريات النظامية للجيش المحرر.
هكذا يوقفون المدنيين عند أقرب جدار ليتفحصوا ملابسهم الداخلية ويدغدغوا حواسهم ويفجروا مشاعرهم ، بحثا عن أسلحة مرة وعن أشياء لا نعرفها مرات ومرات.
هذه الإجراءات صحيحة لو أن ثمة قانون يتحكم بها وليس مزاج صبي أمريكي خلف مدفع رشاش ، وحتى يحين موعدنا مع القانون ، جزاهم الله الخير وماجورين.


نصب التحرير
هو الأعرق والأجمل لأعمق وأروع التشكيليين العراقيين : نصب التحرير.
لم يره الفنان الراحل جواد سليم مشيدا ، فقد وافاه الأجل قبل رفعه في هذا المكان الخالد. وأفضل من حلل هذا النصب الكاتب الراحل جبرا إبراهيم جبرا في كتاب مستقل.
تحول نصب التحرير الى ساحة والساحة الى مدينة ، فالذي لا يعرف بغداد جيدا كان يضرب موعده في ساحة التحرير بالذات. ثم انزلق النصب نحو حديقة الأمة ، حيث وضع خالد الرحال بصماته الأخيرة على تمثال الأمومة ، وما أن تصعد سلم الحديقة حتى يوافيك الراحل فائق حسن بجداريته المعروفة باسمه.
سجون جواد سليم المحطمة وأمومة الرحال وحمامة فائق حسن ، رموز لمركز بغداد العميقة ، تحولت ما أن هلت علينا بشائر الحرية الى أماكن لتجمع اللصوص وبيع المسروقات وتزوير العملات والجوازات وإجازات السوق والزواج وما استطاعوا إليه سبيلا.
ساحة التحرير والمواعيد القديمة أصبحت وكرا لبيع المخدرات والاعتداء على الناس ، ويمكنك أن تتمشى في جهنم آمنا مرضيا ، لكنهم سيفضون ما لديك في لمحة بصر وأن جربت النظر في عينيهم فطلقة في الرجل أو عمود في الرأس يكفي لإشباع فضولك وعدم امتلاكك روح النشالين الرياضية.
السطو على ساحة التحرير ألغى شفافية بغداد وسيسرع في جلطتها، فكيف ستنشد حريتها في وقت تنتف فيه حمامة فائق حسن وينسطل الصبية تحت أمومة الرحال ويبول اللصوص على حرية سليم !

مطافئ الإمام
مبطئة تسير كحيوان فقد السيطرة على نسله ، سيارة مطافئ ، في أحياء الكاظمية. ما أنقذ خرطومها وزجاجها وأبواقها وسلمها وكل ما يتعلق بفن الإطفاء من النهب والتدمير ، أن سيدا حكيما ، سارع بطلاء جدرانها بالعبارة التي تخيف أكثر النهابين وقاحة : وقف للإمام الكاظم.
بتمخطر تجوب أزقة الكاظمية ، هي الوحيدة التي سلمت من دائرة البلدية ، توزع الماء السبيل على زوار المرقد والمصلين ، وفي أوقات فراغها يستخدمونها لسد الشارع المؤدي الى المرقد لمنع دخول السيارات ، لا سيما وقت صلاة الجمعة.
طريقة الحفاظ على سيارة الإطفاء جديرة بنشرها في مختلف المناطق والأزمنة للمحافظة على ما تبقى من البلاد.

بتوع الأوتوبيس
واحد من الباصات الإنكليزية ذات الطابقين التي تشتهر بها العاصمة العراقية ، لعله الوحيد أو ضمن عدد لا يتعدى الأصابع ، التي تعمل في بغداد الآن.
الطريف في المسألة ، أن هذه الباصات العريقة ، تابعة لبلدية أو ما يسمى " أمانة العاصمة " ولهذا يسميها المحليين بـ " الأمانة ". وتعمل هذه الأمانة لغاية اليوم في بغداد لسبب طريف : في صباح السقوط ، استلم السائق والمحصل ( الجابي ) أمانتهم وخرجوا بها الى الشوارع يعملون كباقي الخلق الذي لم يتوقع أحد منهم بأن دبابات أمريكية ستظهر لهم من كل حدب وصوب كسيارات الأجرة التي تغص بها بغداد.
تجدر الإشارة الى أن الفرهود والتخريب بدأ قبل سقوط تمثال الطاغية في الفردوس ببضعة ساعات من قبل نهابو الصولة الأولى ومن بعدهم تبعهم العامة وأهل الأجهزة الخاصة للنظام البائد الذي طمسوا ما يمكن طمسه من جرائمهم الشخصية.
أما السائق والجابي في حافلتنا السعيدة التي لم يمسسها غوغاء ، فقد قررا الاكتفاء بما ملكت إيمانهم وما أعطاهم إياه الرب ، بالاستحواذ على " الأمانة " بما فيها.
وهكذا يجوب الاثنان اليوم شوارع بغداد بـ " الأمانة " السابقة والملك الحالي. صحيح أنهما يعملان لحسابهما ، وهما اللذان أنقذا الأمانة ، ويسقيانها من جيبهما بالوقود ، إلا أنهما يعتبران أول من باشر في عمله في الدولة العراقية الجديدة والوحيدين الذين لم يغادرا مكان عملهما ، حتى إشعار ، يصبح للبلاد علم ودستور وحكومة منتخبـ.. وها .
فضاء الحرية
في زمن الطاغية ، تم ابتكار دائرة مستقلة في الأمن العامة وجهاز المخابرات اسمها " البحث والتقصي عن الستلايتات". أما العثور على هاتف الثريا عند أي مخلوق ، فأن هذا كافيا لاستجواب الحي بأكمله وإعدام حامل الفضاء وكل من له علاقة بالموضوع.
وبعد أكثر من أسبوع على رحيل الأوغاد ، ظهرت الأطباق والستلايتات في كل أسواق بغداد تقريبا وخاصة تلك المنتشرة في أحياء الطبقة الوسطى كالكرادة ( داخل وخارج ) والميسورة كالمنصور وعرصات الهندية وغيرها.
يتراوح سعر الجهاز وتثبيته وكل ما يتعلق به 300 – 500 دولار. ويزدحم الناس على شراء هذه الأجهزة بالرغم من عدم وصول الكهرباء الى معظم المناطق البغدادية.
وبينما كانت الاتصالات عبر الثريا تجري في الهواء الطلق وفي الشوارع ، طورا هذا البيزنيس الآن ، وافتتحوا محلات خاصة.
يعود الفضل الى انتشار بيزنيس الستلايتات والثريات الى حرية التجارة في كردستان ، حيث يذهب تجار بغداد الآن بسلاسة الى المناطق الشمالية ويجلبوا ما يحلو لهم من بضاعة كانت لأيام قليلة ماضية ، تجلب عليهم وعلى من يعرفونه الموت والدمار.



حصان القيادة
حصان عدي المسكين وصل من ناحية الامتيازات التي يتمتع بها الى عضو قيادة قطرية.
فهو لا يأكل الحشيش إلا بوضع " الهيل " عليه ، ولا يشرب الماء العادي ، بل الحليب ، ولديه فرقة مدلكين ويأخذ حمام ساونا قبل الغداء. وقيل أن ما يكلفه من مصاريف شهرية يفوق رواتب دائرة طويلة عريضة في إحدى الوزارات.
وفي لمحة ، وجد هذا الحصان نفسه ينتقل من سيد الى آخر ، حتى استقر عند بائع متجول للغاز.
يجر الآن حصان عدي عربة الغاز ، على خط بغداد الجديدة ،
المُعاد
نظرية الاستنساخ طورها " العراقي الجديد " في زمن صدام حسين بالشكل التالي : حسب توجيهات الدولة وظروف الحصار والحالة برمتها ، نمى بيزنيس في العراق بدأ غريبا على العراقيين الشبعانين ومن ثم تعودوا عليه وبعدها انتشرت نكاتهم حوله كما جرت العادة.
ملخصه أن لا شيء يرمى في القمامة : النعال ، الحقيبة المقطعة ، قنينة البلاستك أو الزجاج ، أوراق ودفاتر ، الحزام المتهرئ ... أي شيء ، حيث تتم إعادة تصنيعه.
ويمر الجامعون الجوالون الذين يستبدلون أي شيء بأي شيء ، يتندر العراقيون بصرخاتهم : حلاوة بعشر نعل مكطعة !. أو تلك النكتة ، عندما اشتر أحدهم نعالا ، يعثر به دائما فقال له آخر ، بأنه يعرفك جيدا كان يشتغل عندكم إبريق !
وتسمى الحاجة التي يعاد تصنيعها حسب المصطلح الشعبي : المُعاد.

المركب السكران
نتذكر مركب الشاعر الأمهر أرثور رامبو السكران ، وهو ما رأيته بالضبط في دجلة الحرة. فلنقرأ أولا ما كتبه رامبو بعد تصرفنا بالقصيدة الأصل :

وهكذا فأنا مركب ضائع
مقذوف بالإعصار في أثير لا طير فيه
متشبعا بضناك أيتها الأمواج
لم أعد أستطيع تعقب اختراق غطرسة الرايات
ولا التجديف على مرأى عيون الجسور العائمة لرهيبة

ثمة مركب في دجلة أراه كل يوم في مكان مختلف. بعد أن هجره أصحابه وعلى الأغلب كانوا من الفدائيين الذين لم يفدوا أحدا وحسنا فعلوا بهروبهم في نصف ملابسهم.
هذا المركب تتقاذفه أمواج دجلة ، يتهادى على أمواج النهر الخالد وما أن تتعب الريح يجد مرفأ له عند كومة أشجار نهرية. وفي اليوم التالي تستفزه الريح ليمخر الى مكان آخر ، مرة في الرصافة ، ويوم في الكرخ ، حتى المركب تحرر من صولجان النظام ليتحرج بحريته على أمواج كان يعدها النظام من بركاته.
كل يوم أقف على أحد جسور المدينة وألقي بالتحية على المركب الحر ، الذي يشبهنا جميعا ، وهو لا يبالي لا بالتحية ولا الزوار ، ولا أظن بأن أحد في العاصمة تابع جولة المركب الحيران المكوكية ما بين الرصافة والجسر.


النخلة والمدفع
زرع صدام بالفعل الأسلحة الثقيلة داخل الأحياء السكنية. ولم يكلف الأمريكان أنفسهم لإثبات ذلك ، فأي زائر الى أية مدينة في العراق الحر ، يجدها على قد من يشيل .
لكن مشهد المدفع المدمر معانقا نخلة أصابها الشيء نفسه ، تشكيلا فيه الكثير من المفارقة والمعنى ، وكذلك الألم.
ويبدو تشكيل النخلة والمدفع المدمرين كتنين بعدة رؤوس .. هذا انطباع النظرة الأولى ، ولعله يشبه تلاحم الأرض بالسلاح ، لو أراد ثوري ما التعليق على الصورة ، وكأن جذع النخلة هرع لرجال المدفع صارخا بهم : اهربوا وانجوا بأنفسكم ، وأكثر من تفسير يزودنا به تشكيل حرب قل نظيره.



مجنون الثريا
لسعات صوت هاتف الثريا تشبه طنين الذباب ، والمعادلة بين الذباب والثريا في العراق واضحة ، فكلاهما انتشر مع الحرية بتدمير مراكز الاتصالات وشحة الـ " دي دي تي ".
ولأن الأسباب مهما تعددت فالجنون واحد ، فأن لكل شيء سبب. فلقد سمعنا بأن لكل حادثة مجنون حديث.
نتذكر مجانين الساعات وأولئك الذين يسوقون سيارات وهمية وآخرين يلبسون المعاطف الشتوية في عز حر يوليو وثمة من يشرب الهواء وآخر يعمل منظفة زجاج سيارة ومن يعلق على مباراة وهمية ومن يخيط ملابسه ماشيا والذي يبرطم أو يصرخ أو يغني ... كل حالات وأعراض الخبال ألفناها في الشوارع العراقية ، لكننا رصدنا المجنون الأول لصرعة هاتف الثريا التي غزت العراق بعد ضيق فرج إصلاح السنترالات.
يمشي الفتى نصف عاري ماسكا خشبة صغيرة أو ربما نعل حذاء قطعوه على جدارية للفاقد ، يضعها على إذنيه ، يقربها جدا ، مثل هؤلاء المتباهين بهاتف العيد الذين يصرون على الصراخ أكثر فأكثر كلما اقتربت منهم سهوا حلة فتيات ضجرات : لا أسمعك ، أرجوك بصوت عال .. ها .. نعم .. كنت اليوم مع السفير البريطاني ، قال بأنه من الضروري أن نلتقي أولا مع برايمر .. لا بأس أخبرت غارنر حول المسألة التي اتفقنا عليها...
طبعا ، تريدون منه أن يسمع كل هذا الكلام ولا يجن !

سيطرات وحرامية
لا تزال عادة السيطرات قائمة في البلاد ولا يعرف سبب ظهور السيطرات في المناطق أو المدن بعد أن تنهب كليا وتحرق ومن ثم تقام على حرائقها السيطرات.
لو كانت هذه السيطرات بريطانية أو أمريكية ، فالأمر مفهوم ، إلا أنها مختلفة ومتنوعة ووهمية. فكل مجموعة مسلحة حتى مجاهدي خلق لها سيطرتها في هذه البلاد التي لا يريد أحد السيطرة على مقدراتها.
ولو كانوا يمنعون أو يبحثون عن الحرامية ، فهؤلاء هم الذين يصدرون الهويات والتأشيرات والجوازات في سوق مريدي الذي سينشل فيه رئيس الاسكوتلانديارد أو زعيم طائفة الانتربول لو تجرئوا ودخلوا فيه.
ولو أوقفت السيطرات الحرامية ستجد لديهم كل الوثائق الثبوتية ، بل سيعرضون على أفراد السيطرة خدماتهم ويمتلكون حتى أختام أحزاب المعارضة العراقية التي دخلت وافتتحت لها مقار أكثر من أعضائها ، منذ وقت قريب فقط.
قصة نهب معلن
أن يقرروا مقاتلة المحتلين أينما يثقفونهم وأن يرتدوا الأبيض أو الأسود وأن يزعقوا بكهرباء مولداتهم الشخصية ، فهذا شأنهم. لكنهم عندما يتحصنون في مسجد السهلة في الكوفة ويرمون الأمريكان بطشارهم غير المفيد ، فأن ذلك سيجعل الجنود الحمر يمطرونهم بنيران أكثف وأعقد وأكثر فاعلية.
وإن يستشهدوا ، فهذا خيارهم ، لكنهم دمروا أعرق مساجد أول عاصمة للخلافة الإسلامية.
ولنفترض أن ذلك حصل نتيجة التقدير الخطأ أو اضطرار المقاتل أو للضرورات العسكرية الاستراتيجية بعد أن غمر الظلام الطرقات وسدت المسالك بالحشائش والمدرعات.
لكن الذي يحصل في بلادنا فقط ، أن يسقط رفاقك الشهداء بالقرب منك وتسيل دماء الجرحى وتتناثر أشلاء المدنيين بسببك ، وفي تلك اللحظات يأتي الهاتف الجمعي وبكامل وعي الوحي الخلاق ذو التدبير ، لكي يتفق مجموعة من المقاتلين الأخيار مشاريع الاستشهاد من أجل نيل حرية العراق ليتفاهموا بلغتهم المتآكلة المخارج أو بالنظرات كأنها فتات ريبة غير مستقرة ، للهجوم لا على الأعداء الذين تسببوا في مقتل الرفاق والشبان الذين لم يفلحوا بالزفرة الأخيرة، بل للاندفاع نحو مكتبة المسجد وحمل ما يمكن نهبه منها.
تلك المكتبة التي طالما انحنت على قراءة حروفها الظهور وانسدت العيون من التعب في تقليب المخطوطات ، لطالما بحث المجتهدون عن الحقائق والحلول في طياتها ، وكم من سنين مضت ودهور حافظت فيها جدران المسجد على أنفس المخطوطات والكتب ، مجلدات الذي فارق أهله لكي يخطها أعوام تلو أعوام ، نهايتها بين أقدام المدافعين عن البلاد ، الذين تقطعت بهم السبل ، الخبراء في كنس الوقت الضائع والتهام ما تبنيه العقول وغرز سكين الألم بكامل نصالها في أوردة المعرفة.
اندفع الخاسرون في المعارك نحو خزانة مسجد السهلة الكوفي ، ففجروها بالقنابل ، بالطبع لم يستخدموا هذه القنابل في إيذاء المعتدين على أرضهم المقدسة ، كانوا في كل الأحوال يحضرونها لتفجير خزانة المسجد المنكوب ، لينهبوا كل مدخرات الكوفة العريقة ، الهدايا التي تركها الخلفاء والملوك والسلاطين والأمراء ، مصوغات ذهبية ليس لها مثيل ، تحف مجرد رؤيتها ، يلقى بك بعيدا نحو دهور المعرفة الأولى التي انبثقت من هذه البلاد نحو العالم.
مافيا التعويضات
ما أن نافست صور أبو غريب هوليود وأخذ أسمه يتردد أكثر من البيت الأبيض والكرملين والأليزيه في صدر الصحف والمجلات والنشرات الإلكترونية ، حتى تحول الى سوق جديد للنخاسة.
فالعراقيون المتجمهرون أمام السجن بانتظار مواجهة أقربائهم في الداخل أو الفرج بإطلاق سراحهم ، كفوا عن تسمية أي جندي أمريكي بـ "مستر جوني " ، لأن مسؤولي السجن وضعوا حدا للحوار غير المجدي بين الناس والجنود الذين لا يفهمون شيئا منهم ، باختيارهم جنديا أمريكيا يستطيع الحديث بالعربية بلهجة لبنانية.
ولا يوجد أثر للأسباب التي جعلت الناس يستبدلون " جوني " بـ "عبدو" بالرغم من أن أسم هذا الناطق بالعربية ليس بالضرورة عبدو.
والمشكلة في أبي غريب ليست في جوني أو عبدو طبعا ، بل في أولئك المرتدين بدلات بربطة عنق والذين يمسحون جبهاتهم بين الفينة والأخرى من شدة الحر ويفتحون سياراتهم مكاتب متجولة للحصول على توكيلات من المراجعين ، بائعين لهم حلمين دفعة واحدة : الأول ، إطلاق سراح القريب لقاء أتعاب يرتبط حجمها بنوع التهمة ووزن السجين وثانيا ، الوعد بالحصول على تعويض له لا يقل عن مليون دولار ( جميع المتحلقين حول المحامي صاحب البدلة المكوية والمعروقة لا يستطيعون حساب هذا المبلغ بالدينار العراقي ).
يحمل المحامين ووكلائهم وصبيانهم أدوات الحبر لكي تبصم الزايرة والحاجة بإبهامها على عريضة التوكيل ، وبالتأكيد يعطونها الكرت الشخصي للمحامي ، على أن يراجعونه في مكتبه لتصفية الحسابات.
المئات يوميا يبصمون على صناديق السيارات التي تحولت الى مكاتب متجولة للمحامين النصابين ، لكن أيا من المعتقلين لم يظهر ، عدا أولئك الذين قررت سلطات الائتلاف إطلاق سراحهم بناء على أوامر سوبر عليا.
لكن المثير في هذه اللعبة ، أن المحامي لا يتصبب عرقا لا من الحر ولا من الخجل ، ما أن يطلب أحد صبيانه من أولئك العجائز مبلغ 100 دولار لترتيب زيارة واحدة فقط له مع قريبه المسجون.
والأكثر إثارة ، أن الذي يدفع المائة دولار ، يحصل بالفعل من هذا المحامي على إذن بالزيارة ويمشي بثقة ويجتاز البوابة الرئيسية للمعتقل أمام أنظار الآخرين.
من هذا المنطلق بدأنا حكاياتنا مع " جوني " و " عبدو " !

جوازات الأرصفة
عندما تناثرت البلاد لثلاثة أشهر قبل ظهور مؤسسات الشرطة والداخلية العراقية ، كانت الجوازات تباع في الأسواق الشعبية ، لكن هذه الجوازات الرخيصة للغاية ألغيت ولا تسمح شرطة الحدود لحامليها بالعبور ولا تعترف بها جميع بلدان العالم.
أوجدوا طريقة في سلطة الائتلاف لحل مشكلة الراغبين بالسفر وظهرت لأول مرة " وثائق السفر " وهي ورقة مختومة من قبل سلطة التحالف تسمح للمواطن السفر لمرة واحدة.
لغاية الآن تعترف سوريا فقط بهذه الوثيقة ، وبعض الوثائق تكون أقوى في حالات خاصة يمنح فيها البلد المعين تأشيرة دخول لحامليها.
وفي كل الأحوال ، ثمة الآلاف الراغبين بهذه الوثيقة يتجمهرون يوميا بالقرب من مديرية جوازات الرصافة أو الكرخ ، وهما المديريتان الرئيسيتان في العاصمة.
وفي دائرة الجوازات يقررون لأسباب كثيرة إيقاف إصدار هذه الوثائق في أيام معينة ، ثم يصدروا عشرات منها ، وتأتي أيام يقولون بأنهم يصدرون 400 وثيقة في اليوم بناء على الأوامر العليا وهكذا يقف المئات يوميا في الطابور ويعودون خاليي الوفاض حتى انبثاق الفرج.
والفرج دائما موجود في العراق ، طالما لديك نقود ، فعلى الحائط نفسه لمديرية الجوازات ، هناك من يضع برميلا عليه باب منهوب ، ويكتب اسمك ومعطياتك ويلصق صورتك ويختمها بختم التحالف ويعطيك الوثيقة بدقائق لقاء 70 ألف دينار ( 50 دولار ).
ولو تراجع سجلات الجوازات الرسمية تجد رقم الوثيقة واسمك مثبت فيها بالفعل.
الحالة نفسها تتكرر في تسجيل السيارات والولادات وحتى الوفيات !