الجمعة، 29 فبراير 2008

12 معايدة عراقية


بغداد - د.جمال حسين علي



عام جديد يكتمل على العراق، خفـّاقا، جاريا بأقل وضوح وأندر طبق وأوسع طبل، فيما تغدو الأشهر الفائتة ألوانا مبعثرة ما بين الزهو والخيبة، الآمال والآلام، تدفق جماعي على حافة الحياة وتحرر المكنون وزبد الملكات والدماء الجارفة معها بيضة الانتصار الخجول. سيهديكم كل شهر عراقي فات هذا العام لوحة، نقشها راع أو عابر وربما جوال، تدثرت بأيام المحنة ومشجب المران لتتدفق بانطلاقة واحدة بطاقة أقوى من الحب. ولعلكم ستنسجون منها حكايات، وستسمعون منها أصواتا وشدوا وقد تتلمسون ما لم يره المصور ولم تشعه الصورة في جزء منها أو حولها تنغيص لـ «ألبوم الأسى» الملطخ بعالم آخذ بالتصدع، وإن خرقنا التقليد بإرسال بطاقات معايدة ليست على شاكلة الأعياد المتفق عليها، فلأن الدنيا بانحناءاتها، لم تدفئ وتطعم وتؤوي وتؤمن الجميع، فلتهبط الصور العراقية المدرعة بالمودة على حنايانا كرذاذ موصوم، ولتمرغنا كجناح منفوش ولتلهب فينا الوجه الحقيقي حين ينكسر في موجة الساقية الوحيدة المتاحة.


يناير
أطفـال الأنابيب


أنابيب النفط في العراق تنمو كالنخيل، وإن كانت مطلية بالذهب، فإنها كالسحب الجارية على هامات الشعب، لا هم ممسكون بها ولا يوجد من يطول قطرة ندى منها، أنابيب كالسحب والنجوم، تراها وليس بمستطاعك غزل قميص منها، تميل مع ريح الجنوب المتقلبة وتترطب إذ ادلهم الظلام، كأنها شرايين زرعت في هذه الأرض لا لتمص خيراتها فحسب، بل لتسحب دماء أبنائها! تبقى حكايات الأنابيب مسلـّة وجع ولون حديد لم يمس بركة على أحد وكأن جوفها المخضب بدرر البلاد، عمق سحيق لنفق أولجوا به الخلق في لعبة البحث عن أقرب مخرج. يتقافز الأطفال ما بين الأنابيب ليرووا بعد سنوات، أنهم لعبوا في الأنابيب التي جلبها غرباء ومدوها على بطونهم، لعبوا عليها وحولها، أليست هذه فائدة حسنة للأنابيب؟!

فبراير
حورية الأنقاض


هذا المبنى المتهالك بفعل صواريخ المحررين، هو دائرة الأمن العامة السيئة الصيت. وثمة فتاة صغيرة تظهر من فتحة الأنقاض التي اعتبرها أهلها باب الملجأ الذي خرجوا فيه من الدنيا. لمياء تسكن مع أشقائهاو شقيقاتها في فتحة أحدثها القصف الأمريكي قبل ثلاث سنوات، تظلل بيتهم خرقة حصلوا عليها من منظمة دولية واضح مختصر أسمها. لم يُزل أحد أو يرفع أنقاض البلاد ولم يرمم ولو مبنى واحدا فيها، والفضل الوحيد الذي جلبه هذا الإهمال، أنهم لو أعادوا بناء هذا المبنى لكانت لمياء وأشقاؤها في الشارع. فمرحى للأنقاض التي أسكنت هذه الحورية وشقيقاتها الخمس، مرحى لظلام أنقاض دائرة الأمن التي أخفت عنـّا كل هذا الجمال العابث والترام حين يدوس على خلايا الأخلاق لأغنيات وخطب وشعارات لن تكف أبدا من تذكير لمياء بالغد الموعود المبهر الازدهار.

مارس
عربة اللوعة


الحافلة الصفراء ناقلة البروليتاريا وحاملة شقائهم والملمة نفور عضلاتهم، والتي تعرف كل عناوين الشغيلة في العالم: عربة الذين يعيشون يومهم، وما أن تذبل جلودهم يرمونهم إلى الأماكن الشاغرة في الدنيا. أربعون عاما تنقل هذه العربة عمال البلاد في الذهاب والمجيء لغاية اليوم الذي استبيحت فيه كل عطايا الدولة بما فيها هذه العربة التي استقر بها العمر في ورشة اشتراكية في مدينة الصدر تناوب على نهش أشلائها كل من استطاع إليها سبيلا، لم يبق غير جسدها الأصفر وزجاجها المكسر وزوايا الطرقات غير المعبدة الذي يحفظها عن ظهر مؤشرها المنهوب. ومهما شرّحـوها لا تزال جلستها المنحنية شاهدة الألم القديم وشجار الأطفال .

أبريل
أعمى بغداد

بغض النظر عن منشئه وفصله وأصله، فهذا الشيخ البغدادي: أعمى! لكنه على خلاف المفتَّحين، يعمل طوال اليوم المضيء ويعود قبل أن تأزف ساعة منع التجول، يبيع ما تيسر له من سجائر وعلب مشروبات غازية ويعود مشيا إلى بيته. كل أهالي بغداد وسكانها الجدد يعرفونه ، وحتما أن مواكب القادة الجدد مرت عليه مرارا لأنه يتخذ من الطريق المؤدي إلى الكاظمية نقطة لممارسة عمله الشريف.لم يسرقه أحد بالرغم من انهيار قطرة الخجل من الكثيرين، ولم يتعرض لأي أذى ولم يمد أحد يديه على سلعته بدون أن يلقي عليه السلام ويطلب الإذن. فهذا العجوز الشريف فرض احترامه وإجلاله حتى على أقذر اللصوص لا يحتاج إلى الدولارات ولا إلى منطقة خضراء لتحميه، انه وسام المدينة ونشيدها الوطني!

مايو
زقاق الـحياة


هذا جزء من زقاق بغدادي عتيق في الحيدرخانة. كل البيوت فيه على وشك السقوط، لكن بغداد سقطت وهذه البيوت لم تسقط! الكثيرون تحدثوا عما فعلته أعاصير الصواريخ العابرة القارات في بيوتهم، كيف تكسرت الأرضية وتهشمت النوافذ وتصدعت السقوف، لكن بيتا واحدا في هذا الزقاق العتيق لم يتأثر، بل لم يشعر أي من سكانه أو جدرانه وسقوفه بوجود حرب! كل البيوت تكاد تسقط، فماذا سيكون حال بغداد بلا أزقتها وبيوتها وناسها القدماء، أحمال المدينة وغصونها المزهرة، تاريخها وأسوارها، ومطلع أنشودة المدينة وخاتمتها. ستبقى هذه البيوت مستردة الأحاسيس والوجدان، أقبية إرادة وحياة تمضي غير هيابة ولا مبالية بمعاني المصير والقدر والقسمة والنصيب فيما سيأتي أو يبشرون به بعناد سقيم.

يونيو
فتيات الشمس


غير مباليات لمآرب المفخخات وعباب المرضى النفسيين وأنياب المتخلفين، ممن وجدوا مسوغا وسقفا وشعارا يلطمون به هذا الفيض المستلقي على ابتسامة الطالبتين في كلية طب بغداد.كواسر البهجة وكيانات الزهري الذين ينكلون بفتيات البلاد ويعلمونهن الانصهار تحت عباءاتهم فحسب مذكريهم بالتفاحة العفنة التي أذاقوهن إياها جيل بعد جيل. غير آبهات بالورد المتناثر ولا بتلاشي الضوء في المسير، يحملن عدة التدريب على أشرف المهن وأنبلها في الإنسانية متقدمات للمكتبة الوحيدة التي تهتم بالعلوم الطبية في العاصمة .الأرض والشمس والقمر والنجوم على أكفهن وطلعتهن يوم خلقن ويوم يبعثن في النهار البغدادي المرسل بسلامة ضحكتهن.

يوليو
قصور الشعب


اختارها في أجمل بقاع العراق، لكنه لم يهنأ بها، كما لو أنه بناها لخصومه. ينتهي العام وتزداد حولها الجدران العالية والأعمدة الإسمنتية والبراميل والمدرعات والحواجز بمختلف أصنافها حتى الكلاب المدربة. كذب الأولون وأكدها اللاحقون: لا قصور للشعب! ينتهي العام ولا أحد من الشعب يستطيع الاقتراب من قصوره، تلك الأبنية الشاهقة والمزينة بالمرمر والأشجار المستوردة والمصابيح المطلية بكل الألوان، بمغازل النافورات وفقاعات السلطة الضائعة. وعلى السجية نفسها يسكنها الآن المحتلون ومن والاهم، فهي إذن قصور السلطة.

أغسطس
رجل المستقبل


الفتى العائد من مدرسته، ينوء بثقل الواجب البيتي ودراسة حقب التاريخ المزور والسباحة ضد التيار. لم تسعفه قواه على تسلق الجسر العالي المؤدي إلى بيتهم بدرجاته الهوائية ولوازم الحاجيات المدرسية في حقيبة مدونات التعليم المبلغ بالملاعق الأيديولوجية. الفتى الذي أتعبه الجسر وفضل ارتقائه مشيا بدرجاته وحقيبته ووزنه، انما يتسلق مستقبل البلاد بقدرة كل الأجيال التي سبقته، وبطاقة فريدة ستعاوده كل ظهيرة حتى يشتد ساعده ويتسلق الجسر طائرا بدرجاته، في الربيع القادم أو بعده، سيشق الفتى روابي البلاد بعلمه وبأسه الذي علمه إياه الجسر وسوداء الحياة حين تتركه وحيدا ضد الريح وقسوة الإسفلت.

سبتمبر
نصب الجيش


سلم نصب الجيش المقابل لوزارة الدفاع القديمة في الميدان من حرب الأنصاب ومكافحة التاريخ التي انشغل فيها البعض في البلاد لفترة لم تنته بعد. غير أن النصب بقي والجيش راح! لقد كلفت هذه الصورة التي قد لا تعني شيئا للكثيرين، ملتقطها، اعتقالا وقتيا لأن تصوير التماثيل حرام، ويمكن لأن هؤلاء الجنود منحلون وأن هذا موقع استراتيجي يحمل أسرار الدولة وانحطاطها، ويمكن لأن ساحة الميدان المتخصصة بالحشاشين واللصوص وقطاع الطرق ومأوى المجذوبين ومرتع المجانين والنشالين والأدباء والسواق والعاطلين، صارت منطقة خضراء هي الأخرى، في ذكرى النصب الذي بقي وحيدا بلا جيش!

أكتوبر
الجنة العراقية


هذه صورة واحدة من مئات التقطت من الجو للعراق تمثل بقعة خضراء من ضواحي بغداد. وإذا كانت مساحة الصورة تغطي بضعة كيلومترات، فما حال المئات من الربيع المتوفر أصلا في حدود بغداد وحدها! أين يذهب هذا الغنى الطبيعي من أشجار ومياه؟ وكيف لا يستطيع المواطن العادي لمس ثماره؟ هل يعقل أن يكون هذا جسد العراق ويستورد كل شيء حتى الحنطة والشعير والرز وغيرها من محاصيل كان يصدرها للعالم؟ وهل يقبل أن تكون فيه كل هذه المياه وتجف سواقيه ومزارعه وصنابيره، ويحفر الناس حتى في قلب بغداد الآبار في بيوتهم في القرن الواحد والعشرين؟ تستطيل صفحة المياه وتتفرع مجاري الأنهر على جسد بلاد كتب عليها الجفاف والجوع والتسول وهي في أشد حالتها غنى!

نوفمبر
أجراس الحرية


تشد أزر البلاد - الكنائس - حين تقرع أجراس الحرية. فهل يمكن تصور العراق بلا مسيحيين؟ غادروها وهاجروا ورحلوا برضاهم أو مرغمين، لكن أجراسهم لا تزال تقرع في فضاء البلاد مزينة نسيجها الواهن متحدية القنوط في التسمية المتعالية لسكان البلاد الأصليين: الأقلية!لا عراق بدونهم وستتلوث صفحته في كل نبأ يسجل التنكيل بأي منهم وستبرد الرصاصات الموجهة إليهم، وستكون النار سلاما عليهم فهم العرق الصحيح في العراق والممسك به وبعتمته وبتشابكه وفي لمعانه كانوا شعلة وفي صمته كانوا القداس وفي جوعه كانوا الحزام الواقي للبطون. يترنموا بأجراسهم وليمنحوا الصبر على البلاء تلو المحن التي كابدوها من أجل ألا يهتز لهم جفن حين يسألون عن جنسيتهم بكل فخر وحماس حتى ينطقوها: عراقي!

ديسمبر
الماضي الجميل


هذه الصورة الوحيدة ليست لنا من حزمة المعايدات، لأننا لم نكن على قيد الحياة وقت التقاطها. هذه الفتاة اسمها رينيه وهي ملكة جمال بغداد عام 1947! (بعثها لنا صديق مهتم بالجمال والتاريخ). تأملوا معنا جميلة بغداد رينيه .. فقط انظروا إليها ولبسمتها .. وعندها ستسألون كما سألنا: قبل ستــــين سنة كانوا في العراق ينظمون مسابقات لملكات الجمال وبعد ستين سنة من تتــــويج ريــــنيه يذبحون الفتيات في الشوارع ويدكون ببنادقهم سيقانهن ويجــــلدون أذرعهن ويطلون شعرهن بالأصباغ والزفت الذي زفـّـت أيامنا بهم. باسمكم نبعث لرينيه أينما تكون الآن وفي أي بقعة من أرض الله الواسعة أسمى التحيات بمناسبة انتهاء عام قاس في بلادها ولمن خاط لها هذا الفستان، ولمن التقط لها هذه الصورة، ومن زوقها ومن جَمّلها لتعطينا هذا الدرس بالجمال وللواتي اشتركن معها في مسابقة ملكة جمال بغداد في عام 1947 لنقل لهن بأنهن الفائزات علينا وعلى زماننا الرجيم، وحتما لو تصل تهنئتنا إلى رينيه فستبعث لكل منكم دعاءها وتهنئتها بالعام الجديد، عسى أن يعقل هذه المرة ولا يصدر لنا آلاما جديدة.