الأربعاء، 27 فبراير 2008

المقابر المؤقتة للنجف








النجف - د . جمال حسين علي:


لاقت النجف حتفها، غادية زهرا مكرها على الذبول، وأحجارا محترقة منخورة، وعبر طرقها الدهماء ترتعش المقارنة مع مدن مقهورة أخرى في الأرض وأقربها بيروت قبل ان تستعيد سلامها المفقود، متطوعة للغفرانمنتظرة العون لتستعيد أمانها وسلامها والبهاء. وحريق النجف يؤدي إلى التحليل المر المستنتج بكيمياء البارود، بأن وقف إطلاق النار حل متأخرا جدا، وبعد خراب المدينة البادية كما لو أن هراوة عملاقة ضربتها وبرحت في إيذائها.
عبر المدينة القديمة
إنها قديمة جدا، أحياء النجف المسماة بالمدينة القديمة والتي كانت المعارك تدور فيها. تجاوزا على الأعراف المعتادة نسميها معارك، فقد كان الأمر أشبه بسيل نار يتدفق على نار أخرى، فتحسر البيوت رأسها وتستسلم للدمار والانهيار، كما لو كانت في زاوية عاثرة فيها، فجرت قنبلة. والشيوخ الذين سمرهم الزمن عند عتبات البيوت، لم يبالوا بالغريب الطارئ، كالشبان الذين تطوعوا لشرح أدق التفاصيل، باضطراب واستعجال كما لو كانت أصواتهم ستصل مباشرة الى الدول المانحة. بداية كانت أصوات الشبان العاملين في سوق الجملة غاضبة كحركاتهم وملامحهم التي تحمل الغريب أكثر مما يرى، فانشغل بالسماع وتسجيل الصور وترديد عبارات التضامن وبث الحرقة في النفس وتجهم العيونِكان الشرح يتدفق على حامل العدسة من شبان السوق: كل بضاعتنا نأخذها 'على التصريف'، لقد تحملنا ديونا بالملايينِ. انظر هنا، صور هناك، تعال وشاهد ماذا فعلوا. في هذا المحل مات رجل وابنه، وعند المنعطف احترق كل شيءِ من يعوضنا، من يعيد لنا أموالنا؟ هل ستكتب الحقيقة؟ هل يعوضنا علاوي؟ هل يعوضنا الصدر؟ هل تعرف كم من العوائل تعيش على هذا السوق؟ إن الناس الذين شمروا عن كلماتهم التي لم تخرج عما ذكرناه، أبدوا تعاونا عالي اللياقة، بعد دقائق من انسجامهم مع الغريب، ولم يتركوه وحده أبدا، وأرشدوه إلى كل الخطوات التي تسهل مهمته في تسجيل الدمارالمرعب الذي ألحق بأكبر سوق في المدينة.
دمار شامل
وهو كذلك، فلم يسلم شيء أبدا من سوق يمتد على مساحة شاسعة للغاية وسط المدينة. وإزاء هذا المنظر، تعجز الذاكرة عن المقارنة الملحة حول أي حرب خلفت مثل هذا الدمارِ لم نر مثله لا في أفغانستان ولا فيالشيشان، ولم تخلفه حتى حرب الإطاحة بنظام صدام، عندما تقاتل جيشان نظاميان يحتمي أحدهما بالمدنيين أيضا. ويبرز سؤال غير سياسي بالمرة: لماذا قصف الأميركان النجف بقسوة شديدة هذه المرة ؟! ويتساءل العابر الجوال: أي نوع من القصف يحرق منطقة واسعة بأسرها؟ بداية، لا يستطيع العابر تخيل أن جيش المهدي (كجيش عدو للقوات المهاجمة التي هي أميركية في حالتنا) يتحصن في السوق، لسبب بسيط، أن سوق الجملة، عبارة عن مظلات من الصفيح ورفوف من الخشب، ولا تصلح أبدا للاحتماء حتى لمدافع أهوج، وهذا ما أكده الشبان الذين صادقوا المصور العابر في هذه اللحظات، حيث قالوا له، إن أفراد جيش المهدي كانوا في بنايات شارع الطوسي وشارع زين العابدين متخندقين عند ساحةالعشرين. فلماذا قصف الأميركان تلك المناطق التي بمجملها فنادق حديثة، وزادوا عليها بإحراق السوق الكبيرة وكل ما يمت الى مركز المدينة بصلة؟ ومع كل المناظر المؤلمة، أصر احد أصحاب المحال على إطلاع العابر على ما حل بأملاكهِ وتبين أنه محل لبيع الكرزات والفستق، وقد حمصت النيران الفستق وبقي متفحما تماما دون أن يمسه أحد غير النار. لقد حمصوا البلدة، بهذه القسوة لكي يرعبوا جيش المهدي وليعمقوا كراهية الناس له جراء تضررهم الرهيب، وهم بذلك حققوا هدفين بقنبلة واحدة.
السبب المعتق
هو أسلوبهم، ولا يوجد أعتى متطرف في جيش المهدي يجرؤ على إنكاره، وهو أنهم حينما يقررون الدخول في مبنى أو بيت أو شارع، فانهم يحتلونه بالقوة، منكلين أولا بأصحاب البيت أو الملك المعين في حالة اعتراضه، وفي أحسن الأحوال تركه يهرب على وجههِ وبعدها تكون البناية أو أي مكان يتمركزون فيه تحت تصرفهم بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فلا يستأذنون صاحب المبنى بالقيام ولا بالقعود ولا نصب مدافعهم ولا مد فوهات قناصاتهم. ومن هنا تبدأ مشكلة القوات الحكومية والأميركية في كيفية إخراجهم من هذه المنطقة التي احتلوها. فالأنباء عندما تتحدث " عن سيطرة جيش المهدي على المدينة القديمة "، أو " نجاح القوات الأميركية في استعادة بعض أحياء المدينة " وجزء مهم من الشارع الفلاني وفرض السيطرة على العلاني، فإن هذا يعني الدمار الفظيع، والنار التي لا ترحم، والجحيم الذي لا يقاوم، إن ذلك يعني قصفا أميركيا بلا رحمة، ودك مواقع بلا شفقة، وتسوية دور ومبان بالأرض، بلا أي عودة ومراجعة قوانين الحرب. وقالها القادة الميدانيون الأميركيون صراحة إنهم لا يستطيعون عدم الرد على النيران التي تصوب ضدهم، أولا، وثانيا، ان الرد سيكون ساحقا ومدمرا. فالمبنى الذي تنطلق منه النيران، يعد مدمرا بعد لحظات من قبل دبابات الأبرام وعربات برادلي والأباتشي ومدافع الهوارتز 155 ملم ومدافع 12 سم وقاذفات القنابل التي تصيب أهدافها عن بعد. هي إذن، معركة تدمير النفس وقضم لسانك بأنيابك، بما يشبه ترك المقابل يقتلك ومن معك، وعودة الى حساب مجمل الخسائر بين الجانبين، فانها ستكون أكثر من 1 الى 200، وهي النسبة التي تدخل في خانة العملياتالانتحارية. فمعركة النجف، لم تخرج من أهوال حروب المدن المأهولة التي يتحمل فيها السكان العبء الأول والأخير، بأرواحهم وممتلكاتهم. ولسوء الحظ، تكرر هذا التخطيط والسيناريو الدموي، بلغة نار عنيفة، في النجف.
التزام أميركي
لقد نص احد بنود الاتفاق الخمسة على خروج جميع القوات الأجنبية من النجف والكوفة. وخلال المطالعة الميدانية، يمكن التأكيد أن الأميركان التزموا كليا بهذا البند، وخرجت جميع قواتهم من كل أراضي النجف
والكوفة، وأخلت مواقعها حتى في المقابر والسماء. الالتزام الأميركي أنعش المبادرة وشجع على صمود وقف إطلاق النار حتى الآن. غير أن القوات الأميركية تمركزت في نقاط تفتيش تبعد عددا من الكيلومترات في كل الطرق المؤدية الى النجف، الأمر الذي أحدث زحاما هائلا، قد يطول ساعات، للشاحنات والمركبات العادية التي تسلك الطريقالدولي المار بالنجف، وهذا أثر نفسيا وعصبيا في الناس الذين يرومون الانتقال على هذه الطرق، ويصابون بطوابير طويلة جدا من السيارات حتى لتلك التي لا تمثل النجف أو الكوفة هدفا لها. وإلى جانب الأميركان، فقد رصدت القوات البولونية وهي تعزز من تحركاتها في هذه المنطقة، التي كانت في وقت سابق تحت سيطرتها ومسؤوليتها، لكن أيا من القوتين لم تدخل النجف ـ المدينة واكتفت بالتواجد في القرى المحاذية لها.
يقظة مقتولة
إن الاتفاق جاء متأخرا ولم ينقذ النجف، وهذا شأن حديث الصور التي ستختصر علينا الكثير من الشرح. وأوجع ما في نتائج معركة الأسابيع الثلاثة، أنها دمرت كل الاستثمارات التي ازدهرت بعد أكثر من عام. فقد وضع كل أصحاب الأموال ما يملكون في مشروعات لدعم السياحة الدينية، ويبدو أن هذه السياحة قد أجهضت عن عمد، كون التخريب قد طال عشرات الفنادق السياحية الحديثة وجميع المرافق التي اعتاد الزوارارتيادها، كالمطاعم والمحال ودور الاستراحة. ومراجعة مع أصحاب أملاك مركز النجف بينت، أن أغلبهم مماشاة للتغيير الإيجابي الحاصل، هدموا أملاكهم السابقة من مطاعم وفنادق وغيرها، وأقاموا مكانها مباني جديدة تواكب العصر وتنسجم مع راحة الزائرينالباحثين عنها. زد على ذلك المعامل البسيطة المتخصصة بالتذكارات والصور والمسابح والقطع الأثرية والباعة المتجولين والبسطاتِ ولا يمكن تغافل، جيش كامل من الشبان الذين وجدوا لهم أعمالا متعددة لدى شركات السياحة،كمترجمين ومرشدين ومرافقين وسائقين وطباخين وكل ما تحمله السياحة من خدمات، تدر ربحا كبيرا على أبناء المدينة الذين تعودوا على هذه المهن وتوارثوها، لغاية اليوم الذي وجدوا كل شيء يحترق أمامهم.
مبان منقذة
أن البنايات الحديثة التي شيدت عند إطار الصحن الحيدري، حمته دون أن تدريِ فقد حاول أصحاب العقارات والمشاريع بناء فنادق عالية في مساحات صغيرة يملكونها، لذلك تجاوزوا في ظل غياب القوانين، فيالارتفاع وسرقوا من السماء وليس من الأرض. هذه البنايات العالية أنقذت الصحن الحيدري من إصابته أكثر، فامتصت النيران بدلا عنه، فيما ساعدت بنايات عالية أخرى القناصة الأميركيين على استغلالها والإشراف على المدينة القديمة والتركيز أكثر وتجنب إصابة الصحن الحيدري، زائدا وجود مثل هذه المباني بالقرب من الصحن التي أصبحت كمصد للنيران قبل وصولها الى الصحن. فهي علاقة عسكرية ـ دراماتيكية ـ قدسية ـ دينية ـ سياسية ـ تكتيكية، ولعلها تتحمل عوامل كثيرة أخرى، تلك التي تربط المعركة المعقدة التي تدور على مبعدة أمتار من مكان يقدسه شعب يفترض أنهم قطعوا آلافالأميال لكي يساعدوه.
مبان تعيسة
كالمدارس التي رمموها وطلوها من أموال إعادة الإعمار قبل عام دراسي واحد، فقد حولها جيش المهدي الى ثكنات ومخازن لأسلحتهم ومرابط راحتهم، وجدت نفسها من جديد في جوف النار وحلق الرميِ وربما كان لقرار تأجيل بدء العام الدراسي الى مطلع أكتوبر بدلا من منتصف سبتمبر، وهو الموعد المعتاد لبدء العام الدراسي، علاقة بما يحصل في البلاد، من هواية استغلال المدارس والمساجد لمقارعة 'الكفار'، وهي طريقة موروثة من النظام السابق بلا شك.
الحيرة القاتلة
إن الكلمات لا بد أن تسير بالعابر الجوال، لكي يدرك أسباب هذه المحرقة، نحو السبب الأخلاقي لها، وملخصه أن الحكومة تريد فرض النظام على جزء من البلاد تقع مسؤوليته على عاتقها، لكن مرارة المنطق الذي حصل تكمن في أن فرض الحكومة المحلية النظام ضد أناس يمارسون سلطة مدنية وعسكرية خارجة عن إرادتهم، حررت يد المارينز ليحيلوا المدينة الى تل من الركام والدمار. والواقع يقول إن الدمار هو بداية لمرحلة جديدة من الإعمار تكفلت بها السلطة القانونية، بعد مساهمتها في هذا الدمار!! وهذا منطق الحال، الذي من الصعب أن تلقي اللوم فيه على طرف بعينه.
موت مؤقت
وكباقي حروب المدن المحاصرة، يجد المدنيون أنفسهم محاصرين مع المدافعينِ ولأنهم يموتون يوميا، ومقبرة المدينة تحولت هي الأخرى الى ساحة قتال، فلابد من دفن أمواتهم في أي مكان. لذلك شهدت الساعات الأولى من بداية وقف إطلاق النار، عمليات البحث عن المقابر المؤقتة والجثث التي دفنت على عجالة. وتجاوزا لحكاية " جثث المحكمة الشرعية " التي سنبحثها لاحقا، فقد انتشرت ظاهرة المقابر المؤقتة، التي أرشدنا إليها أفراد الحرس الوطني والشرطة، وقالوا إنهم اكتشفوها بمعرفتهم ولم تساعدهم عناصر جيشالمهدي بالاستدلال عليها. وشعرنا بتحمل بعض العار، عندما كنا نهتف لمسؤولي هذه الأجهزة، عندما يصعب علينا العثور على المكان المحدد وكأننا نسأل عن مطعم أو سينما: أين المقبرة الجماعية ؟!
مقابر الأنقاض
وللناظر والماشي والعابر والمصور المزيد والمزيد من الحزن ليسجله، ما أن يشير أحدهم إليه: توقف وصور هنا، تحت هذا المبنى 14 جثة !تنظر إليه، جاثم بأسقفه وجدرانه على الأرض ومن غير الممكن إزالة هذا المبنى الذي تحول اسمه الآن الى أنقاض كما تحول سكانه من أسماء الى جثث، بالنظر للإمكانات المحدودة التي تمتلكها سلطة السلطة في المدينة والتي لا تتجاوز بعض الشاحنات وتركتورات تصلح ما تصلح للحرث وليس لرفع أطنان من الإسمنت.
سرقات
وتوقفك مجموعة من الشبان الذين حولتهم الحرب الى رجال ابيضت لحاهم، ليقرروا عدم موضوعيتك وحياديتك، فبينما أنت منشغل بتصوير أنقاض الحرب ومقابرها الجماعية يهتفون بك: لماذا لا تصور السرقات؟ وتسأل: أي سرقات؟ ليجيبك أكثر من صوت: عربات الجيش والشرطة، ألم تشاهدها محملة؟!لا دفاع ممكنا في مثل هذه المواقف غير الاستسلام للعبارة الفضفاضة: لم أر أي عربات تحمل سرقات؟ ويهددونك داخل السؤال: كيف لم ترها؟ فتضطر إلى التبرير من موقف لا حول لك به ولا ناقة ولا حتى جمل: أمتلك عينين فقط ولا تستطيع العينان رؤية ورصد كل ما يجري في البلد !