الثلاثاء، 26 فبراير 2008

مسامرات فـُلك الأهوار




الأهوار - د . جمال حسين علي:

" أصنع لنفسك فلكا من خشب جفر
تجعل الفلك مساكن
وتطليه من داخل وخارج بالقار "

التوراة – الإصحاح السادس

لا يمكن للحياة أن تسير بغيرها، كما لا يوجد أحد في الأهوار لا يمتلك قاربا ومردي وفالة ومكوار. مفككات الأمواج والرسم المنضوي في تناسل المجذاف وعفة الساحل كما المرادي الغائرة في بطن الماء المرن متراخية رضوضها ما بين عبير الطحالب وبنفسجات القاع. صباح الأهوار مغسول بالمشاحيف ومندى بلين الأبلام ومساؤه رقة الأذرع المغمورة بصولة السّـفين وسراج الحيزوم المتربع على منضدة الأمواج، ألق يؤالف اخضرار الأعشاب المؤنثة بالقصب المذكر الممزوج بالقار الحاضن للغمرات ملطخا الأعواد بالماء. لا أهوار بلا قوارب، كما الظهيرة التي ترك فيها عتبة بن غزوان خيول حملته ما أن أطل ّ على الأهوار ليستبدلها بزورق متماشيا مع الأمر الإلهي لنوح ليجعل الفلك مساكن. ومخاطبة الإله لرجل الطوفان في ملحمة جلجامش: هدم بيتك وابن سفينة، وهكذا أسموها «منقذة الحياة» وكانت لسكان الماء دوما ماخرة عباب مسالك العشب وأقواس القصب، فما ان أبصرنا أولها تيقنا من وجودنا في المكان الفياض، فقد كان دائما عنوان الأهوار: المشحوف! القوارب في الأهوار كالأقدام، بعددها أو ربما يزيد، فأي مجال توجه بصرك نحوه، لابد وأن تلمحه متهاديا على الأمواج أو منسلا من بين الأشنات والطحالب والأعواد المتساقطة بفعل الريح أو حاملا كومة حشائش لإطعام الدواب. ليس أكثر من اثنين في الحالات المعتادة، الصياد و«الدافوع» أو من يقطع القصب والمرّان ويجلب «العنكر» وغيرها من نباتات الأهوار ومن يجذف. وفي غالبية الحالات، تجده فريدا يدفع ويقطع ويحمل. والنساء يعبرن الأهوار ويجمعن الأعلاف يوميا ويدفعن الزوارق أكثر من الرجال، أنهن القوة التي لا تلين والطاقة التي لا تخور والاسترسال العذب لحياة الأهوار.. في عمقها وغليانها وعسرها ومشقاتها. لا تعرف المشاحيف جنس «الدافوع» ولا يهمها سني عمره، فهي المتلهفة دوما لحمل الكادحين بعضلاتهم والنازعين جذور الحياة من بطن الهور ولا يسأل المشحوف «دافوعه»، يسبر به الأمواج ولا يخونه، هكذا بنيت العلاقة الأزلية وبانت منذ القوارب السومرية ما قبل التاريخ التي وجدوها مطلية ومزينة ومتوجة متاحف اللاحقين، نفسها، بالمقاس والنظرة والهندسة، تلك المشاحيف التي يستخدمها أهل الأهوار الآن.
أنواعـهــا
والشائع هو المشحوف المستطيل الشكل المدبب من النهايتين وإذا كبر ليتسع ثقل أكثر وتركب به محركات بخارية يسمونه «الشختورة» إذا امتلك أحدهم مالا، لأنها غالية ويصل سعرها إلى ألف أو ألفي دولار حسب قدرة الدفع للمحرك وكم حصانا وكم سيحمل السمك والطيور والناس وينقلهم ما بين المدن بواسطة قنوات المياه والأنهر؟. وهناك الـ «طراد» المستخدم للحمل أيضا ويزينونه بالمسامير الملونة ويفرشون وسطه الحصران والبواري وجوانبه مقوسة معمولة لكي يستند عليها من يجلس على أرضيته. والطراد أكبر حجما من «الكعود» أو «الكعدة» التي تتجاوز حمولتها الطن والذي يستخدمونه في قطع مسافات طويلة ويأتي «البلم» في المرحلة التالية من حيث الحجم فالكثيرون يعتبرونه مشحوفا لكنه أكبر منه بثلاث أو أكثر من الأقدام ولا يطلى بالقار كالمشحوف، بل بزيت الكوسج (قرش صغير) ويبيتون فيه ما بين الخشب القطن وليس نثار الخشب كما في المشاحيف. وهناك "الشاشة" ويستخدم للتنقل الداخلي ويصنع من البردي المضغوط الى بعضه ويضاف إلى هذه الأنواع من الزوارق، أخرى كالماطور (بمحرك) ينتقلون بواسطته الى المدن البعيدة و«الجلبوت» الصغير و«الجليكة» و«البركش» و«الدانك» الأكبر من المشحوف والمستخدم لنقل الحمولات و«الكفة» و«البركش» الذي يعتبره البعض أكبر قوارب الأهوار و«الجلابية» التي لم يعد أحد يصنعها أو يستخدمها. أما «المهيلة» أو «العانية» وأحيانا يكتفون بتسميتها «أم شراع» لاستخدامهم شراعا في تسييرها أحيانا، فهي كبيرة لنقل البضائع وكانت شائعة في تلك الأوقات التي كان فيها الملاك الكبار والتجارة الزاهرة أوقات «الإقطاع». كل الأنواع مصنوعة حسب مبدأ واحد وفي كل هذه الأنواع لا يستغنون عن المرادي الطويلة أو «الجني» لدفعها سواء في مدها في العمق وعن طرق الغرف في مواقع المياه العميقة بواسطة «الغراريف» في حالة تعطل المحركات إن وجدت.
صناعتها
يحفر الخشب بألواح طويلة ويطلى من الخارج بالقار وتعقف المقدمة (الصدر) ويهيأ بها مكان للجلوس تسمى «الدوسة» التي توجد مشابهة لها في النهاية التي تأخذ هيكلا مثلثا «الركمة» تسند الهيكل الخشبي الممتد لكل أطراف المشحوف التي يخرقها من الوسط «الجست» كمكان إضافي للجلوس. ولا غنى عن ربط الخشب بالمسامير المختلفة حسب مواقع التثبيت. يفضلون خشب التوت في صناعة الزوارق لكونه الأرخص والمتاح، وقد يجلبون أنواعا أخرى من المدن مثل «الجام» و«الجاوي» بالرغم من أن «الصاج» أفضل ما ذكر لكنه غير موجود ونادر في العراق وغالي الثمن وكان أوقات الاستيراد يجلبونه من الهند وماليزيا واندونسيا بواسطة البواخر الشراعية التي تصل موانئ البصرة. اشتهر صناع القوارب في الأهوار كحرفيين ماهرين وكانوا دائما موجودين بما فيه الكفاية وتميز الصابئة عن باقي أقرانهم في هذه الحرفة، وينتجون في الأوقات الذهبية المئات شهريا، لكنهم اليوم لا يصلون إلى هذا العدد، لكن عملهم في تصاعد مستمر في صناعة الجديد وتصليح القديم، فالمشحوف ينبغي تجديده كل عام ومراقبة قيره طوال عمره الافتراضي الذي يقدرونه بخمسة سنوات. صانع الزوارق اليوم يأخذ مهام «الكيار» و«المكير» أيضا الذي «يجوي» الزورق ما أن ينضح بالمياه لوجود ثقب فيه في مكان ما، ولا تستغرق هذه العملية غير تحضير مشعل نار وتمريره على المنطقة التي تشقق أو سقط القار منها لتلتئم مجددا. صغر سنهم وأصبحوا شبانا، بل الكثير من الفتيان منهم يمارسون هذه المهنة الآن بشكل جماعي، وحين توقفنا عندهم كانوا مشغولين كل بمهمته، فالخريف سينتهي وقد لا تحل مثل هذه الشمس في الأوقات القادمة. هناك من يقطع الأخشاب وآخر ينجر الأغصان وثالث بيده «مكفال» ينزع القار القديم الذي لا يصلح ولا يمكن تسويته ليبعده عن الخشب ( كشط الجير). وبدا أنهم يستخدمون القوارب القديمة ويعيدون ترميمها أو تجديدها، فالحال ليس على ما يرام وليس دائما يوجد من يريد شراء مشحوف جديد. يطلون الزورق بالقار أو كما يسمونه «الجير» باستخدام «الصكلة» بعد أخذه جاهزا من «المنكالة» الخشبية وبقلبه وتمشية القار عليه بطريقة يسمونها «الثوب» وهي طبقة خفيفة تليها طبقة أخرى فوقها «الكمر» وبعدها يتركونه يجف مع «الطين الحري» ليكون جاهزا للماء. بعد هذه العملية التي تستغرق بضعة ساعات، يبيعون المشحوف بسعر لا يتجاوز 50 دولارا، وقد ينقص قليلا بحساب طوله الذي يفصلونها 7 أقدام. ويوجد حاليا بالقرب من كل الأهوار التي عادت إليها المياه والحياة «سوابيط» القوارب وهي «كراجات القصب» التي تحافظ عليها من الشمس والمطر وغيرها.
أهميتها
لم تدخل القوارب في مسيرة الحياة في الأهوار فحسب، بل انصهرت في ثقافاتهم وأمثلتهم الشعبية وأشعارهم وأغانيهم ولا يستطيع من يكتب عن الأهوار في أي حقل فني تجاوز المشحوف الذي كانوا يطلقون عليها أسماء أولادهم لاعتزازهم بها. ولطالما تغزل الشعراء وغنى المطربون مستلهمين القوارب في إبداعهم مثل «مشحوفي طر ّ الهور وبيدي فالة» و«مشيت وياه للمكير أوصلنه» و«طراريد العشك سارن بلا ماي» و«سرت كل البلام وشله بلماي» و«دوانيك كلبي محملة اكشاش» والكثير جدا من قصائد الشعر الشعبي الكلاسيكية والمعاصرة والأبوذيات والحسجات وغيرها من فولكلور امتدت في عمق ثقافة المنطقة ومحبيها وتاريخ أبنائها.
ذعر القوارب
وقالوا أن أكثر شيء كان يزعج النظام هو القوارب وصناعها وعددها، فقد كان يخشى كثيرا من انتشارها وبأعداد كبيرة في الهور، لأنه يعتبرها أفضل وسيلة لتنقل المعارضين واختبائهم وسط الدغل والأحراش ولا يكلفهم الأمر سوى تغطية المشحوف ببارية (يسمون العملية شكص والشخص امشكص ويستخدمها صيادو السمك الذين يبقون أياما في الهور) والاختفاء هنا لأطول فترة ممكنة. وتبعا لهذه الخشية فقد زرع النظام الجواسيس بين الأهالي لتعقب الذين يمدون المعارضين المختبئين بالزوارق بالطعام والمؤن والأنباء. وتلافيا لمخاطرهم حاول النظام تسجيل القوارب (كما الحال مع السيارات) وإعطاءها أرقاما، لكي يعرف كل صاحب زورق وعنوانه وغيرها من المعلومات عنه. لكن المسألة لم تكن عملية لوجود عشرات الآلاف من المشاحيف، لكنه استطاع تثبيت أرقام الشختورات والماطورات وكل قارب يعمل بمحرك. لكن يبقى المشحوف ككريات الدم بالنسبة لجسد الأهوار ويفضله الناس لأنه سلس وينساب برشاقة في المناطق الضحلة والعميقة على السواء. وبما أن الظرف في الأهوار الآن جعل مستويات الماء متذبذبة وزاد من غابات البردي والقصب التي تحجز مسرى المياه، فأن للمشحوف قدرة على المناورة ما بين «الكواهين» (ممرات المياه) ليتنقل أسهل من القوارب الكبيرة والشخاتير.
أخلاق القوارب
هناك عادات وأسس تعارف عليها الأهواريون في كل جوانب الحياة، ومنها ما يتعلق بالقوارب فإذا تقابل قاربان فإن الذي يسير مع التيار هو الذي يؤدي التحية للذي يجذف ضد التيار (يسمونه المغرّب) مهما كان عمره وزاد عدد الركاب لديه. هذه العادة تفسيرها عميق مرتبط بشد أزر الذي يجذف ضد التيار ويشعرونه بتضامنهم مع تعبه كونه يبذل طاقة وجهد أكبر منهم وفي وقت واحد فهي استقامة من نظم كل صغيرة وكبيرة في العلاقات الاجتماعية الخاصة التي أنشأت حضارة الأهوار. وكذلك يعاملون الـ «معذب» وهذا الذي يقضي فترة طويلة في الهور لصيد السمك، خلال عودته إلى مسكنه.
قارب الذهب
وهي ليست تلك القوارب التي عثر عليها في خزائن مملكة أور السومرية في أهوار الناصرية، بل أسطورة لم يزر أحد الأهوار أو سكنها إلا ويتحدث عنها حتى اليوم. ملخصها أن قاربا من الذهب يظهر كل ليلة جمعة قرب «تل الذهب» أو جزيرة «حفيظ» المليئة بالكنوز والتحف الأثرية والذهب والأختام، على متنه يرقص ملاحون ويقرعون الطبول وينشدون بمصاحبة الدفوف أغان تصل لأسماع كل أهل الهور الذين يرون برقا مضيئا من الذهب وأصوات لا يكاد أحد يتبينها أو يفهم منها شيئا سوى أنها لملاحين غائرين منعمين بالذهب، لا يخرجون إلى الحياة إلا في ليلة الجمعة. ويروى أن الكثيرين من شيوخ الأهوار حاولوا الحصول على قارب الذهب هذا، لكن أحدا ممن كلفوا بمهمة الوصول إلى تلك المنطقة لم يرجع وأن الذي يطمع أو يفكر بالحصول عليه، سيلاحقه الموت أو يغلفه الجنون. لا ندري ما حقيقة قارب الذهب وأحقية «إيشان حفيظ» وأغان الملاحين، لكن ليالي الأهوار من العمق والرهبة ما يجعل نشيدها الغامض ملونا بالحشائش وما فيها لا يدرك بالصدفة أو الحسابات المنطقية ولو كان قارب الذهب هذا موجودا فأين كان صدام عنه، وربما كان الرئيس المخلوع واحدا من ضحاياه كالشيوخ الذين جنوا أو تيبسوا في فراشهم ما أن فكروا بالاقتراب من زهور الملاحين الذين كانت أرواحهم تهبط من سر الخلود الذي بحث عنه جلجامش في هذه الأنحاء والقصبات، وقد يكون نشيجه على أنكيدو أو شجرة الملوك الذين كانوا يغزون بعضهم البعض وحولت معاركهم مياه الأهوار إلى طوفان من الدماء وكما قرأ في رقيم بابلي بعد خمسة آلاف عام: «وأصبحت البلاد تخور مثل الثور» واصفا بأس الموت الذي حل بالمملكة التي يصفها رقيم بابلي آخر: «كان الموتى يملأون النهر وكأنهم فراشات وقد تحاشدوا كالأكلاك عند حافة النهر». واضح أن هذه «الأكلاك» كانت حقيقية وتوصيف عدد الناس الذين قضوا حتفهم دون أن يظفروا بقارب، في هذا المكان الذي يسميه الناس بعد كل هذه القرون بقارب الذهب، جرح لم يندمل لأرواح تظهر كل ليلة جمعة ترقص على قاربها الموعود وتنشد أغاني الخلود.