الأربعاء، 3 سبتمبر 2008

زمان الورد


" أن في الجحيم أيضا ً
زهورا "
- وليم كارلوس وليمز -

تعالوا نلج حلم الوردات حين يبتعدن عن ضجيج بغداد ورصاصها العشوائي وأحايينها غير المبالية بمزاج الجوري ودموع القرنفل وفجر الرازقي و لانهائية الياسمين وغيرهن من أزهار الأنف المنخول بالهواء المكرر.
لندلف ولو لدقيقة لا يعطينا الوقت تكررها على الدوام ، في الأنام الساحر ومناداة الغد ونطق اليوم ولفظ الأمس ، عندما يكون لبغداد الحالية في شارع فلسطين لوحده أكثر من مائة مشتل لزراعة وبيع الأزهار ونباتات الظل وورود الزينة.
مواقع مسمرة في وداعة المدينة المجروحة بما فيه الكفاية ، ناثرة على مسمعها وشمها ومذاقها ورؤيتها ولمسها ومسّها كل ألوان البهجة.
هناك صناع الورد ، قبل طلوع النهار ومسرى نقاب الليل ، يهذبون هذا الغصن ويمشطون تسريحة تلك الزهرة كهدوء ملاءة ودثار عشب ، بالبيوت المتسلقة النبات المتجه نحو القمر العالي ، كي يتردد الماء في لجـّة الندى وليسلم الصديق نبأ النجاح لصديقه مع زهرة ولكي ترتاح عصافير البيت من رؤية باقة الأزهار في يد الأم وليختم ما لم يستطع قوله الولهان الفاقد الصبر بطرقة باب أخيره مختصرها وردة.
فلتخفف الأزهار من دم الشعب الحار ولتأخذه حيث السلة والآنية وتنشر في رياحه المغبرة والبالغة الثقل ، ذلك الاخضرار المؤانس والوداعة البريئة في انتظار السهرة المرتجاة ، الأخيرة بمقياس الانسجام وثبات يقين ماء البلاد الوفيرة الهاجعة في الصحراء يلفها العدم المفزوع لوادي السواد الذي أضحى قاحلا متمناه زهرة ولو كمداعبة عاثرة في حلم الوردات.
الملهمات
لا نظن بأن شاعرا أو كاتب أغاني فوّت ذكر الوردة أو أسمائها في أعماله، وكما عرف نيرودا بالحمراء ومايكوفسكي بالصفراء وخشية سان جون بيرس من تحرش الجيوش الزاحفة بالورود النادرة ، كانت أزهار بيكاسو تنشط مع حمامات الجورنيكا وغيرها من أعمال القرن الذهبي للتشكيل.
وغنى العراقيون جميعا في تلك الأزمنة الهادئة نسبيا مع حضيري أبو عزيز توسلاته : " عمي يا بياع الورد .. كلي الورد بيش " ومقام القبانجي " مُهدي الورد " وتنشقوا مع ناظم الغزالي " ريحة الورد ولون العنبر خدودك يا حبيبي الأسمر " وحاولوا تعلم شيئا من الورد بناء على نصيحة زكريا أحمد " شوف الزهور وتعلم وحلم فريد الأطرش " يا زهرة في خيالي .. " ، " لكون " الورد جميل .. " حاول بيعه حتى الماستر الكبير محمد عبد الوهاب في " يا ورد من يشتريك ..".
وكما يحرس الخلفاء والولاة بيت المال عين النعمان بن المنذر حرسا خاصا يتبع له شخصيا ، لحماية الزهور التي نمت وأصبحت من جنائن عصره ، تلك الحمراء التي لا يزال الناس لغاية هذه اللحظة يسمونها " شقائق النعمان " ، في حين لم يشاهد الخليفة المأمون يتناول طعامه إلا والزهور تحيطه ، أما قرط الملك آشور بانيبال فكان من وردة سباعية كدليل على وجود الأزهار في عراق ما قبل التاريخ.
خارج الموسم
هنا بغداد حيث درجة الحرارة تجاوزت الخمسين بنيـّف مذهل ، تصطف مشاتل الزهور في الأعظمية والوشاش وشارع فلسطين والكريعات بعيدا عن مواسم الزهور مرتبة هدايا الزوار الراغبين بالمفرد وأصحاب محلات بيع الزهور المتعاقدين بالجملة لترى كل الزهور التي تعرفها والتي ستشاهدها للمرة الأولى على حد قول مربيها ومنبتها سلمان زكي الذي لم يعط تفسيرا علميا لتنامي الزهور في مشتله قبل موسمها بإلحاحه على أن الحب وحده يكفي لرعاية الورود.
والحر يبدل اصطحاب الزهور حسب تفسيره ، ويمكن لهذه الأجواء المشبعة بالرطوبة أيضا أن تشجع الناس على شراء الدفلى والكازانيا واللبلاب وغيرها من نباتات الظل التي يستوردون بذرها من إيران.
ولا تقتصر المشاتل على بيع الزهور فحسب ، بل كل ما يتعلق بحديقة المنزل ورغبات الناس في إظهارها بشكل حسن كما يقول زكي الذي أشار الى قسم من شتلات قريبة تضم براعم نخل وأثل وجهنمي. فهذه مطلوبة الآن لكونها ستصمد حتى نهاية الشهر التاسع أو قبل ذلك بقليل لتحل مكانها ظليات أخرى.
آلاف الزهور
وتبين بعد أسئلة وردية مع صاحب مشتل " الجنائن " عباس حيدر بأن هناك آلاف أنواع من الزهور ويعتقد أنها تختلف كالبشر حسب اللون والشكل والرائحة والتكاثر والشتل ويجزم بكامل الثقة بأنها مختلفة الطباع والمزاج "فهي كائنات حية مثلك " وأشار نحونا !
وبالرغم من أن تشبيهه فيه الكثير من المجاملة ، إلا أن اندهاشنا من العدد شجعه على الإفادة : وهناك الدائمي والموسمي ، وتلك التي تزرع بالبذار أو بالأقلام أو بالأوراق ومنها من يحب الشمس وغيرها يموت فيها ولكن كل الزهور تحب الماء ولابد لها من تربة ، خاصة الى حد ما. وحتى تركيبة التربة تعتمد من زهرة لأخرى وكذلك طريقة السقي ، فثمة من يقتلها كثرته.
حديث الورد
ذلك الذي لم يقل أسمه والذي يعمل بكد في مشتل للزهور ليس لكسب المال ، بل لعشقه الزهور وثمة كل الأسباب التي تؤدي الى تصديقه ما أن بدأ حديث الورد.
فكما لو كان يتحدث عن حياة عائلية ، كان يشير الى أزهاره ، بل أحيانا يناديهن بأسمائهن : صدق انك لو رفعت هذه الزهرة من شقيقاتها ووضعتها في سنديان آخر ستبكي وستذبل حتى تموت ! لذلك أنصح الناس بشراء الباقة فلا أستطيع بيعها وإفراد بعض الزهرات لأن " الهجرة " مميتة لبعض الأزهار !!
وتبين أن لنمو الزهور الصحيح وتفانيهن في الظهور بشكل جميل علاقة بسماعهن الموسيقى ، وليس أي موسيقى ، وهذه أسرار لا تتاح معرفتها لعابر غير متخصص.
أسمائهن
ارتبطت الوردة بالمرأة التي استعار الكثير أسماء بناتهم من مسميات الزهور فعرفنا : نرجس ، ياسمين ، نسرين ، أريج ، سوسن ، جوري ، شقائق، جلنار ( كردي ) ، صون كول (تركماني يعني وردة الصباح ) وغيرها من أسماء مستمرة التداول في المحيطين العربي والعراقي.
ولكون الزهور آلاف الأنواع ، فلديهم حتما آلاف الأسماء ، لكن ما يحضرنا هنا وما سمعناه من أهل المهنة يعيد بعض منه كالجوري ( الروز ) والقرنفل وملكة الليل والأقحوان و الرازقي والكاردينا والجمبذ والداودي والخيري والبنفسج والنيولوفر والفل والخزامي والزنبق وتلك التي تبدو كما لو كان الندى يغطيها لكنه جزء من لونها.
ومن أشهر نباتات الظل المنتشرة في المشاتل العراقية وبطبيعة الحال في البيوت : اللبلاب ، كف الوزة ، بيكونيا ، مارنتا وغيرها.
منشأ الزهور في المشاتل العراقية أما أن تكون محلية أو تجلب بذورها من الصين وإيران وجنوب أفريقيا وهولندا في الغالب ، ولعل الجميع اتفقوا على أن العراقيات يشترين الزهور وشتلات النباتات أكثر من الرجال ويفهمن بتفاصيلها أكثر منهم أيضا.
نباتات الشفاء
من باب التنوع والفائدة وجلب زبائن مختلفين ، يهتم مشتل العامري بتلك الشتلات التي تداوي الناس الى جانب فوائدها التجميلية الأخرى. وحسب موازنته يؤكد صاحبه على أنهم يقبلون على شراء " السعدان " و " الشبنت " و " الحنظل " لمعالجة متاعب الأمعاء والمعدة و " الجعدة " التي يعتقدون أنها تقضي على الملاريا و " كف مريم " التي تأخذ بيد النساء المنجبات حديثا.
وثمة الكثير من نباتات الشفاء التي يراعونها أكثر من غيرها بوضعها في بيوت زجاجية أو يغطونها بمختلف أنواع الأغطية لكونها تتأثر بالأجواء المغبرة والرطوبة ، أما سر اهتمام هذا المشتل بنبتات الطب الشعبي بالذات فللأمر علاقة بأسعارها التي تعادل وزنها ، لاسيما زهور ينميها خصيصا لعلاج بعض الأمراض كالقرنفل و " دم العاشق " و " حلق السبع " و " عرف الديك " وعين البزون " ، أما بذور زهرة " المارينا " فيصنعون منها أنواع من الشكولاتة !
وصاحب هذا المشتل مثابر حتى من الناحية العلمية وليس التجارية فحسب ، فلديه معمل خاص لتهجين النباتات وإخراج تنويعات من أشجار الرمان والبرتقال والسدر النادر يمكن ابتياعها ونقلها الى أي مكان وشتلها هناك.
وتهتم مشاتل أخرى في إعداد نباتات خاصة في الأعياد الدينية كالكرسمس مثل الصنوبر الذي يقترب من شجرة عيد الميلاد وللطقوس الإسلامية يعدون لهم شجيرات الياس.
غزو الزهور
لا يوجد " بيت " بلا أزهار ، فحتى الذي عمله من الصفيح ستجد شكل زهرة رسمها يتيم الحرب على كراسته المدرسية أو تنبأ بها صديقهم البلبل. لا تخلو لوحة أو منتج ، ملاءة أو ناموسية ، صحن أو ملعقة ، قميص أو ملابس بيت ، حجاب وستارة ،لابد أن تبرز في واحدة منها وردة ولو على وسادة قديمة.
والقرويات في العراق متعلقات جدا بأشكال الزهور ووضعها على السجادة أو الشراشف ، تمائم للأطفال أو ملابسهن الشهيرات بمئات الزهور والألوان ، في المحابس والقلائد والأساور وباقي الاكسسوارات النسائية ، في حين يلبسن الغجريات تلك الفساتين الموردة ذات الطبقات العديدة تشبـّها بالزهرة.
زهرة بمليون
الممعنون باستخدام الزهور لأغراض تجارية يعتنون بالغالية منها والتي لا يستطيع شرائها سوى الأغنياء والأمريكان والحكومة والفنادق الكبرى في بغداد.
فشتلة " السايكس " يصل ثمنها لمليون دينار لكونها تعيش لأكثر من 25 سنة وتستمر في رائحتها ومنظرها الحسن ، لكن السعر المناسب للعراقيين يصل بهم الى نبتات اللبلاب و " كف الوز " و " الدلفين "
وتعتبر زهرة " الجربرة " الأغنى تليها الأقحوان والقرنفل. ويفسرون التراوح في ثمن الشتلات والأزهار بسبب ثمن البذرة نفسها وطبيعة نمو الزهرة وخاصة المستوردة.
ورد أم خبز !
وإن كان السؤال الرجالي مستمرا حول أفضلية العودة الى البيت بكيلو لحم أو زهرة قائما ، إلا أن تتبع الكثرة في مشاتل الزهور في بغداد التي يسكنها شعب فقير بالمقاييس العالمية ، يدل على أن هناك من يشتري الزهور وبكثرة هذه المشاتل وازديادها يعني أنها حتى كتجارة مربحة و إلا لاستبدلوها بأي نشاط تجاري آخر.
وكثرة صناع الزهور ومشتريها يعني أن الزهور تنمو في بغداد بالرغم من تعكر حياة المدينة بحوادث الموت وغضب الأحياء. واختلاط الجدب بالعطر تحول الى صهريج يحمل المدينة فيه كل ما في هذه الحياة ، سنونو وألم يفطر القلب ، شحرور ولوعة تخفيها الجدران.
لكن اليقين غير المبالغ في وصفه ، أن الورود انتصرت في التشاجر غير العادل الذي يلهب بغداد ويحتم عطرها وألوانها في أن يوما يبزغ بأزهار سيمتلأ طمأنينة وسيشق بلا شك خور الضباب وضوضائه الباطلة.