الثلاثاء، 26 فبراير 2008

مرضعات الأهوار





الأهوار - د . جمال حسين علي:


" حيث لا تعود الجواميس تستطيع أن ترعى "
- هنري ميللر -

أحب ّ الحيوانات للأهواريين هي الجواميس ولخاطرها يرزقون ولراحتها يتحدون وبمشيئتها يبنون ولخوارها يهرعون وبحمدها يعملون وبعطاياها يعيشون وبثورتها يغضبون وبأعدادها يتفاخرون وبعصيانها يرجفون وبتوادها يتراحمون، في مضيـّها وإيابها، سرحانها وغفلتها، تواطئها وأفخر ثيابها ومضجعها الذي يبنوه قبل أسرّتهم ويشفونها قبل أولادهم ويغسلونها قبل جباههم ويدثرونها من أسمالهم ويشقون لها الجداول لتنعم بالماء ويغتمون ما أن تجزع ويطيرون زهوا ما ان تصدر رائحة الحياة برغبتها في التناسل مصدرة أصوات يعرفونها هم فقط ليجلبوا لها الذكر الآثم والتنبل لكي يزيد عدد أفراد عائلتها ما استطاع بالفريضة الوحيدة التي يؤديها. لن يجاريها مخلوق في منزلتها وقد تنشب داحس وغبراء ويسقط رجال ويدمون مياه الأهوار لو صفع أحد مزاجها، ناهيك عن سرقتها، فهي المرضعة والمطعمة والمدفئة والحنونة الرقيقة التي يتناهى لها القوم بالسهر والحمى لو أصابها مكروه أو وثبت عليها الأقدار بميعادها المحتوم.
ذخر المعدان
يسأل المرء في المدن عن عدد سياراته وأمواله في البنوك، غير أن هذا السؤال يتبدل في الأهوار وهو الأول الخاص بعدد الجواميس التي يمتلكها الشخص الذي تقاس إمكاناته المادية وربما وجاهته وحضوره بعددهن، فقد كانت العائلات الفقيرة تملك أكثر من عشرين جاموسة، بينما يعتنون الآن بالكاد بخمس أو أكثر. لقد تسبب التجفيف والتهجير مجزرة حقيقية لكل المخلوقات في الأهوار وفي مقدمتها الجاموس، فالذي كان بمستطاعه الهرب بجلده من القصف والحرق والاعتقال، لا يستطيع أن يطر ّ الهور الشاسع بقطيع جواميس، لذلك تركت لنهب الجيش أو هائمة في عراء متصحر تختبئ لتموت وحدها بلوعة. ونتيجة لذلك خسر العراق خلال عقد التجفيف أكثر من 300 مليار دينار حسب تقديرات المختص بشؤون الأهوار عبد الرزاق فليح المؤيد لحسابات الدكتور حسن هادي رئيس قسم الثروة الحيوانية في العمارة التي تؤكد وجود 200 ألف رأس من الجاموس في مطلع التسعينات في الأهوار اختفى 35 % منها (تملك الدول العربية مجتمعة 3.7 ملايين رأس من الجاموس).
اتهام و إثبات
وضمن حملته في التشهير بأصول أهل الأهوار، ادعى النظام بأن الأهواريين أقوام هندية تم جلبها من قبل محمد بن القاسم والحجاج بن يوسف الثقفي مع الجاموس من الهند. وحسب هذا الادعاء، فان وجودهم كان لخدمة الجواميس التي جلبوها بعد فتح السند. غير أن ألواح مرحلة ما بعد ظهور الفن السومري والرسوم والأختام بينت أن الجاموس كان يعيش في ممالك الأهوار قبل التاريخ وان جلجامش كان يصارع الجواميس المتوحشة في الملحمة المعروفة. وواضح أيضا الربط المتعمد بين الناس والجاموس في مقولات النظام التي تحمل تعاليا وعنصرية لا لبس فيها.
ناس و جاموس
ولا بأس أن يرتبط الإنسان بهذا الحيوان المعطاء والمسالم والمحبوب للغاية هنا، بالرغم من شجاعته وبأسه وكامن عصيانه وهيجانه المدمر، فقد شارك قطيع من الجواميس بمعركة فعلية في غضون تقدم قوات دانمركية في منطقة الأهوار، ليس لها دراية وإلمام في سيكولوجية الجاموس. ويبدو أن سوء فهم حصل بين الطرفين سببه إن الطرفين خافا من بعض في اللحظة نفسها، فالقوات الدانمركية كانت مشكلة من مدرعات وآلية ضخمة بوغتت بهجوم قطيع جواميس، ظنت، على الأرجح، بدء حملة تجفيف جديدة، لتدور معركة بين الجانبين أسفرت عن مقتل جاموسة وإصابة العشرات في معركة يمكن تسميتها «الذعر المشترك». (معركة الدانمركيين والجواميس في الأهوار صدرت في بيان عسكري رسمي دانمركي وليس من وحي الخيال). وحسب هذه الحادثة فان الجاموس لا يعتدي على أحد ولا يحب أن يعتدى عليه، لأن طباعه حينئذ ستتغير. ومع انه يتجول بين الناس والأطفال النائمين، إلا أنه لم تسجل حادثة واحدة ولو عرضا، تحدثوا فيها عن جاموسة دهست أو أصابت طفلا نائما. لذلك فان الجاموس ينام ويتحرك وسط الناس ويدخل البيوت من أبوابها الفسيحة وله منزلة خاصة حيث يقيمون له دارا خاصة تتناسب وحجمه وكمية الأعلاف التي يتناولها يوميا من النخالة و الجت و الحشيش و الجوبان. أما بيت الجاموس فيطلقون عليه «السترة» ويصنعونه من القصب كما كل شيء هنا. وبالرغم من أن الجاموس هو فصيلة أخرى من البقر كما جاء في سورة الأنعام «ومن الإبل أثنين ومن البقر أثنين» وقول الإمام أبو جعفر الباقر: «للجواميس مثل ما في البقر»، إلا أن الجاموس كسول لدرجة أنهم يتركونه لعلمهم بأنه لا يهرب من الكسل و يحب الماء وليس كالبقر كثير العمل لا يحب المياه العميقة. يتدلل الجاموس وسط الأطفال وصغيره الذي يسمونه «الحولي» يلعب معهم كقط وبالحركات نفسها كما متعته حين يمسك أحد رقبته أو رأسه. فيما يترك الكبار الجاموسة «المكيلة» حتى تخرج لوحدها من الماء (المكيلة هي الجاموسة الطافية على الماء). يسمح الجاموس بركوب الأطفال عليه ولا يمانع من تحول ظهره إلى مهبط للطيور وخاصة أبو قردان الذي يتغذى على الدود السائر في جلده. ويغذي الجاموس أيضا البعوض الذي حيـّر الجاحظ نقلا عن الأبشيهي في «المستطرف» سؤاله : «كيف علم البعوض بأن في الجاموس دما وأن ذلك الدم غذاء له». ولهذا السؤال عمق فسيولوجي، فالجاموس ليس لديه مسامات في جلده كباقي الخلق تمنحه العرق وتخفض حرارة جسده، لذلك يعشق الماء في الصيف والخوار في الشتاء وهو السبب الذي يجعل الجاموس لصيقا بالمسطحات المائية والأنهر لذلك بيته من القصب الذي لا يكسب الحرارة وليس من الطين. وفي تفسير «العيـّاشي» ورد نقله عن أيوب بن نوح قوله أن أهل العراق يعتبرون الجاموس «مسخ» وهو «أجزع خلق الله» ويهرب من البعوض إلى الماء بالرغم من أن الأسود تخافه فهو أكبر حجما من الثور في حين يعتقد بعض التراثيين أنه لا ينام لكثرة حراسته لنفسه!
المعطاء
يستغل الأهواريون كل ما يخرج من الجاموسة حتى روثها! ومن النادر أن يذبحوا الجاموس، ويتركونها تذهب بعيدا لتموت وحدها، فهي حتى حين تموت لا تريد أن تسبب ثقلا على أحد ويكون موتها كحياتها مريحاً للآخرين. في حياتها تمنح اللبن الذي يشتقون منه الحليب والقيمر والزبدة و روثها تعيد صناعته النساء بشكل حلقات دائرية ويصففنه على سقوف البيوت حتى يجف ويتحول إلى قطعة صلبة من الحطب يسمونه «المطــّال» الذي يحتفظون به بطريقة هرمية يسمونها «القبة» في «الكرزل»، ليدفئوا فيه المواقد ويلهبوا التنانير التي يخبزون فيها ويشوون السمك. حلب الجاموس لوحده قضية معقدة، ولسبب ما لا نعرفه، لكنه مرتبط بالعادات البدوية حيث لا تحلب النساء النوق، فإن الرجال وحدهم في الهور أيضا من يحلب الجاموس. و انتقلت «تقاليد الحلب» البدوية في كثير منها إلى أهل الأهوار، وخاصة قتل «الحولي» لكي تدر لبنا أكثر ويحتفظ البعض بالذكور لغرض بيعها. ويستخدمون تكتيكا ماكرا في خداع الجاموسة بجلب «حولي» آخر ويلبسونه جلد «الابن القتيل» وإذا مات «الحولي» لأي سبب فيأخذون جلده ويحشونه ويقربونه من الجاموسة في غضون حلبها. وهذا الحيوان مفيد حتى في حركته وسباحته، فالقطعان المتعددة طالما شقت الطرق الريفية بحوافرها وبدون معرفة منها وحين تسبح بين القصب كانت وبلا وعي أيضا تفتح طرقا للقوارب بين البردي والقصب وتعوض العناء الذي يمكن أن يقوم به عدد من الرجال لهذا الغرض.
صفير وأنين
الجاموس أساس الحياة في الأهوار ولأنها رقيقة بعكس ما يدل حجمها، فهي سريعة التعرض للمرض والعدوى وقد تمرض أحيانا لو شعرت بالضيم من أحد أزعجها بشيء! وحين تمرض جاموسة تئن معها العائلة كلها، ولأنهم يعرفون حساسيتها وقهر شعورها بالوحدة، يجتمعون حولها لغرض مواساتها، يحدثونها أو يغنون لها أي شيء ويفعلون ما يطرد عنها الوحشة.يجلس بمظلتها الرجل المحطم القلب مع دابته التي تلقط أنفاسها وكدمية يمرر أصابعه مستدركا معجم الأصوات التي كان يناديها بها ذات يوم وهي ترعى في السهول والأجمات وعند البطائح البعيدة، سيتذكر الرجل المرة الأولى التي أملت به اكبر القدور الذي خلفه عاشوراء الفائت باللبن الذي كان ينزل منها كحشد خيرات ثم تلون عينيه دموع من سيفقد ولده في الفجر. وحين يسرح الجاموس في مناطق الهور وتصل إلى مناطق بعيدة، وتتأخر عودته، يظهر ما يسمونه «الحادي» الذي يطلق صفيرا خاصا وأصواتاً تعرفها وتتبعها حتى تدلها الطريق وهذه الطريقة معروفة عند البدو أيضا في مقابلة الإبل. لكل جاموسة «حاديها» مرتبط صوته بها ككيانها، كانوا يرددون أصوات لا يفهمها غير الجاموس، لغة لا تدخل إلا في قلوب المانحين فقط، المخلوقة التي تقمصت العطاء بكل عمقه وإيثاره، عاشقة السلام وواهبة الحياة والمنتصبة كالشجرة الخالدة والجذع الرشيقة. يهدر صوت «الحادي» ويتعالى صفيره حين يعد القطيع ويعيد العد ولا ينقطع عنه السؤال وترهق رقبته وحنجرته إعادة الصفير للحظة التي تتسمر بها شفتاه عن توديع واحدة تخلفت عن القطيع، راحلة أخرى أضنتها السنون وحملت سيقانها المتراخية لتنزوي مهدودة الحيل قرب " إيشان " مهجور تتسلق على قصباته باذلة كل ما لديها من قوة لتركن جسدها على الحصيرة التي دونت أسماء كثيرة رحلت هي الأخرى، تبصر المياه حتى تنطفئ عيناها عند أبعد نقطة من الدغل الذاهب نحو الفضاء.