الأربعاء، 3 سبتمبر 2008

مذاق الخلان

المهنة التي أصبحت لقبا ، وجابهت بخل الحصار والتقشف في المنّ والسكر والذين اعتبروها من الشكليات ومظاهر البذخ والتسلية غير المواتية بالنقود وقوت الشعب غير العاثر على كيلو سكر زائد عن حاجة المخازن الحكومية.
لحلوانية العراق تاريخ طويل لم يفارقه الحاضر كثيرا ، فقد حافظوا ما استطاعوا على هذه المهنة الخاصة التي لم يقتحمها الطفيليون وبدت في استمرارها وتطورها ، كمهارة اختراع وأسرار يسلمونها لبعض جيل بعد جيل.
والأذواق والرغبات بقت على حالها ، فلكل مائدة نصيب ولكل نوع من الحلوى الشعبية العراقية ، نكهته ووقته ووظيفته وقيمته ، فلا تتداخل هذه العوامل ، فيحدث خلط كبير ، فالحلويات دخلت في الموروث الشعبي وكان وجودها دليل احترام وقبول واختفائها علامة خصام.
البشرى
توزيع الحلوى يعني الاحتفال ، فالخطيب المرتجف خوف عدم موافقة أهل حبيبته ، ينشرح ما أن يرى مضيفيه يقدمون له البقلاوة أو " منّ السما" ويعني دخول الحلوى الى المجالس الجدية ، الاتفاق والترحيب بالضيوف وعكسها يعني الابتعاد الى الطرق المسدودة.
وتوزيع الحلوى من قبل أحد بيوت المنطقة على باقي بيوت الحي ، يعني ثمة بشرى يزفها صاحب الحلوى لجيرانه ، نجاح الولد أو الظفر بعلاوة للموظف القديم أو وصول رسالة منتظرة من الابن المغترب أو ولادة صبي على سبعة بنات.
فالحلويات دخلت في الحياة الاجتماعية الأخرى كراية للفرح وإعلان النجاح والسلام والخروج بكفالة من القفص ومحاولة لمشاركة الجميع هذا الزهو كعلامة للتآلف والتضامن والاتحاد الذي طبع الأحياء الشعبية العراقية ، لاسيما في أوقات البلاد الذهبية.
تبادل الفرح
والفرح كان متبادلا أيضا ، فالجيران الذين يستلمون الحلويات ، سيردون بأحسن منها عند زيارتهم لصاحب المبادرة وتقديم التبريكات والتهنئة له ، لذلك تتحول الحلوى الى لغة ود تغذي العلاقات برقة ولطف.
ولطالما كانت الحلوى وسيلة للتقريب بين العائلات المتخاصمة أو التي تنوي التقرب لأخرى.
لقد جمعت الحلوى الناس كثيرا وكثيرا ولم يشهد لقاء فيه حلوى وخصام ، بل ساهمت في تقريب الرؤوس ، كما يقال ، بالحلال ، وهي أفضل هدية للمحتار والمفلس ، الجوعان والزعلان ، ماحية الشعور بالتردد والمشجعة على دخول البيوت من أبوابها ، مبعدة التنافر ومقربة النظرات ، أنها الاكتراث بقمته والاهتمام بأوجه ، ما أن تبعد الأيام خصال الخلان والأحباب.
الشكرجية
هم الحلوانية ببعض اللهجات العربية والحلوانيون بالجمع السالم وفي صلب القضية ، هم من يزيد أيامنا حلاوة وبطوننا سكرا و وهاد حياتنا جمالا ، الذين يتفنون في صبـّها وتزويقها وتأطيرها ولفـّها وضمها بكل ما ما يتناسب مع نسبة الخميرة والنار وقدر السكر والفستق ، الجوز والنشا ، الهيل وكل ما تشتهي النفس أن تقدم لك وأنت في عزّ انبهارك وتوقك لأن تأكل الصوان بالشوق والحب بظلال الأمسية التي تجمعك بمن تحب.
وأروع ما في بغداد الشعبية ، أنها حافظت على ما تبقى من بغداد الحلوة التي أن سارت بشيء ، على الآخرين المضي ورائها ، فلا أحد في هذا الكوكب يمكنه إعادة ما تصنعه أنامل الشكرجية المخضرمين فيها ، مهما قلبوا الدفاتر والوصفات، ومهما حاولوا استخدام أفضل الطرق وأنظف الأواني وأحسن المواد الأولية ، فأن شكرجي بغدادي شاب يستطيع لف وتدوير عجينة قطرها ثلاثة أمتار مؤكدا بأنه سيتلاعب بها وسيلفها على جسده ويطويها من جديد وسيقطعها بلمحة بصر ويدخلها الفرن ، بكل ثقة يقول لو عرضت هذه العملية في التلفزيون لما صدق الناس بأنها خميرة طحين أو عجينة ، يلامسها السكر ويداعبها كطفل يهوي الطيران ومن بعدها يحولها زهرة أو شجرة أو علبة مكعبة أو أي شيء كما تجلس بفخر في صالة العرض.
الرواد
كانوا قليلين ومعروفين جدا في العراق وخاصة في بغداد ، الحلوانية المشهورين ذوي البصمات الخاصة والتي لا يقلد أحدهم الآخر ولا يتجرأ من هو خارج عنهم تقليدها أو الادعاء بذلك.
بداية كانوا كعادة الموهوبين يعدون على الأصابع الشكرجية وكلهم حجاج كأسواق الشكرجي بأبنائه الذين فتح لكل منهم معرضه الخاص فيما بعد وحلويات الطارق والرواد والقسمة وأخيرا يتزعم شكرجية بغداد الآن الخاصكي ، لكونه صاحب أجود منتج وأفضل معمل ، وأسعاره أسخن من حلوياته ، ويفضل عرض بضاعته الآن بالدولار وحسب التعريفة العالمية.
وبما أن الحديث عن الأسعار ، فأن الجمهورية البعثية التي ادعت الاشتراكية وفرضت الأسعار على التجار ، استثنت معارض الحلوى ، لأنها على الأرجح ، إبداع ، كاللوحة أو الأغنية والقصة والرواية ، فلا أحد يستطيع تقييم سعرها ، لا يمكن لسلطة تحديد سعر كيلو الزلابية أو البقلاوة والكنافة والشعرية ومنّ السما وزنود الست والزلابية وغيرها ، فلكل مجتهد نصيب في هذه المسائل ، فهل يمكن مقارنة بقلاوة الخاصكي بأخرى في محل متواضع في سوق الميدان.
المخضرمون لم يفكروا يوما باستخدام مواد أولية رخيصة والتعمد بالإبهار بالشكل وغش الناس ، لم يفعلوا ذلك إطلاقا في أشد أيام محن البلاد ، وكانوا يفضلون إيقاف الإنتاج عن التلاعب بالذوق والطعم والرائحة ، لذلك حرصوا على المحافظة على مستواهم ومذاقهم ، مهما كان دور البديل ، سكرا أو جوزا أو لوزا أو الزيت الذي لا يستطيعون توظيف العادي منه ، بل الدهن الحر العالي المواصفات.
الانتشار والانغلاق
شهدت السبعينات أكبر قفزة في عالم الحلوى العراقية ، فقد استطاع الشكرجية الكبار فتح أفرع لهم في كل دول المنطقة تقريبا واستطاعوا تصدير منتجاتهم ووصلت الى أوربا وأمريكا حيث الجالية العربية كانت تفضل الحلوى العراقية.
غير أن الحصار وظروف التسعينات البالغة السوء ، منعت دخول المواد الأساسية في هذه الصناعة ، فانكفأ معظم شكرجية العراق على صناعة الحلوى باستخدام التمر ، لأن النظام منع استخدام السكر لمثل هذه الأمور التي عدها شكلية ، لذلك ظهرت الكثير من النكات على حلوى التمر الذي حوله العراقيون للحاجة والفاقة حتى الى عصير.
والظروف العصيبة التي عاشها البلد في ذلك العقد المرير ، أدت فيما أدت إليه الى " هجرة أكف " الصناع الماهرين في هذا المجال ، مرتضين العمل في دكان دمشقي أو كافيه بيروتي أو أمام واحدة من بسطات عمان !
تعويض الربـّات
ولم تكن العراقيات أقل شأنا من الرجال في مجال صناعة الحلوى ، وتبرز مهارتهن في رمضان حيث تستعد ربـّات البيوت منذ مطلع شعبان في تحضير اللوازم الرئيسية لحلوى الشهر الجميل. وكانت السيدات بمختلف مشاربهن يتنافسن بلا هوادة من أجل التبختر لحظة تقديم حلاوة أناملهن في لحظة قرار مجموعة الرجال ، كلجنة تحكيم ، أيهنّ أفضل وأحلى !
وتجنح العائلات ومن فيها سيدة تشعر أكثر من غيرها بحرص على ميزانية العائلة ، على صناعة كافة الحلوى المعروفة كالبقلاوة الزلابية والكنافة في البيت ، لأن العرف يقول أنها أرخص وأنظف و " مال البيت " التي لها مذاق خاص دائما.
أنها قوانين رمضان وعاداته التي لم يكسرها أحد في العائلة العراقية ، فحتى الفقيرة منها تستطيع إعداد الكاستر والمحلبي والليقيمات التي هي جزء مهم في المائدة الرمضانية ولا تتطلب مهارة كبيرة وإسراف.
غير أن عولمة التلفزيون وغزو الدشات على السطوح وظهور موضة مسلسلات رمضان ، أحدثت خرقا بيـّـنا في نشاط سيدات البيوت اللواتي أصبح الستلايت جزء من جدولهن اليومي واهتمامهن في الظروف العراقية الغاشمة التي قللت الزيارات ووجهت بالنتيجة ، ضربة في عملية التنافس بينهن ، فالتنافس كان المحفز الرئيسي ، أضف إليه المزاج العام لأم البيت المأخوذ بالذهول والشرود في هموم جانبية وعرضية والجزع المتوالي الذي تجسده فضائيات الحرائق.
الرهان
" من صينية بقلاوة " !!
هكذا يتراهن العراقيون في رمضان ، في نقاش سياسي أو رياضي أو في المحيبس أو الخلاف الودي حول أي قضية ، سيقضي الرهان على الخاسر جلب صينية بقلاوة للجميع.
وغير الرهان فصينية البقلاوة تتحول في الكثير من الأحيان الى المحفز ، فالذي يطلب منك شيء لتفعله له وخاصة في رمضان يوعد أن يجلب لك هذه الصينية.
وهناك رهن ثالث ، لا زال مستمرا حتى اليوم ، فقد كانت لعبة صوان البقلاوة مشهورة في المقاهي البغدادية ، حيث تتجمع فرق تضم أعضاء من البدينين عادة لتتبارى هكذا : من يستطيع أكل صينية بقلاوة بأكملها ؟!
الصينية تحتوي أكثر من 15 كيلو والتهامها دفعة واحدة ليس بالأمر الهين إطلاقا ، وتتخلل اللعبة أغان وتعليقات وردّات شعبية وتشجيع واشتهر البغداديون خاصة في هذه اللعبة التي كانت تستمر لساعات ، علما أن الوزن والوقت هما العاملان الحاسمان في الفوز. وكما اشتهرت اللعبة ، فاشتهر معها اللاعبون ، وفي حقيقة الأمر هم آكلي صوان البقلاوة !!
اللعبة طيبة كالناس ، فالخاسر يدفع ثمن الصينية ، أما الفائز الذي أكل أكثر من 15 كيلو فلا يدفع شيء غير مستقبله الصحي.
زحام
لا يبيت شيئا من حلوى المحلات الكبرى وخاصة في رمضان وتطور الأمر الى أن الناس وخاصة فرق المحيبس تحجز مقدما صواني الحلويات ، وانشغال الشبان في رمضان بالزواج ، أعطى زخما قويا لإنتاج الكثير من الحلوى لتوزيع بهجتها على أكثر الشرائح الشعبية.
تنشط معارض الحلوى قبل الإفطار وبعده في البيع ، فيما تعمل طيلة النهار في عملية الإعداد.
وكما هو رمضان دائما ، حلو وجامع يسعد بالالتقاء وينفر من الافتراق ، وحلوه من يبقي المسرة في عيون النسوة الماضيات في تقليب العجين والسكر ، الحسرات والزفرات ، نذرا للذي خرج ومزق أحشائهن إربا لطول غيابه.