الجمعة، 29 فبراير 2008

أنداء مدينة في أهدابها الطهر


المحرق - د.جمال حسين علي:



لكم أن تصدقوا كل كلمة نقولها عنها منذ اللحظات الأولى للبلبل والديك لغاية النور الذي يشب بين أضلاعها والنداءات الخجولة لسكان مدينة بدأت ترتطم بالتحديث.أن أصعب ما يواجه الذي يرغب بالكتابة عنها، أن كل طرق الكتابة تصلح لمقامها وأي نوع من المفردات يمكنه الصب على شبابيكها والفراغ المملوء بين حاضرها وماضيها، لقد بنيت بيوتها بتراص متعمد يوحي للعابر بأن كل باب يلقي بك للذي يليه، تلاحمها، له معنى واحد، أن الذي يمضي سالكا بيوتها، كأنه يمشي في بيت واحد، هي ألفة الجدران، كالعباءة التي تغطي شعبا.لا يخبرك أحد بجوهر المدينة، عليك فقط الاستيقاظ في ذلك الندى وأن تفعل كل شيء لركب سحرها وأن تكون طيعا لأزقتها، لتلقي بك أينما تشاء، حتى البضاعة الزهيدة التي رأيتها في أي مكان، هناك تكون لها قيمة أخرى، فهي خارجة من أفقها، حين تكسب شيئا من هذه المدينة، يعني أنك لن تغادرها.لأوانها الفاتح للحياة، وللمدينة السيدة التي تهمس لزوارها بالمدارك والزهو نبعث سرادق كلماتنا لتتكئ على حافات عتباتها لندلف متأرجحين على مقاعد أولئك الناس الذين قدموا لنا هذه البهية المستكنة: المحرق!ليس بالضرورة الغور في مسببات خروج البيوت إلى الشوارع الضيقة، أو انهمار الشوارع داخل البيوت، أو من أين طرأ التشكيل من الداخل إلى الخارج أو بالعكس، لكنه الغور الضيق بين بيوتها الدال على ضيق الفرصة للعابر في أن يتلفت أو يرفع عينيه للأعلى، ان شوارعها المتداخلة تسمح للجواب بالمرور فقط.المدينة تبدو كالحصن لعابرها، تصد منزلقات الطبيعة ومفاجآتها، بمعنى أقصر، تحميك. وبلا استئذان تجد نفسك في محيطها وفي داخل بيت دون أن تعلم بأنها شكلت هكذا كأنك تدور في قرص مرصع، بلا أرقام وتواريخ وعتبات مدرجة في التسجيل العقاري، هي للجميع، ولمن ينسج هكذا كلام، تطويه بين الفكرة والرخام، فيما بقاؤها ودوامها في أنها لا تشهد لعينيك بالزور: حقيقية، ساكنة بلا مبالغة، تقدم نفسها إليك بتواضع الفتية الفائقة الجمال والشقاء.
المدينة السفينة
وكما لو تطوح بك أشرعة، يفعلها سنامها، وغيدها الذي يعكس صورتك عبر زجاج يوصلك بين الحجرات كمن يلقي بك في حضن العالم، تعال كانطواء، ستجده هناك حين تتجه منازل بأكملها في مقبل واحد: القبلة التي يراهن الجميع عليها.وطالما تبقى على حالك، ستبقى على حالها، كيانها مستقل وإن ترابطت بيوتها مع الأخرى في عناق لا ينفصم. وبهذا المفهوم لا يمكن في أي حال، أن يخطر في ذهن الناظر أن هذه المدينة شيدت بالصدفة وعلى أهواء شخص واحد، لقد شيدتها بالتأكيد، أجيال ممعنة بالأصالة.
القصور الحافيات
القصور كانت تشيد عادة لأسباب عسكرية وتأتي الوجاهة في المقام الأخير.غير أن التقليد المتبع في تلك الأوقات يصر على علو بيت الحاكم على سواه لتحيطه علية القوم بالتدريج هبوطا نحو المسحوقين المطليين بلون العذاب وسحنة البحر.والبحر أيضا تلهى بمنجزات مزاجه وقع المدينة وصداها، في جزره ومده كان يهدي بعض الأمتار كل عام من اليابسة لتتوسع المدينة وتكثر صخورها وشعابها.وكلعبة الأغوار، تمركزت على مر الدهور، العائلات المنسجمة الأصل لوحدها مكونة وشيجة واحدة منبعها وحدة المعمار، فيما القبائل كانت تسير باتجاه ساحل البحر، تمضي فيه مع السنين والطرق التي ستشق بعد ظهور جيل جديد.
البيوت التي ترى
كون البيوت عيونا، وهي أفضل طريقة تجعل البيت يرى الشارع ومن في الشارع لا يرى من في البيت. وإن أدركت بضعة شيوخ، يقص كل لمن يسمعه بالكاد ذكريات المدينة الأولى، ستسمع منه ارتجالها وجرأتها في عدم الاتكال على الطبيعة ومقارعتها، فلم نعثر على مدونة أشارت إلى وقوعها في حالة عطش مزمن وجوع قاس طويل، ويبدو أن نبوءة المدينة ومخاضها، أن الجميع فيها كانوا يعملون على مدار القرون.فناء البيت الذي يسمى "الحوش" سيمضي إلى السماء بلا سقف، كحال البيوت البغدادية والدمشقية وقصور الإسكندرية، ومساحته تدل على ثراء المالك وإمكاناته التي تتيح له شراء الهواء وبناء الأرضية بالصبان الملطف للحرارة وتحيط هذا الفناء باقي غرف المنزل، بمراعاة عدم وجود إطلالة لغرف النساء لا على الشارع ولا على الرجال الذين يهوون الجلوس في الحوش.هي طريقة منظمة لحبس النساء ورميهن أبعد إلى السطح، ليكن هناك قريبات أكثر من النجوم والأحلام.
موت الجدران
بيوت المحرق تبدأ وتنتهي على الشوارع الفرعية، فلا جدران وأسوار عالية تحميها، البيوت هناك هي الجدران. وهذا الأمر ينطبق فقط على المنازل الصغيرة وليس على البيوت الكبيرة والقصور. ولعل ضيق مساحة الأرض، جعل البنائين يقتصدون في إضافة جدران وباحة ومدخل وممر يؤدي إلى غرف المنزل، وهكذا استغلوا كل شبر في البيت وملأوا كل فراغاته ويمكن للناظر التمعن بالزخرفة والنقوش والأقواس والأطر والألواح المنحوتة كجزء من تصميم البيت الغني التنوع والدلالات بدءا بالمزاليج وامتدادا لأعمال الحفر والتخريم والزجاج الملون الذي يؤدي وظيفتين: تزويق البيت وحجب الرؤية الشاردة.
فلسفة الأبواب
والأبواب مواسم، ورمز البيت فالعابر يتعرف على البيوت من أبوابها، وهي امتياز وحمل متاع ومصب وتلك الأصوات غير المسموعة جيدا، فالأبواب صدى،، وللجواب الذي لا يبرح عنها استذكار للرحلة، والأبواب أماكن سيقول انه كان فيها، ستضيف له يوما على أيامه ومضيا امتلكه، والأبواب مفترق الطرق التي سلكها والميدان. هي عزلته وأوراق ماض تعبر عن فخامته، فيما يصورها كبطاقات قديمة لأسفار ممحوة، تعيش أو تموت، حسب ما تقرره أبعادها وعمقها وأسئلتها: الأبواب. غير أنها أطر محتالة تزين نفسها كعذراء مطمورة المواهب ومصاريع تتسع تهدي النجوم والمطارق والأقفال كما لو كانت مخلوقا من خشب محتشد بالمسامير والألواح الحديدية، إن من صنع مثل هذه الأبواب لابد وأن يفخر في مساء ما بأنه فعل شيئا: أنجز العمل.والأبواب وظائف وأنماط وطبقات، فأبواب الشعوب ليست كأبواب الملوك، إذا، الأبواب سلطة. طراز وهيبة وخصوصية ورموز وقيم وأسلوب ووعي وأزهار ونجوم وخارج نحو الأقدار وداخل إلى الأمان، الأبواب كائنات ماكرة كل منها له إحساسه المستقل وأفاريز أذرعها التي تثير الجدل حول أعمارها. انها الانتظار والمغيب والتلاقي بعد طول ارتحال ونزهة الابتهاج ما أن تصر بغليانها وميوعتها وغنجها ورطوبتها المبتلى بها قلبها الوهاج، تشابك لا ينفصم بينها وصباحاتها الرقطاء وجفاف الأعين المنتظرة من غادرها ولم تبهر إطلالته مقبل الطريق.
مشربيات الأمل
ليست ضد الريح ولم تصنع لخلق السكون، مشربيات المحرق الموصولة وفق طراز 'التلسين'، صدرية البيت وخطو أطيارها. تبدو نقوشها المنساقة ضد الصيف الطويل الخالي من الضلال، وفتحاتها الموجهة للحشمة المنسوجة بخشب نادر موصل مع بعضه يسمح بفراغات للتهوية وليس لرؤية من في الداخل، دور جمالي - اجتماعي، مبني على بديهية أن تطل على الآخرين ولا يطلون عليك، ولعلها واحدة من العلاقة المترابطة ما بين الفقه وهندسة المعمار، فالشبابيك في المحرق تنصاع لفقه 'ضرر الكشف' إلى حد كبير.ومع ذلك، تقوم المشربيات على مبدأ 'غض النظر' وهي محكومة في معادلة مجحفة: ترى ولا يراك أحد، وهي بهذا المعنى تعبر بشكل عميق عن ظاهرة وقعت فيها كل الأجيال التي تلصصت من وراء المشربية: الحب من طرف واحد!
البنية المكررة
بنيت المحرق على ما هو موجود: المواد والمهارة فيها حجر البحر والخشب والمرجان والجص وجذوع النخيل وأعمدة الجندل وتعريشات البامبو الهندي والحصر المثبتة للأسقف وصفائح متنوعة وسعف المنكرور البصري وطين الفخار المحلي المصنوع في الرفاع وملاط الجير (النوره) والجبس والإسمنت السعودي وغيرها من المواد التي منحت بيوت المحرق ثقة البقاء.
أبراج الرياح
وتبين أن تلك الأجيال لم تفهم بالمعمار فحسب، بل في الفيزياء أيضا. لقد فتتوا الهواء وطوعوه وسيروه بالسرعة التي تناسبهم، فتلك البيوت المطلة على مقبل الريح تتحكم بموجات الهواء من الجوف الأوسع مرورا بالمصبات الضيقة ليزيد سرعته وبالاعتماد على الضغط، سينتشر الهواء بعدالة بين مسامات الجدران التي ستتحكم بتقنية ماكرة بالمساحات المفتوحة وبفضل الضغط أيضا، سيحلق الهواء الحار مرتفعا ليطرد خارج الغرف، في الوقت نفسه يستبدل بالهواء البارد الذي لا مناص من جريانه منسابا لليالي البيوت الذكية. تشبه العملية كإعادة بناء للهواء تلعب فيه هندسة الجدران وسمكها ونعومة أسطحها وقابلية المواد المصنوعة منها على امتصاص الحرارة ودرجة الانعكاس وصمودها أمام التشقق وحجم الفراغات التي يتكتل فيها الهواء، عوامل أساسية لأسلوب تهوية يحول القيظ رذاذا منعشا، طيع السلوك فاقدا عناد اللهيب.
استمرار المدينة
أن تتشكل المحرق بهذا الفيض من الاستثناءات، عليها مداراته وتخبئته كحال الكنوز العظيمة، وهي بدون هذا الكنز ستفقد صورتها واسمها وتاريخها. ومثل هذا النوع من المدن، التي تثير علامات التعجب، ستكون معركتها مختلفة مع المعاصرة وهجوم التكنولوجيا وزحف مغريات المدن الحديثة. وهذا لا يتطلب منا كعابرين، المتاجرة في ذكرياتها ولا إذلالها لمجرد أنها أختنا ولا إيقاظها يوميا بصيحات الإعجاب، انها تحتاج إلى حنان التواصل، ربما الماضي يجعلها أقل بهجة، لكن العلاقة ما بين الحياة والأمكنة لا ينبغي أن تخذل ويتطلب الحال المحافظة على عناصرها لكي لا تتحول إلى مدينة في الذاكرة، لأن خيطها السري قد يحافظ عليها كمدينة في الأحلام والسير والحكايات التي رويت ولم يتعقبها أحد. ربما ستستفيق المحرق بعد عشرين أو خمسين عاما، ولا تجد من يتعقبها ولا بخاطر أحد استفاقتها، عندها ستهرب من جديد للحلم الذي بنيت عليه وعندها ستطمر بنسيان لا مفر منه ولا عودة عنه، وستكون خسارتنا جسيمة لو كدسنا جذوتها في محيطات المتاحف التي يصادفها الناس أو يتحاشونها أو تتحول إلى جدول مدرسي لرحلات الصفوف الشاغرة المبرمجين على عدم النسيان. واثقون بأن حلمنا في المحرق له ما يربطه بحقيقتها، حتى لو كانت هذه الصلة ممتدة بسلسلة صدئة لمركب يلوح بقطعته البيضاء الأخيرة، فهي من طراز المدن التي لا يمكن إعادة بنائها، قدرها أنها جوهرة، لا يمكن إعادة صياغتها إلا كما هي عليه وما يحزم من أملنا، إن عودتها ممكنة، بفضائلها وأخطائها، بحدسها ونظامها وبالكلمات التي تصر على أن تحولها مجرد ذكرى لمدينة ترحل في الاحتمالات كلها.