الاثنين، 25 فبراير 2008

من آلام مراسل حربي مهداة لزنابق الزملاء الشهداء (3 )





أصعب المهمات الميدانية تكون مع الميليشيات غير الشرعية
تجمع صحافي في أحد شوارع بغداد
مع بعض الصحافيين الغربيين في الشيشان

د . جمال حسين علي

يمكن شراء أي شيء في العالم عدا الحقيقة
في الحروب وفرة من الجرائم والمراسل الحربي 'إنذار مبكر' لفضحها'
المختارون' أبشع تمييز تعرضت له الصحافة في حربي أفغانستان والعراق
القارئ لا يتضامن مع من يخدعه والصحافي لا يمكنه البقاء على الحياد
كيف يمكن تحقيق إنجاز صحفي في ظل 'أولويات' و'محظورات' السلطات العسكرية؟

ان العمل في النقاط الساخنة هو ليس إجازة لكتابة ريبورتاجات سياحية أو مهلة لاسترجاع الأنفاس من عمل المركز الإعلامي وليس مجالا للتخلص من ملله، بل هو أكبر من فضول وتحقيق أمر ما في الذات التي تبرهن عما تعتقد بنقصانه، فهو مهمة إنسانية ومهنية كبرى، بل وحتى تاريخية. ولا ينبغي الكتابة عن المدن لاسيما الساخنة بناء على ولعنا بها أو احتقارنا لها، بل فيما يستحق منها تقديمه إلى الزمن وذكريات المستقبل وعبرة الأجيال. فمهما كانت متانة الخطط التي توضع قبل الوصول إلى النقاط الساخنة فان تسعة أعشار الريبورتاجات تكون لمعانا وتألقا ستقدمها المفاجآت والصدف بمسراتها وأوجاعها وقابلية التقاطها والخوض فيها حتى النهاية، فلا صدف تأتي لشخص يجلس وينتظر حدوثها بطبيعة الحال، وحتى الصدف المعقولة والساحرة تهدى فقط للراكبين زوارق المقامرة ومن يراهنون على القضايا الخاسرة. ولا يجوز الانتظار حتى يأزف الاختيار، ومعرفة المطلوب وفهمه، فكيف سيتحقق الإنجاز الصحفي المبدع لو تكالبت كل الأطراف لوضع مراسل النقاط الساخنة في زاوية لا يمكنه خلالها مراقبة الوضع ولا التقرب من سخونته، لأنه ما أن يخرج سيصبح المستهدف رقم واحد من قبل كل الرماة. وعندما يكون محايدا حين يقترب تفسير ما يجري في الحياة من السياسة والأيدولوجيا وخاصة حين الكتابة عن طرف لا يحبه شخصيا ولا يتعاطف معه وبالعكس حين يميل نحوه لكي لا تصل النتائج إلى 'الانحطاط الصارخ' بخرق المعايير الفنية والمهنية والحياد هو أقرب الوسائل التي يحافظ بها المراسل على قدرة معينة للسيطرة على التحولات الكبيرة التي تطرأ أمام عينيه أولا ومنها سينقلها إلى جميع المخلوقات القارئة في الكون وهنا نقترب فيما يسميه المهنيون 'أخلاق الصحافة. غير أن غموض المراسل الغريب يزداد كلما حاول معرفة ما الذي يفعله الناس في المدن التي تحترق وكيف يعيشون ولماذا يحصل أمامه كل ما يحصل، وإن كانت أفكاره راسخة وفق الطبيعة العامة لمنطق الأمور فان بعض الأماكن التي تجري فيها الأحداث بعيدا عن أي منطق تفرس فيه، ستداهمه بالكثير من الاعتقاداتا لوهمية والصدمات التي ستشل عمله، لذلك يمكن جر الناس بسلاسة وإدراك منهم لأهمية عملك ولاسيما البسطاء لا أن توقعهم في الشرك كما تفعل مع الساسة المحترفين وأمراء الحروب.
إنذار مبكر
أن مراسل الحرب جهاز إنذار مبكر للإعلان عن المذابح والفضائح التي تسويها وكالات التنميق والعجز والدعاية وتضيعها دخان الحروب البعيدة بمزيد من التقارير المخزيةِ وعن التلفيق والزيف والتمثيل ورواية قصص خيالية لم تقع وغيرها من أساليب عادة ما يلجأ إلى افتعالها مراسلو النقاط الساخنة بدرجة قد تصل إلى نسبة لا يستهان بها فلأن كل الحروب الأخيرة شنتها دول الناتو بقيادة الولايات المتحدة، لذلك فان الصحافيين الغربيين كانوا المقدمين على الآخرين بشكل عنصري لا مهني، ونظرا لعلاقات قديمة واستراتيجية بين دوائرهم والمؤسسة العسكرية التي تشن هذه الحرب وتلك، ولكن إن كان هذا أمرا منطقيا وميسورا فهمه، فلم كان هؤلاء الصحافيون المدللون بعيدين عن الروح، ونقصد بها روح المنافسة الشريفة ولم عليهم التجرد من الخصال الإنسانية البناءة والتعالي على الآخرين لكونهم يملكون تصريحا أغلظ من الآخرين ولماذا لم يحاول أي منهم حتى كبت غرائزه في التنافس المهني والزيف وتضخيم الذات حتى في رسائلهم الصحفية المتورطة في الكثير من وجهات النظر المقررة عن بعد.
وسيعتقد المراسل، في المناطق التي تمارس فيها أعمال بمنتهى القذارة، أن شرفه الخاص يحتم عليه الترفع عنها وانتقادها بلا هوادة، أو في الحالات الأكثر حين يشعر الصحافي بأنه الأكثر نزاهة، وأن العالم الآخر وقح ومنافق باعتماده على أساسيات الأخلاق التي يتبناها وهنا ستصعب مهمته ولن يصل إلى تغطية صحفية فذة اعتمادا على أطره الأخلاقية وليس على ما يتسيد الأرض من آلام وأوساخ، والأهم هو ما في القضية حتى في جوهرها المهني أن الصحافي ينبغي عليه أن يترك للقارئ أو المتلقي فرصة التقاط الأنفاس والحكم على النظيف والقذر، الظالم والمظلوم، الجاني والمجني عليه.
ومع ذلك، فمن النادر جدا أن تحظوا بتقرير من النقاط الساخنة خال من الانفعالات الخاصة من المراسلين الذين لا يستطيعون في الكثير من الحالات الانفصال عن 'حالاتهم' وأبطالهم ومهما وصلت خبرة الصحافي وشغفه الطاغي بالحقيقة المجردة فما أن يظفر بالصورة المؤثرة، حتى يجد نفسه مغلفا بمعاناتها الشديدةالوطأة، عليه وعلى النص الذي سينجزه.
الخيارات مميتة
ما الخيارات أمام المراسل في المناطق التي تتمتع بقدر كاف من اللصوص، المتطرفين، عصابات خطف الصحافيين لأسباب شتى، قطاع الطرق، طلاب الفدية، المشاكسين من عامة الشعب الذين يقررون ما على الصحافي تصويره أو تغطيته، الفضوليين، زحام البشر غير المبرر فحول الصحافي في بلدان تحاصرها الميليشيات، في بلدان تحدد للصحافي طريقه، في بلدان توحي اليك السلطات الرسمية أنها تثق بك، لكنه اتراقب كل خطوة تقوم بها، في بلدان لا تستطيع الوصول إليها لأنك أو مؤسستك الصحفية ممنوعون من دخولها، في بلدان أصدرت بحقك حكم الإعدام، في مدن لا تجيد لغتها: التنكر، الحماية الشخصية، الحماية الرسمية، وحين تطرح حقيقة موثقة بالصور والبيانات والوثائق ألا تفسدها الاستنتاجات، ففي التغطيات الحربية لايوجد غير مقياسين: إما النجاح التام أو الفشل المنكر، تماما كما في الحروب التي نغطيها، فيهاالمهزومون والمندحرون وفيها المنتصرون، وهكذاِ فكيف الانتقال في الدول الكبيرة المساحة والضئيلة الخدمات، كيف تستطيع تصوير المدن التي تتساقط وهي بعيدة جدا بعضها عن البعض الآخر بلا طرق ولا وسائل مواصلات، ما الواجب فعله هنا مع تعقد الحروب: لا يجوز تقديم المظهر الخارجي للآلام، فالحياة هناك ليست على منوال واحد ولا تتوقف عند الانطباع الاختياري، ناهيك عن قوائم المحظورات والأحكام الأيديولوجية وتقلبات الحروب اللاإنسانية : تسقط الأخبار .. إعادة بنائها .. ايجاد صيغة لروايتها بأفضل صورة وبأكثر محاور للجدل.. وحين تصور الزيف الأخلاقي في محور ما، فقد تضع عليه اليوم هذا الغطاء وفي الذي يليه غطاء آخر لكي تمرره للنشر ولكن كيف يمكنك تمريره الى ما لانهاية، وكيف لو طرأت لك فكرة محاسبة التاريخ؟ كيف سيكون رأي المراسلين الاميركيين والغربيين الذين نفوا التعرض للمدنيين وهم يرافقون القوات الاميركية لقد وضعوا الغطاء ليجيزوا عدالة الحرب، ولكن بعد أن مات من مات من المدنيين كيف سيتربعون على كرسي الأخلاق الآن في هذه اللحظة حين نكتب عن الجرائم التي اقترفت.. هل سيعتذرون الآن كمن وضع قدميه على طاولتك ودلق عليك الحساء، ومن ثم يعتذر منك هل بامكانك قبول اعتذاره في هذه الحادثة التافهة لا .. لا يمكن ،، فكيف سيقبل التاريخ اعتذارهم، وأنهم الذين نفوا وقوع كل هذه الجرائم؟
قتلى الكذب والتضليل
إذن لماذا يميل المراسلون الغربيون الى الكذب التكتيكي والكذب الاستراتيجي، وهل الصحافة خلقت كواحدة من أساليب التضليل!؟ صحيح أن الصحافة تفرض عليك ضبط انفعالاتك ولكن بمقاييس قواعد الأخلاق المهنية والانسانية، وألا تطمع في تلقائية النجاح المتوفر لديك من ركوبك دبابة المنتصرين، على نسيان الجثث التي تزحف عليها هذه الدبابة بحجة أن ذلك محظور أو غير شرعي، فما الشرعي إذن حين تلزم الصمت، وأي عار من تمسكك بالثوابت التي وقعت عليها في غرف البنتاغون! هنا لا يتحمل الصحافي الحربي الخزي والدونية ويفقد جوهر الأخلاق فحسب، بل سيؤكد انحطاطه المهني من حيث دقة نقل الواقع، فنحن أمام حرب وليس تطبيلا في دعاية انتخابية، أو تفضيل خصوم برلمانيين على غيرهم، أننا ملطخون بالدماء وعدساتنا بالغبار الصادر من الأرواح البريئة التي تسحقها آلات الحرب الفظيعة، ولماذا الغاية تبرر الوسيلة هنا حين تكتب تقريرا وتنتزع منه بإرادتك معلومة إجرامية كما يفعل السياسيون في خطبهم، ولماذا لم تكشف النقاب عن الأعمال الشريرة المدوية والوضيعة. لماذا تتضافرالجهود كلها للخداع؟ هل نعدها هفوة أو زلة حين نفقد الفرصة لكي نتكتم، ارضاء للرسميين وبارشاداتهم، خانعين باتفاقات ضمنية لكي نكذب في جوهر المسألة وحينها سنعتاد الكذب، ولماذا لم نعرض جوانبها المهمة ونلوذ بالتضليل او ترك القادة الميدانيين يشبعون القارئ بالكذب السافر والادعاء والبيانات الخالية من المسؤولية ولماذا كلما نريد الكذب نقول 'مصادر مطلعة' لنحتفظ بالحقيقة لأنفسنا، أي ريب هذا وأيعار حين تسحق الحاجة الملحة للحقيقة وتغطيتها بالأنباء الخارجة عن نطاقها والبعيدة عن أصل المشكلة؟ ألا تمثل هذه المفاجآت العارضة تقارير منافية للآداب العامة حين نسهل مهمتنا في بثها يوميا وعلى الملأ ! هذا اختبار حازم ما بين التقارير الوقحة وتلك التي تثير الغوغاء الذين يفضلون سماعها فحسب وكم يصبح بغيضا، تسلق هذا النوع من التقارير على سواها في استحسان المراكز الإعلامية وحتى التي تعد نفسها متخصصة، وستلحق خسارة جسيمة بالعامل الأهم في هذه اللعبة: القضية الحقيقية! المشكلة في العالم المعاصر أن كل شيء لم يكن ثمة مجال التفكير في وقوعه، أصبح وقوعه عاديا، وإذا اطلع العالم بمصادفة غريبة عما جرى في سجن أبو غريب على سبيل المثال، فإن محاسن الصدف لم تكتمل ليطلع العالم على 'الاستجواب' الذي جرى مع أبطال هذه الفضيحة المهينة. ما دور الصحافة في هذا النوع من الجرائم الطارئة وهل ستكتفي بترديد شناعتها دون الخوض في دواعيها وتفاصيلها وأسبابها والاكتفاء بمعاقبة مجرمين صغار لما اقترفوه من قذارة صغيرة؟! غموض الرقابة هنا محير ومثير للشك، فالاستجواب لم يجر على مشكلة يومية وأن الرقيب الصارم تصرف وكأنه يعرف ما الذي ينبغي عمله وعلى الجمهور سماع الأفضل دوما وحول نفسه إلى ضمير الأزمة والناطق عما يجوز للتاريخ معرفته ولا يجوزِألا يؤدي الغموض المتعمد إلى طرد الصحافة من أهم معاقلها و ألا يبدو الأمر برمته وقحا بما فيه الكفاية حين تشوه الحقائق وتحرف على النحو الذي يحولون فيه الصحافة على متفرج بائس ضمن حفنة الأقلية المدانة في قضية ما؟! يذكرنا الأمر في تصرفات الزعماء المستبدين وما يجده المراسلون في هوة كبيرة بين كلامهم والواقع المضني الذي تعيشه شعوبه وما تفرضه هذه المقارنة من رثاء ويأس، أولئك الذين لبسوا الأقنعة وصدقوا أنهم يقودون التاريخ وبقليل من الحكمة يمكن الإدراك بأنهم سيتلاشون مع دخان الإذلال وان كل السياط التي استخدموها ستوجه إليهم بعد زمان مهما طال. وإذا فرضت الظروف، التهذيب على الصحافة، فلماذا يؤدي هذا إلى اعتقاد السياسيين بأن الضوء الأخضر فتح أمامهم للخروج عن السيطرة وتناسي عقوبة الرأي العام؟
قتلى المديح
ويبقى مدح هذا الطرف وإطراء ذاك حين تحتدم البنادق وتتلظى النيران، حط من قدر التقرير وإذلاله بالعواطف وإلصاقه بصفات حقيقية قد لا يتحلى بها أي من الأطراف المتحاربة وان يستخدمها المراسلون الحربيون لانتقاص جهة على حساب تعظيم أخرى فهذا يدخل إلى مساحة شاذة تخرق المبادئ المهنية وخدمة للذين يفكرون في أنفسهم فقط وقبول مصالحهم وغاياتهم التي يعدونها من الأمور المسلم بها، وهنا يظهرالمراقب وكأنه شخص يجافي الحقائق، مبكرا في إعلان موت الصدق منذ التقرير الأول الذي يرسله، فمن الصعب العثور على مراسل مستقل الرأي ومتحد مع قضيته، بينما في المستطاع الاصطدام بالكثيرين بما فيه الكفاية ممن ينتحلون شخصيات أخرى ويتقمصون مواقف غيرهم وحينذاك سيبان التكلف في الصنعة الصحفية حتى في تلك التقارير التي تبدو للوهلة الأولى صريحة، ولكن ألا تعتبر قلة المراسلين المستقلين جزءا من غرابة أطوار المهنة وقواعدها المبنية بالأساس على الرأسمال أو صوت الأحزاب والأنظمة، تلك القواعد التي جعلتها تبدو في الحروب خاصة كمهنة مبتذلة، بل وساقطة كمومس غير مضطرة؟ لماذا الذين يروون الحقيقة كما يرونها (في النقاط الساخنة تحديدا) نادرون في هذه المهنة؟! وعلى الأرجح ان تحول المراسل إلى قاض أو محام لهذه الجهة أو تلك أكثر ما شوه سمعة الصحافة في حروب القرن العشرين ومطلع القرن الحاليِ وأكثر ما يثير البغض والنقمة حين يضعون المراسل الذي يخاطر في حياته في زاوية لا حيل لديه أو قوة ليضع المسميات كما هي ويحدد أماكن النقاط على حروفها. هل المشكلة في 'ضغوط الحياة' أو 'التسلل الدائم' للمهنة من أشباه الصحافيين أو المقلدين السيئين والصغار أم هي شخصية المهني الخارج من عدة شخصيات في أفضل حالتها 'مزدوجة' تهدر وقتها في تغيير الجلد واختلاق الطرق المختلفة لكي يصبح إنتاجه 'بشوشا' لا يغضب أحد حين يجمع المزيد من 'الكلام الفارغ'الذي لا يفضي إلى شيء؟ انهم حفنة مألوفة في المهنة، لكنها كثيرة للغاية وتزداد باستمرار بتعقد معاصي الدنيا وتفرع تشابكها وكأنهم جاءوا ليقولوا ويفعلوا بلطف شيئا اتفقوا عليه جميعا كما في مسرحية حسنة الإخراجِ.
كيف سيتضامن القارئ مع من يخدعه ولا يكشف له حقيقة الحياة في تلك المناطق الغارقة بالدماء والنيران؟ ولماذا على الأحداث أن يقدر لها دائما بهجة التقارير وأنباء الانتصارات، وهل أن الحشد من الأسرارالمسربة تعبير حقيقي عما يجري في الحياة التي كتب على القارئ الاطلاع عليها بمسارين وبوجهتي نظرمختلفتين وإذا كانت كل الأسرار لا تنسب لأحد، فهل تعد أسرارا حتى من زاوية نظر الحرفية والمهنية التقليدية؟ وماذا لو اصطدمت دوما بمسؤولين يرفضون البوح بأسمائهم ويمانعون في نقل المعلومات عنهم وهل ستتحول خلفية التقارير إلى عمى مقصود أو تسريب وهمي لغايات سياسية قد تهدر المزيد من الدماء؟
موت التقرير الحربي
بلا عناء سيشعر القارئ أن التقارير من هذا النوع ستترنح منذ سطورها الأولى، وإذا كانت كتابة هذاالنوع الغامض من التقرير تلقائيا ومن طبائع ظروف الحرب، أفلا يؤدي الوقار المصنوع في التقارير والمزيف إلى الإزعاج وانتقاص قيمة المواقف الخطيرة ولماذا على المراسل الاندفاع نحو من يريد الكتابة عنه وعن إنجازاته وما حققته قواته، هل سيلوم نفسه حين ينجلي دخان المعارك وتظهر الحقيقة؟ هل يفترض أن يجيب المراسل عن أسئلة تحدد إلى أي جانب سيقف في الحرب، هل مهنته تفرض عليه الإجابة عن الأسئلة أم توجيهها! لماذا تحول هذا الأسلوب إلى قاعدة راسخة في اعتماد الصحافيين والسماح لهم في الوصول إلى النقاط الساخنةِِ؟ وهل ينفع مع سلطة عسكرية تشن الحرب 'اتفاق على الأولويات' كما يسمونهاوعلى 'المحظورات' من النشر كما يفرضونها، وهل بالإمكان أن يتفق كل المراسلين في النقاط الساخنة على رواية واحدة؟!
أن العسكريين طالما أفقدوا الصحافة لياقتها وصدقها وصراحتها وعملوا كل شيء من أجل إخراج التقاريرالصحفية في المناطق التي يسيطرون عليها كما يشتهون لا كما تفرضه الحقائق، ولعل ظهور حالة 'المختارين'أبشع تمييز تعرضت له الصحافة في حربي أفغانستان والعراق بعد أن قرر البنتاغون تفادي أخطاء التغطيةالإعلامية في فيتنام للجمها في أطر محددة لا تكشف النقاب إلا عما تسير به 'الخطط الاستراتيجية 'باستثناء ما استطاع خرقه الصحافيون البارعون. لم يعتذر أحد عن التقارير الخيالية أو تلك الملفقة ولم يستأنف أحد الحقيقة حتى مع نفسه في أكثرموقعتين حربيتين شهدتا 'موت العلنية' في أفغانستان والعراق وإلى حد ما في البلقان والشيشان. وإذا كان متوقعا من صحافي مغمور هذه التصرفات، فماذا عن المؤسسات الصحافية الضخمة؟ لماذا ارتضت على نفسها تأسيس أعراف شاذة ومشبوهة في المهنة؟ وهل كانت انعكاسا للبيئة السياسية والاقتصادية التي تعيشها؟ ألم تجازف بالثقة الموضوعة بها حين تعمدت إخفاء 'الحقائق غير السارة' عن جمهورها؟ لماذا حولت جحافل الصحافيين إلى مرائين ومنافقين ومدللين وفاسدين ومتملقين؟ لماذا صاروا أقل صدقا حتى حين يجرون حوارامتفقا عليه؟ لماذا هذا الاستسلام المذل للضغط بعرض الصور الزائفة أو عرض الحقيقية منها في غير أوانها وبعد أن تكون الحاجة إليها قد فات أوانها، ولماذا انتعشت ظاهرة التخلص من الموهوبين حسب الطلب؟هذا التحول الكبير في المهنة جعلها أكثر بؤسا، فالناس في النهاية سيكتشفون الحقيقة لكونها الملاذ ولن يسامحوا من كان يقودهم للأوهام أو من يعرضها عليهم بالإيماء مرة أو تركها على الحدس الخارق، وإذا كان الصحفي اختار الولوج في 'الشخصية المزيفة'، فلماذا يحاول فرضها على الجمهور؟! ستفرض طبيعة الحياة هذا النوع من العمل لأن المهنة كأي حافلة بحاجة دوما إلى التزود بالوقود والصيانة والرعاية والاجتهاد، ان هذه العوامل نبض حياتها وليس الزيف الذي سيتحول بالتدريج إلى عبء عليها وتصرف إن صدقه أحد اليوم، فلن يجد من يصدقه غدا، لأن التقارير الصحفية لا تستطيع أن تسير عكس التاريخ الذي لا يبنى بالخيال والانفعال والأحلام وإجهاض الحقيقة والادعاء والإمعان في ملذات النجاح المؤقتِان في الحروب وفرة من الجرائم والفضائح على المراسلين فضحها مهما تطورت، فبالإمكان شراء أي شيء في هذا العالم عدا الحقيقة التي لا يعادلها مال ولا سلطان، ومهما أغلقت الأبواب في وجوه الصحافيين النزيهين ومهما حولوهم إلى منبوذين، فسيأتي اليوم الذي سيكافئهم به التاريخ وضمائر الشعوب وحتمية الأقدار.