الجمعة، 29 فبراير 2008

ليكن عيدك دائما وأيامك بهجة تحمل أخرى


كابول - د.جمال حسين علي


ربما هذه الأرض وناسها أكثر بقعة في الكون وأكثر المخلوقات بحاجة الى عيد. يرفق بهم حتى لو يتسلل بلا شوق الطفولة المؤقتة ، متهاديا كطيور الماء ، لا يبلغ الكمال ، ناقصا ، ملوثا بالبارود ، إلا أنه يفلت الدهشة بعناق الأضداد ويكشف عن الغياب الذي لا تفصح عنه كلمات.
وهي ليست مصادفة أن يبدأ العيد في أفغانستان في اللحظات التي تنتهي فيها الحرب المعلنة ويرفع النقاب عن المحظور ويطلق العنان للنباتات بالمشي دون سياج.
الجروح ما زالت غير مندملة ، فبيوت كثيرة اختفت عن الوجود ، والمقصود ليس أبوابها وجدرانها ، بل ناسها. ازداد عدد اليتامى والأرامل ، ناهيك عن الآلاف الهائمين على وجه العالم المظلم يلقي بهم الجبل الى الوادي والوادي الى الجبل في دورة وحشية لا تكاد تنتهي أو ينتهوا.
هذه محاولة للتظاهر بمرح العيد وأزهاره الذاوية وسط لفيف الصابرين.
هو ذات العيد في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي. فالرجال شديدو الاعتدال سيرتدون حلل الأحجار الكريمة ويتبادلون التهاني بعد صلاة العيد.
وقبل صلاة العيد هناك شيء طريف وهو " عرفات " وهذه التسمية يطلقونها على اليوم الذي يسبق العيد حتى لو كان عيد الفطر. ورؤية القمر يمنحونها للوجهاء ، فهؤلاء هم الذين يتسلقون المرتفعات لرؤية إطلالة الهلال حتى لو كانت درجة النظر لا تسعفهم. فيوجد الكثير من الشباب يمكنهم حسم الأمر بعيون صقر ، لكن الشيوخ يصرون على امتلاك هذا الحق حتى من كان منهم لا يسعفه البصر.
وفي يوم " عرفات " تخرج السجادات الى الشوارع وينفض عنها غبار ينبلج عنها بصقلها بعصي غليظة. وتنزع الملابس الرثة ويداري الجميع أجسادهم ببياض خلاب محشو بزخارف تدربت عليها الأصابع سنين وسنين.
ويتمركز الحلاقون في كل زقاق تصاحبهم أناشيد أطفال تتشابك أصواتهم بين الحين والآخر مع أغان أطفال الزقاق المجاور.
وتلقي النسوة الماء الممزوج بالحناء على الجدران وتلف رؤوسهن الملفوفة أصلا بعدة أستار وحواجب بالأشرطة لكي لا تسمح للحناء بالانزلاق على الجبهة أو الخدين اللتان لم تريا الشمس منذ الفتنة الأولى. يختلط ماء الحناء مع أوراق الكروم والورود التي عصرت حد التفتت لرش عصيرها على الزوار وضيوف الرجال.
يكسو الأبواب البياض غير المتبدد حتى آخر نقطة تزدحم فيها البيوت مع تجمع للرجال الصغار الذين يستطيعون في العيد التجرؤ بإلقاء التحية على فتيات الحي المجاور ، غير مبالين بالجواب ، فهذا معيار آخر للشجاعة وحاجز تجاوز به الصغير بعض العمر.
وثمة في السوق إعلان واحد متفق عليه ، أن لا تفوتوا هذه البضاعة فلا عيد بدونها. تتناثر أكياس الفستق الإيراني والحلويات المحلية فهنا الأطفال لم يروا الشكولاته بأم أعينهم ولم يلمسوا ألعابا ولا حديث عن العرائس.
جلب الروس معهم كرتان لقرة القدم هدية من الشعب الروسي لأطفال كابول ، أفضل من غيرهم و كرتان أفضل من لا شيء ، لو تسعف الأصابع على العد يرجح أن يكون 800 طفل يضربون الكرة المسكينة في آن واحد.
في وقتهم استغل الطلاب ملعب كابول الدولي لكرة القدم لعرض أزيائهم والإعدام الجماهيري الذي لم يكتبه أحد في قانون أرضي أو سماوي. وسمحوا بضرب الكرة بالقدم شرط أن يرتدي اللاعبون الزي التقليدي. يمكن تصور منتخب البلاد يلعب كرة القدم بالزي الأفغاني ويكفي !
لا يريد أحد تقمص ما فات ، حتى الأعياد الماضية لا يرجو أحد تذكرها وتقليب تلك الصورة.
والعيد للمنتصرين محطة خلاف أيضا. فبحلول اليوم الأول للعيد الذي يصادف الأحد تكون نصف الحكومة صائمة ، لأنهم بدءوا " العدة " مع طهران كباقي الطاجيك والخزر والأوزبيك. حتى تسميتهم لرمضان إيرانية مع الاحتفاظ بكافة التقاليد الفارسية للأعياد.
لم يتفق المنتصرون بعد على من سيحتل الصف الأول في جامع كابول المركزي لتأدية صلاة العيد. من سيكون في المركز ومن سيحتل الصف الثاني. وهل ستكون الصلاة شيعية أم سنية ، كل هذه الأمور تركت للعيد فهو كفيل بحل هذه الشروط والعقد.
ويستغل الأفغان العيد كشواهد تاريخية لمحطات الصغار والكبار. حيث تكثر فيه حفلات الأعراس والطهور والخطبة وتصالح العشائر المتناحرة بسبب أو بدونه. وفي مركز كابول استعدوا للعيد منذ منتصف رمضان كمظهر للفرح والدعاية للمحال والمقاهي والمطاعم وغيرها. وارتفعت الأسعار كما جرت العادة حتى عند الباعة المتجولين.
وازدهرت مهنة كتاب الرسائل للأحباب الذين هجروا البلاد هربا وتركوا الخلان عجائز أو صغار يسترقون النظر في الورقة التي يكتبها رجل مهيب يحتضن بقايا لوح خشبي مسروق من مدرسة أو دائرة حكومية مهجورة ليعيد الرسالة نفسها آلاف المرات. والملفت للنظر أن كل سكان كابول يعطون عنوان واحد تقريبا لمن يريد الجواب على رسائلهم : كابول ، محل ... قرب الجامع. لم تكن هناك ضرورة للإلحاح لمعرفة هذا اللغز ، فوزارة المواصلات موجودة والبريد موجود والهواتف تعمل ، لكن الرسائل الخارجة أكثر بكثير من الرسائل الداخلة!
تنمو مظاهر الفرح في المدن الأفغانية لأنها لا تستطيع تمزيق البهجة الى الأبد. وهذا أهم عيد يحل على الأفغان كونه فرصة لغسل الأحزان وطلاء الجدران بالحناء وليس بالدماء. هو أول الأعياد العادلة التي ينبغي عليه تحديد الألوان وتجنيب البشر لطمات الرمال ووخز الأيام وعتمتها الداكنة.
سأغادرك لبعض الأيام .. وداعا أفغانستان مالئة الخطى والكلمات الدوارة والتقويم الحبيس والضراوة المرتعدة..
لتكن أيامك كلها أعياد كانبثاق الربيع الأول ولتتراخ أصابع أبناءك الغليظة قانعة بحلاوة البهجة وليتلقفك الحب محذوفة الراء البغيضة ، فجرا ورديا على أوراقك.