الأحد، 24 فبراير 2008

ماراثون الرئيس : حياة يلتسين الأخرى!

موسكو : د. جمال حسين علي



صدر في موسكو كتاب "ماراثون الرئيس" عن دار النشر ACT طبع على غلافه اسم بوريس يلتسين وكذلك صورته وفي صفحته الأولى إهداء الى زوجته ناينا وللتوضيح ذكر ثلاث كلمات : تذكارات ،انطباعات ، تأملاتِ وعرف للعامة ككتاب يلتسين الجديد وقبل الولوج الى تأملات يلتسين وانطباعاته لابأس من ملاحظة لها علاقة كبيرة في صميم الموضوع، هي أن العاملين في هذا الكتاب هم: المحرر السابق في جريدة 'الكاريكاتير' أندريه فافرِ وكانت مهمته جمع المعلومات وتسجيل أحاديث يلتسين وابنته تاتيانا دياتشينكوِ وفالنتين يوماشيف رئيس ديوان الكرملين السابق ومؤلف كتابه السابق، وكانت مهمته كتابة النص النهائي للكتابِ يذكر ان كتاب يلتسين الأول صدرفي سنوات البيريسترويكا بعنوان 'اعترافات في جوهر الموضوع'، طرح فيه قضايا بسيطة وعرف بنفسه من أين انحدر وسيرة عامة لحياته ورؤيته لمستقبل الصراع بين من يريد بقاء الاتحاد السوفيتي والساسة الجدد الذين ينتمي يلتسين إليهم الذين كانوا يذودون عن القيم الديمقراطيةِ وأصبحت الخطوات الديمقراطيةالأولى في روسيا والسلسلة الكاملة من الهزات السياسية في الأعوام من 1991 ـ 1993 موضوع كتابه الثاني'مذكرات رئيس ' أول ما يتبادر لذهن من يقرأ هذا الكتاب ، زحمة الصغائر وتسليط الضوء على التوافه التي لا يمكن أن يفكر بها يلتسين ولا حتى ان يتذكره،ِ فمثلا ، في الفصل الخاص بعلاقة الرئيس بمحافظ موسكو يوري لوجكوف يذكر 'المؤلف' أن تدهور العلاقة بينهما أدت الى أن لوجكوف كف عن إرسال حليب بقرته الى يلتسينِ ويشرح المؤلف كيف أن 'حليب البقرة ' الذي كان لوجكوف يربيها في مزرعته كان أحد رموز الصداقة بين السياسيين الأبرز في البلاد !! وفي الفصل الخاص بأناتولي تشوبايس و 'فرقة 1997 ' يذكر 'المؤلف' بأن تشوبايس كان معترضا بقوة على اختيار فلاديمير بوتين رئيسا لروسياِ ونعتقد أن يلتسين لا يمكن أن يذكر مثل هذه الملاحظة في كتابه ولأنه طوال حياته السياسية لم يستخدم أسلوب 'فرق تسد' وليس من نوع السياسيين الذين يفشون مثل هذه الوساخة في هذا الوقت بالذات، عندما أصبح بوتين سيد البيتِ ومن الواضح جدا أن يوماشيف بالاتفاق مع تاتيانا هما اللذان دسا هذه الجملة للإيقاع بين بوتين ورئيسه السابق في بطرسبورغِ في مكان آخر تأتي عبارة تعني بأن بوتين كان الدعامة الرئيسية الثابتة خلف ظهر يلتسين طوال فترة حكمهِ ويعرف كل متابع بسيط أن بوتين كان دائما في الزوايا المظلمة وغير المرئية، بل وكان مجهولا تماما في ولاية يلتسين الأولى وفي الولاية الثانية جلبه تشوبايس من بطرسبورغ للعمل في دائرة الممتلكات الروسية في الخارج التابعة للكرملين ولا يقع مقرها في الكرملين وبعدها بقليل انتقل لترؤس المخابرات وانزوى هناك حتى تعيينه أمينا لمجلس الأمن القوميِ وكان يلتسين طوال هذه الفترة 'يعمل في الوثائق 'في منتجع 'غوركي 9 'ويزور الكرملين لغرض الراحة والاستجمام، فكيف كان بوتين ظهر يلتسين ودعامته ؟ يذكرنا هذاالوصف ب'مؤلف' كتاب مماثل لليونيد بريجنيف الذي كان يقحم أسم المارشال غيورغي جوكوف محرر برلين في كل مناسبة يأتي الحديث فيها عن دور بريجنيف في الحرب العالمية الثانيةِ وكل المؤرخين يعرفون أنه في تلك الحرب لم يكن ثمة أسم يعلو على جوكوف ولا حتى ستالين في قمة مجدهِ ولا يمكن أن يلتقي الاثنان فأين بريجنيف من جوكوف ! ومن التوافه التي زخر بها الكتاب تفاصيل مملة عن الأجهزة المنزلية : كم ثلاجة في بيت الرئيس وكم تلفزيون وكم غسالة. هذه الأمور لا يمكن ليلتسين الانتباه إليها وهو الذي قال بنفسه مرة بأنه لايعرف حتى ماركة التلفزيون في مكتبه ! لقد تم تأليف الكتاب بناء على مزاج 'العائلة' وانطباعاتها ، فيه تحس بفم وأذن تاتيانا ومكر يوماشيف وآرائه في السياسة والسياسيينِ والكثير جدا من 'التأملات' كان يلتسين في حياته العملية أرفع منها وأكبر حجماِ وحتى طريقة الكلام والحوار هناك الكثير مما لا يمكن ليلتسين أن يقوله أو حتى يفكر به. كان يلتسين بالرغم من الصعوبات التي واجهته بعد المرض وكلماته التي تخرج معوجة ، إلا أنه لم يخطئي وما في تركيبة الجملة أو النحو ولم نسمع منه جملة واحدة تافهة أو 'سوقية'. فلماذا تجيء مثل هذه الجمل في كتابه ؟وثمة ملاحظة هامة اخرى تخص ما رافق صدور الكتابِ فقد حرص القائمون على إصداره أن يكون في يوم 7أكتوبر ، أي في اليوم الذي كان فيه فلاديمير بوتين يحتفل في بطرسبورغ بمناسبة عيد ميلادهِ تمت دعوة انتقائية لحضور حفل إصدار الكتاب وتوقيع يلتسين على نسخه الأولىِ وكان 150 شخصا مدعوا لحضورهذا الحفلِ لقد تم استبعاد كل أعداء 'العائلة' من هذه المراسيم. لم يستخدم يلتسين هذا الأسلوب طوال رئاسته لم يفرق بين الصحافيين أبدا ولم يتدخل في من يحضر ولا يحضر في مؤتمر صحفي يقيمه أو مراسيم معينة وغير ذلك، لقد أعطى يوم 7 أكتوبر صورة شديدة الوضوح لروسيا الراهنة ، حيث كان رجال 'العهد القديم ' يجتمعون حول بوريس يلتسين لمشاركته فرحة صدور كتابه الأنيق جدا والذي قد يكون آخر محطة يظهر فيها بهذه السعادةِ بينما كان أهل 'العهد الجديد' يحيطون بفلاديمير بوتين الذي لولاه لهلك يلتسين طبعا ! لوحة أكتوبر كانت تعبير غاية في الدقة للفصل بين جيلين وعصرين ليس في المكان والزمان ، بل كما جرى تقليد الزمن في كل شيءِ يوم الاستقالة يبدأ يلتسين كتابه في فصل يحمل عنوان 31 ديسمبرِ هذا اليوم الذي أعلن فيه استقالته وحرم الكثيرين وخاصة الصحافيين والمحللين من الاستمتاع باحتفالات الألفية. وينهي يلتسين الكتاب بفصل خاص في حياته بعد الاستقالةِ وتأتي الفصول بينهما لتسلط الضوء على حياة الرئيس السابق منذ فوزه بولاية ثانية عام1996 والتغييرات الدراماتيكية في الحكومات والانهيار المالي والبحث عن زعيم جديد والصراع الانتخابي القاسي والعلاقة مع يفغيني بريماكوف ويوري لوجكوف والجنرالات وغيرها من الأحداث التي يقول المؤلف انه أراد 'التحدث عنها بصدق وأمانة الى أقصى حد'. ويعرف يلتسين كتابه في المقدمة بنتيجة 'عشر سنوات لي في السياسة الروسية' ، وربما حان الوقت لترك الحديث لبوريس يلتسين:

كنت أفضل على الدوام اتخاذ القرارات بشكل منفرد وتنفيذها بسرعةِ لأن القرار المتخذ لا يحتمل المماطلة والتأجيل ، سيفقد بمرور كل ساعة قوته وفاعليتهِ لذلك عملت دائما وفق قاعدة 'السير الى الأمام 'وآلية التنفيذ كانت دائما بيد رئيس إدارتي بطبيعة الحال، وبعده المساعدون والمحللون والحقوقيون والديوان،ومن ثم السكرتير الصحفي وصحافيو التلفزيون ووكالات الأنباءِ لهذا يعرف العدد الأكثر من الناس كل ماكان يدور في السياسة الكبرىِ وكان الأمر كذلك دائما ، على امتداد ثماني سنوات من رئاستيِ واليوم ليس كل شيء على هذا النحو. أحمل اليوم عبء القرار الذي اتخذته بشكل منفردِ وشخص واحد يعرف فقط هذا القرار اسمه فلاديمير بوتينِ ولو صرحت بالقول سيكون الأمر صعباِ يصعب على نفسي تحميلها كل هذا الثقلِ كنت بحاجة جدا للتكلم مع أحد ما، وإذا تسربت هذه المعلومة فان أثرها سيفقدِ وسيفتقد معها المعنى الإنساني والسياسي لهذه الخطوة. حديثي يدور عن قرار الاستقالة، كان علي الانصراف بوعي وبشكل اختياريِ وينبغي أن أعطي هذه الخطوة كل القوة التي أمتلكها من إرادتي السياسية، وينبغي أن أطلع على قراري شخصين آخرين : رئيس الإدارة في الكرملين الكسندر فالوشين ورئيس الإدارةالسابق فالنتين يوماشيف لكي يعدا المراسيم المناسبة والخطاب الذي سألقيه على البلاد. لم يشهد تاريخ روسيا حدث سابق يخص استقالة رئيس الدولة. ولذا يجب أن تكون كافة الوثائق معدة بصورة صائبة من وجهة النظر الحقوقية، وبعد إلقاء الكلمة عبر التلفزيون وتوقيع الوثائق الهامة بما فيها مرسوم الاستقالة وتعيين رئيس الحكومة فلاديمير بوتين بمنصب الرئيس بالوكالة، التقيت بوزراء القوة حيث تم وداعي للرفاق الأمناء ووداعهم للقائد العام. وفي صباح رأس السنة وبعد احتفالنا مع العائلة بالعيد استيقظت مبكرا ونظرت في الساعة التي أهداها لي بابا نويل وأدركت ان الحزن تركني نهائيا. ثانياأصابتني نهاية عام 1995 نوبة قلبية شديدةِ وكانت في حقيقة الأمر بسبب احتشاء عضلة القلب الأولى، لم أعر لذلك أهمية كبيرة، لزمت الفراش مدة ما واسترحت و 'دخلت المعركة ' من جديدِ كنت اعتمد على الدوام على جسدي القوي بالوراثة، زد على ذلك انني كنت أمارس الرياضة : سبحت في الماء المتجمد ولعبت الكرةالطائرة والتنس والتزلجِ ويبدو أنني أخطأت، القلب يبدأ بالتعطل عند الرجال بشكل خاص في سن 40 ـ 45سنة، سواء كان رياضيا أم راهبا، ِاستقبلت عام 1996 الجديد باضطراب ما وحل العام حالا بعد نوبة قلبية أصعب، وكان السبب في ذلك الهزيمة التي تلقيتها في مجلس الدوما حيث حصلت الأحزاب اليسارية وفي مقدمتها الشيوعيون والزراعيون في ديسمبر1995 على أكثر من 40 % من مقاعد الدوما ، أي قرابة 200 صوتِ أما حزب السلطة كما يسمونه برئاسة فيكتورتشيرنومردين ( بيتنا روسيا) فحصل بصعوبة على نسبة 10 % من الأصوات فقطِ وفوق ذلك لم نكن نرى أي بصيص أمل في الحرب الشيشانية. لم يكن باليسير التقدم للترشيح لفترة رئاسة ثانية مع مثل هذا الثقل والمسؤولية. وشعرت أكثر من أي وقت بالعزلة السياسية، ولا ينحصر الأمر بشعبيتي التي وصلت الى 3 % ، بل أنني لم أشعر بمساندة أولئك الذين بدأت معهم طريق الترقي السياسي وشاركت معهم في أول انتخابات برلمانية ومن ثم الانتخابات الرئاسية، وابتعد عني المثقفون والسياسيون الديمقراطيون والصحافيون الذين كانوا حلفائي وسندي، ابتعدوا عني بسبب الحرب الشيشانية، والسبب الثاني بسبب الإعفاءات المفاجئة للمسؤولين والثالث بسبب عدم رضاهم عن تطور بلادنا، وجد الجميع الأسباب التي بدت منطقية ومنصفة، ولكن كان لدي حدس بأن هؤلاء مستعدون للتوحد كونهم حلفائي السابقين وكان ينبغي العثور على فكرة توحد الجميع. وفي نهاية عام 1995 بدأ من هم في محيطي الأقرب وعلى رأسهم الكسندر كورجاكوف رئيس حراستي غير الشكلي يبحثون في الفكرة التالية : يجب ألا يصبح فيكتور تشيرنومردين خليفتي لأنه خسر الانتخابات البرلمانية وأن يكون بدلا عنه النائب الأول لرئيس الوزراء أوليغ سوسكوفيتس. وفي هذه الأثناء ظهرت ابنتي تانيا بمشورة فالنتين يوماشيف في محيطي القريب وأصبحت مساعدتي الحقيقية، بل الأقرب ليِ وبوجودها قربي كنت أحس بالاطمئنان والراحة وكان القلق يزول ما أن تطل علي. قبل العملية وبعدها حصل في 26 يونيو 1996 قبل عدة أيام من الجولة الثانية للانتخابات أن أصابني في المساء فجأة ألم قوي، وأحمد الله أن الطبيب المناوب أناتولي غريغوريف وجد نفسه حالا الى جانبي وأدرك سريعا ما حدث وقام بالإجراءات المطلوبة. تبقت أيام معدودة قبل الدور الثاني للانتخابات ( 3 يوليو) وكان من المعلوم أننا مع غينادي زيوغانوف زعيم الحزب الشيوعي الروسي نجمع كمية مساوية عمليا من الأصواتِ وكان كل شيء يتوقف هنا على موقفي ناخبي الجنرال الكسندر ليبيد (صوت لصالحه في الدور الأول 15 % من الناخبين ) وزعيم حركة يابلكو غريغوري يفيلينيسكي (نحو 5 % )، واضطرت هيئة الأركان الانتخابية إلى إلغاء كافة نشاطاتي ضمن الحملة ووجدت حجة لائقة : الرئيس واثق من الفوزِ وكان تغيير التكتيك هذا ناجحا، وكان المهم للغاية عدم السماح بتسرب المعلومات عن مرضي. كان فوزي موشحا بمذاق الأدوية ومع ذلك كان خياليا وعجيبا! أحرزت الانتصار ولم يصدق أحد ولا حتى أقرب المحيطين بهذا مطلع العام، وفي غضون ذلك كان الأطباء يتابعوني حتى أسوأ من حراسي الشخصيين، وكانت لهم أسس خطيرة لذلك : كان قلبي يصيبني بألم هائل على الدوامِ ووجدت نفسي في المستشفى، ِلم أكن بالمريض الذي لا أمل في شفائهِ لكن لا أحد من الأطباء ضمن نجاح العملية بنسبة 100 %، وثمةالكثير من العوامل السلبية التي شجعتهم للقول بأن نجاحها خمسين الى خمسين، ومع ذاك لم تكن عملية ربط الشرايين الصناعية فريدة من نوعها لأن الأطباء المختصين يعرفونها عن ظهرقلب ولهم تجارب كافية، وصممت على إجراء العملية في روسيا من قبل أطبائنا الذين حددوا وقت إجرائها شهرسبتمبر. بدأت أستعيد قواي قبل العملية ولكن أصابتني أزمة أخرى في مصيف زافيدوفو وكانت قبل العملية الجراحية التي تم تأجيلها لشهر، وقررت في زافيدوفو عدم إخفاء مرضي والعملية المقبلة عن الشعبِ وأدليت بحديث لميخائيل ليسن حيث نطقت أول مرة أمام الجميع كلمات : عملية جراحية للقلب ِوحالا شعرت بالثقة وبالجراح رينات أكتشورين الذي كان يتكلم بلباقة وبصورة مفهومة وصارمة، جرت العملية في 5 نوفمبر في الثامنة صباحا وانتهت في الساعة 14 وبدأ القلب يعمل فورا بعد أن فصلوني عن الجهاز. لا أحب أن أمرض لفترة طويلة، وبدأت في 8 نوفمبر المشي بمساعدة الممرضات والأطباء، كنت أمشي 5 دقائق تقريبا حول السريرِكان الأطباء الذين كنت أستعجلهم يظنون أنني سأقوى على العمل في الكرملين في مطلع ينايرِ غير أنني عدت الى الكرملين في 23 ديسمبر وسبقت جدولهم بأسبوعين. بدأت التنفس بحرية ولم يؤلمني القلب ، مرحى !

حياة أخرى


صاحبني في الأيام الأولى ليناير 2000 ( بعد الاستقالة) تفكير غريب وهو أنني شعرت كما لو أنني وقعت في حياة أخرىِ كنت أشعر جسديا بأن عبء الأسابيع والشهور والسنوات الأخيرة الهائل وقع من على كتفيِ من المستحيل وصف هذا الإحساس بكلماتِ لم يكن ذلك الانقباض والفراغ الذي كنت أخاف منهِ حصل العكس تماما : انفعالات إيجابية ومزاج حسن ومتزن، في الأول من يناير زارنا فلاديمير بوتين وزوجته لودميلا، وكنت أسمع خلال الأيام التي تلت الاستقالة الكثير من الكلمات اللذيذة، لم يقولوا مثل هذه الكمية من الكلمات في وقت واحد أبد،ِ وأتذكر نخب رأس السنة الذي قاله فلاديمير بوتين ليس بمناسبة رأس السنة فقط ، أصبح بوتين اعتبارا من هذا اليوم حرا في كل شيء : في اختيار الأولويات والمذهب الاقتصادي، وأخيرا في اختيار فريقه الجدي، ونفهم ذلك أنا وهو على السواء. بدأت حياته الجديدة مثلما بدأت حياتي الأخرىِ وكان أسبوعا أسطوريا تماما.بعد رأس السنة سافرت مع زوجتي ناينا وابنتي الى إسرائيل لحضور احتفالات الألفية الثالثة للمسيح، طرنا في طقس رديء جدا: مطر وثلوج ورياح وعواصف رعدية، وفي المطار سألت أحد المستقبلين: هل طلع النجم فوق بيت لحم؟ أجاب بحيرة انه لا يمكن رؤية شيء بسبب المطر.. كانت لدي رغبة شديدة في رؤية النجم فوق بيت لحم، ففي نهاية الأمر كانت بداية الألفية الثالثة لولادة المسيح ولادتي الثانية أيضا ، كان برنامجنا يشير الى حضور المراسم الدينية في كنيسة الميلاد، ولكننا زرنا القدس في البداية، أذهلتني القدس ومنحتني شعورا عجيبا، يتشرب عندها جو البحر الأبيض المتوسط بالأساطير والأسرارالقديمة، تشعر بذلك فور قيامك بخطواتك الأولى على هذه الأرض. التقيت بالرئيس وايزمن وناقشت العلاقات الثنائيةِ كانت هذه الزيارة معدة سلفا قبل استقالتي وكنت قد درست من قبل كافة الوثائق الضروريةِ وأدركت فجأة أنه بدلا من استخدام العبارة العادية 'حسنا اتفقنا'،أرغمت نفسي على القول (مع جهد معين فالعادة هي عادة): 'سأنقل كلماتكم حتما الى فلاديمير بوتين'؟ وفي الطريق الى مقر ياسر عرفات أوقفوا سيارتنا فجأة وعلى الطريق مباشرةِ وحدث خلال أربع دقائق شيءغير مفهومِ لم يصبني ذلك بالقلق، لكن أناتولي كوزنيتسوف رئيس الحراسة كان متوترا جداِ ويبدو أن مثل هذه المواقف طبيعية هنا. وقبل أن نصل الى قصر عرفات لمحنا حراسا كثيرين ينقلون بالباصات قرب القصر واستقبلنا عرفات بمراسم تشريفات خاصة. وبالمناسبة كان أناتولي كوزنيتسوف من أولئك الأشخاص الذين كانوا لسنوات طويلة من رئاستي الى جانبي ولم يفارقني عمليا. كيف تغير مزاجه عندما يحرس الآن الرئيس المتقاعد؟ لم يتغير ظاهريا مطلقا، ولايزال المصارع الى جانبي، وأظن أنه لم يتغير داخليا أيضا، ان أناتولي شخص مخلص وأمين للغاية.



زملاء الدراسة


وفي إسرائيل كان هناك لقاء هام مع زملائي في الدراسة في سفيردلوفسك: أرنولد لافوتشكين وآنا لفوف االلذين لم أرهما منذ وقت طويل جدا. نزحا قبل سنوات الى إسرائيلِ اتصلت زوجتي ناينا بهما هاتفيا وها نحن نجلس معا في غرفة الفندقِ يضربني نوليك لافوتشكين (تصغير أرنولد تعبير للصداقة) على ركبتي ويهتف: 'بوريا (تصغير لبوريس) من فكر في ذلك !' وتتحدث آنا دون عجلة وبالتفصيل عن الحياة هنا. قد تكون الحياة هنا بالنسبة للمتقاعدين غير رديئة:البحر، الفواكه، الشمس، التأمين الاجتماعي الجيد ، ولكنني لم أستطع العيش هنا بالطبع. أولا، لا يمكنني تحمل سخونة الصيف وثانيا، ان الحياة في الوطن أفضل دائما، غير أن نوليك لا يمل من الكسب الإضافي ويعمل حتى كناسا، وبدا لي ان الكناسين في القدس كثيرون جدا، ولا يشتكي نوليك ويكرر: 'بوريا، كل شيء هنا على نحو آخر والحياة بحد ذاتها أخرى'. ولاحظت كثرة الناس في القدس، في كل شارع وتقاطع طرقِ شعرت بذلك بالأخص خلال زيارة بطريرك القدسِ كان رجال الأمن يصدون الجمهور بأجسادهم، في مقر البطريرك منحوا رؤساء البلدان الأرثوذكسية وسام نجمة ضريح الرب، وقف الى جانبي كوتشما (رئيسأوكرانيا)، لوكاشينكو (رئيس بيلاروسيا)، شيفرنادزه (رئيس جورجيا) وهم زملائي القدماء. نظرت إليهم وكان مظهرهم يثير الحيرة في هذه الطقوس غير الاعتيادية. كانت الصالة ضاجة بالصحافيين والساسة والقساوسة وكانت كاتدرائية القدس الهادئة دائما غاصة بالضيوف وحل أخيرا وقت كلمتي، وضعت الخطاب المعد جانبا لأن الأجواء لم تسمح لي بقراءة من الورقة وقلت ان وثيقة دولية عن السلام ستوقع في هذه المدينة يوما ما وستكون ميثاقا للعالم الجديد، ولاحظت أن الصالة هدأت قليلا وقال أحدهم باللغة الروسية: "برافو أيها العجوز !" وفي اليوم التالي بعد الزيارة الرسمية زرنا كنيسة الميلاد، كانت الممرات ضيقة بين البيوت وانفعالنا الهائل كان واضحا في خلفية الأحجار والمداخل الواطئة للغاية والقساوسة كبار السن كأنهم خرجوا توا من الكتاب المقدس وشبه العتمة وطقطقة الشمعات الهادئة والهواء الخانقِ في المعبد الكثير من الناس الذي نينشدون صلاة التمجيد للمنقذ تحت المذبح الواقع في كهف حيث استتر وقتها يوسف وزوجته ماريا، كان الناس ينامون على الأرض مباشرة متعبين على ما يبدو من الطريق الطويل، شعرت حينذاك بقلق بالغِ بالرغم من أني عمدت في الطفولة، إلا أني لم أعر كالأغلبية الساحقة من السوفيت هذه الطقوس أهمية، ويبدو لي أن الناس عادوا الى الله في السنوات الأخيرة فقط. رجعت الى الوطن ممتلئا بالعواطف الجياشة وكانت هذه رحلتي الخارجية الأولى بعد الاستقالة.

رئيس روسيا الأول


في المسرح في 7 يناير ذهبت مع زوجتي ناينا الى البلشوي تياتر لحضور حفل منح الجائزة السنوية 'الظفر'. لم أرغب بحضور الحفل وأردت التملص بحجة حالتي الصحية، لأن ذلك يعتبر أول ظهور لي في روسيا أمام الناس بصفتي الجديدة. كانت تانيا تمازحني قليلا: 'يا بابا، هل هناك شيء يخوفك؟ سأضمن لك بأنهم لن يصفروا استهجانا منك كحد أدنى'.ولكن ما ان ظهرت في أحد زوايا القاعة حتى قام الجمهور وحياني بتصفيق حاد. لم أتوقع أن ردة فعل الناس ستكون على هذا النحو بعد السنوات الثماني من الصراع السياسي الصعب وبعد العام الأخير الحرج للغاية.كان رد فعلهم مخلصا للغاية. منح جائزة 'الظفر' حدث ثقافي ملحوظ في روسيا، زد على ذلك رأيت أمامي معبودي البلاد الشاعرين بيلاأخمادولينا وأندريه فوزنيسينسكي، وشاعر الهجاء المحترف ميخائيل جفانيتسكي والمؤلف المسرحي الكساندرفولودين وغيرهمِ وكانت كلماتهم أهم اختبار سيكولوجي ليِ ويبدو لي أن المحافظة على وضع الرئيس المستقيل بعزة نفس ضروري لإظهار كرامة الأمةِ شعرت في تلك اللحظات أن عملي الجديد هو بالفعل 'رئيس روسيا الأول' كما يطلقون علي الآن.
أول يوم في المكتب صباح 10 يناير ذهبت لمكتبي لأول مرة بعد الاستقالة.وكان هذا المكتب كالعادة مليئا بالوثائق، وكانت الدولة كلها تقع على هذا المكتب، ولكن الآن المكتب فارغ. رفعت سماعة الهاتف، لم تكن فيه حرارة، لم يعمل الهاتف، توقف كل شيء عن العمل في هذا المكتب. جلست على المقعد وداهمني إحساس مخيف بالفراغ وشعرت بالعزلة وحتى بالكآبة. لم أفرض هذا الشعور على عائلتيِ ومع ذلك كان انطوائي على نفسي ملحوظا في هذه الأيام. وفي النهاية قررت طلب الإيضاح حول سبب قطع الهاتف عن مكتبيِ أجابوني ان هناك عملية تنظيم شبكة الهواتف تجري الآن،وان كل شيء سيكون على ما يرام غدا صباحا. طرح هذا العطل التكنيكي أسئلة كثيرة: هل من الممكن ألا أتمالك نفسي ازاء مثل هذه الأمور التافهة؟ كيف سأعيش؟ كيف سأتعود على ذلك؟ أسئلة صعبة، أول شيء خطر ببالي هو ضرورة أن أعود الى كل الأشياء التي حرمت منها في السنوات الأخيرة: التأمل،الهدوء، السرور، الغبطة الإنسانية البسيطة، المتعة مع الموسيقى والمسرح والقراءة، وزد على ذلك أنا مسؤول عن الجميع الذين ربيتهم ومع الذين كنت أعملِ أنا مسؤول كالسابق عن كل شيء يحدث، ليس كرئيس، بل كإنسان يتحمل مسؤولية كل العملية السياسية الجارية وذلك الطريق الذي سارت عليه روسيا. يمكن أن يأتي لي اليوم أي شخص بمن فيهم الرئيس الجديد ليطلب مني المشورة في مسألة ملحة وعلي أن أمنحه الحقيقة المطلقة.نعم، ان ذلك لأمر مهم، يجب أن أكبح القائد الذي تملكني لسنوات عديدة وأن أصبح لجميع هؤلاء الأشخاص محادثا لا أكثر ولا أقلِ محادثا هاما وثمينا يحرصون على سماع رأيه، وهذه رسالة جادة ومهمة كبيرة، ما زالت إدارة الرئيس ترسل لنا في منتجع 'غوركي 9' نتائج استطلاعات الرأي العام وتحليل الأحداث واستعراض موجز للصحف، أقرأ التحليلات وأسمع الموسيقى عبر المسجل بسماعة الأذن. أهدوني هذا المسجل الصغير في يوم الميلاد لكي أملي به مذكراتي ومشاعري وانطباعاتي، وأحيانا أزور الخيول في الصباح الباكر في الإسطبل. منحت عشرات الخيول التي أهدوها لي في مناسبات عديدة الى مربيي الخيول المحترفين واحتفظت بواحد جميل أهداه لي نور سلطان نزار باييف (رئيس كازاخستان). ولكي لا يشعر بالضجر جلبنا له فرسين وقررت أن أعلم ابنتي وأحفادي ركوب الخيل لأن الوقت فات بالنسبة لي، ولم ينجح هذا المشروع حتى الآن، فالجميع مشغولون جدا، تساعدني تانيا دائما ولينا منشغلة جدا بمهمات الجدة الشابة، كاتيا أنجبت، وأنهت ماشا الدراسة في المدرسة ودخلت معهد العلاقات الدولية (بنات ابنته لينا)، أما بوريا (ابن تانيا من زوجها الأول) فقد تعلم ركوب الخيل ولكنه بعيد يدرس في الخارج، وبقت الخيول بلا فرسان. اقترب منها وألامس رؤوسها الدافئة وأتملى في عيونها الذكية وأطعمها في يدي، ويرتفع مزاجي درجات. التقيت بفلاديمير بوتين عدة مرات في الأشهر الأولى بعد الاستقالة. وكنا نناقش الانتخابات وكثيرا المشكلة الشيشانية وعدة مرات ناقشت مشاكل الجيش والشيشان مع وزير الدفاع المارشال ايغور سيرغييف والجنرال أناتوليكفاشنين رئيس هيئة الأركان ووزير الداخلية فلاديمير روشايلو. ان هذا الموضوع عليل بالنسبة ليِ آمل أن يحل السلام في الشيشان هذه السنة، وكانت لي أحاديث عديدة مع رئيس الوزراء الجديد ميخائيل كاسيانوف، يعجبني هذا الرجل، هادئ ومطمئن وواثق ومطلع، ويحلو لي الفريق القوي الذي شكله في الحكومة،التقيت أيضا برجال القوة (يعدد يلتسين كثيرا من أسماء المسؤولين وأمام كل واحد منهم تقييمه له ولم يذكر أيا منهم بسوء ويبدو أن ذلك بمثابة رغبة لتقديم العرفان لكل من عمل معه عبر هذا الكتاب). أصبحت دائرة معاشرتي خلال الأشهر الأخيرة أوسع بكثير من قبلِ كنت استضيف الكثيرين الذين لم يسعفني الوقت لرؤيتهم عندما كنت أدفع ثمن ترقي السياسي: فقدان الصحة وأصدقاء الطفولة وزمن الشباب بقوا جميعهم في سفيردلوفيسك. زاد ميلي في الآونة الأخيرة للمأكولات البسيطة، لم أتعرف باكتشافات الطهي المعاصرة في رحلاتي الرسميةِ كانت قائمة الطعام 'للرئيس' تعد من قبل أفراد دائرة الحراسة الفدرالية، لم تكن هناك ألوان لذيذة من الطعام، ولا أحب الأكل في حفلات الاستقبال الرسمية على وجه العمومِ لأنك هناك تشعر بتوترمعين ويجب أن تجري المباحثات. في بكين أصرت تانيا ولينا على تذوق بطة مشهورة معدة على الطريقة الصينية، طلبتاها الى غرفة الفندق في ساعة متأخرة من الليل بعيدا عن أعين أفراد الحماية، وبعد أن سمعت دبيب أقدامهما سألت: ماذا تأكلان؟أريد أن أتذوق أيضا ! وكانت هذه الحالة الاستثنائية الوحيدة التي أتناول فيها الطعام بدون 'تفقده' من الحماية. أحاول الآن تقليل وزنيِ اشترت تانيا لي ميزانا إلكترونيا لكي أزن نفسي يوميا وأتبارى مع تانيا بتقليل الوزن وهكذا نتلهى. آكل قليلا وأشرب في الليل كأسا من اللبن وكفى. شاهدت مسرحية بيجماليون في المسرح المعاصر الذي تقوده المخرجة غالينا فولتشيك، تلك المرأة المدهشة ذات النكتة الرقيقة جدا والقائدة الفنية الممتازة. وفي اليوم التالي دعتنا تانيا لحضور حفل للموسيقى المعاصرة 'مترو' في مسرح الأوبريتِ اعترضت ناينا: كيف نتردد على هذا النوع من المسرحيات؟ِ أجابتها تانيا: 'يا ماما هذه المسرحية مشهورة جدا الآن في موسكو وعليكم مشاهدتها'، وقررت في هذه اللحظة: لنذهب! فإذا كانت هذه المسرحية مشهورة ومخصصة للشباب فإني لن أغيب عنها أبدا. أحسست بالرجفة عندما رأيت الكثير من الشباب المتعصبين لـ 'الموزيكل' يحيطون بالمسرحِ نظموا لنا استقبالا مهيبا بعد أن رأوا 'يلتسين الحي'. كانت هناك الكثير من التصرفات التي أفهمها بسبب عمرهم ، ولكن شعورهم كان مخلصاِ في الداخل. اقتربت من مقعدنا فتاة ومدت لي برنامج المسرحية وطلبت إمضائي ! قلتلها: عفوا لا يوجد عندي قلمِ سرعان ما بادرت وأعطتني أحمر الشفاه: خذوا بوريس نيكولايفيتش ! لم تسمح نسائي بالتوقيع بالروج بالطبع ووجدتا قلما في الحال. ان هذه التفاصيل مضحكة ولكن يحلو لي أن أتذكرها أكثر من أي شيء آخر. أسمع الموسيقى في الآونة الأخيرة (يعدد يلتسين على مدى صفحة كاملة الملحنين الذين يسمعهم ورأيه بالموسيقى الكلاسيكية وكذلك الحال مع الكتب التي قرأها والتي كانت في الأغلب عن الحرب العالمية الثانية ومذكرات الساسة المشهورين). ومن العادات الجديدة ظهر في حياتي التلفزيونِ لا أحب كالسابق البرامج السياسية، بل أشاهد الأخبار والأفلام أحيانا يعرضون عندنا أفلاما جيدة لكن للأسف يكون ذلك بعد منتصف الليل عندما أخلد للنوم.(يستغرق يلتسين بذكر أفلام الفيديو التي جلبتها له تانيا ورأيه فيها)ِفي الكرملين مجددا ذهبت الى الكرملين لأول مرة بعد انقطاع طويل، كنت متهيجا، لأن الأمر كان مهما، يصعب أن تعود الى مكان عملك القديم بعد أن تركته من فترة قليلة، التقى معي الصحافيون الذين كانوا يرافقونني في كل الرحلات منذ عام 1996(الغريب أن يلتسين يتذكرهم جميعا ويذكرهم بالأسماء) التقينا في أحد أجنحة الكرملين حتى لا نعيق عمل الموظفين هناك، وكان لقاء مؤثرا، فحتى اليكسي فينيديكتوف اللاذع من إذاعة 'صدى موسكو' كان لطيفا وجميل المعاملة ولم يكن في مثل هذا المزاج أبدا. أهديت كلا منهم ساعة وللفتيات باقة زهور، ولم أرد أن أفارقهم وساعدتني تاتيانا ملكينا: بوريس نيكولايفيتش كيف ستحتفلون بيوم الميلاد؟ (حسب التقويم الأرثوذكسي يأتي بعد 15 يوما من المعتاد)، أجبتها: في البيت كالعادة مع عائلتيِ هل ستزورونني؟ أجاب أكثر من صوت: وهل ستدعوننا؟ قلت بفرح: طبعا أدعوكم. لم تنم ناينا قبيل الاحتفال لكي تحضر الكيك ليكفي كل الصحافيينِ قدمت فتيات جريدة 'كوميرسانت' لي هدية جميلة بإصدار عدد خاص من جريدتهن جمعت فيه بعض المقالات التي كتبت عني.
كان فبراير ومارس ملتصقين بالاضطرابات الانتخابيةِ كنت واثقا من فوز فلاديمير بوتينِ وكانت كل المؤشرات تقنعني بذلك: بداهتي الشخصية تشخيص علماء الاجتماع والحالة الواقعية، فلم يكن هناك أي بديل لبوتين. كنت أتوقع أن يحمل لنا يوم 26 آذار فرحا انتظرته طويلا، ومع ذلك كان يوم الانتخابات نفسه معلقا وكنت أطلع على النتائج التمهيدية بالهاتف من المحافظين حيث انتهت عملية الاقتراعِ كانت تانيا تريد تهدئتي: بابا لماذا هذا القلق؟ سيفوز مهما كان الأمر ! أجبتها بأني أعرف ولكن أريد أن أطمئن بنفسي على النتيجة بأسرع وقت. وعندما ظهرت على شاشة التلفزيون أول نتائج الاقتراع دعوت أهل البيت كلهم بحمل الشمبانيا بسرعة. فرح الجميع في البيت وكنا منفعلين. لم أستطع البقاء في مكان واحد، الانتصارِ هو انتصاري الرئيسي. وفي أبريل وصل الى موسكو رئيس وزراء اليابان السابق ريوتارو هاشيموتو دعوته الى مقر 'روس' فيزافيدوفو المفضل لي، اتبعنا تقليدنا المعتاد في صيد السمك أخذ ريو السنارة الروسية، وأدركت وقتها أن ما يقلقه ليس كمية السمك الذي سيصيده، بل أراد استيضاح النهج السياسي للرئيس الجديد وهل سيحافظ على الإرث السياسي الذي تركته له. لم يرد ريو فقدان ما توصلنا إليه في كراسنيارسك(وعد يلتسين بإعادة جزيرتين للكوريل مقابل توقيع معاهدة سلام بين البلدين لغاية عام 2000) وقلت اني أثق ببوتين على الإطلاق وان نهج الشراكة مع اليابان سيتواصل من قبل رئيس روسيا الجديد بلا أدنى شك. وعندما رجعنا من صيد السمك خطرت لي فكرة وهي تأسيس نادي الرؤساء ورؤساء الوزراء السابقين فلا تستطيع شخصيات قوية كانت ترسم السياسة العالمية مثل كول، بوش، تاتشر، كلينتون، هاشيموتو، فالينسيا ومانديلا أن ينصرفوا للراحة وحياتهم الشخصية. أحكم على نفسي، ان هذا أمر صعب جدا: الانتقال من حياةلأخرى. ونادي الشيوخ ليس للصداقة فحسب، بل للتأثير الأخلاقي في الأجواء الدولية. بعد أن أختتم العمل في هذا الكتاب سأعود الى تنفيذ هذه الفكرة حتما.
وصل الرئيس الأميركي بيل كلينتون الى موسكو بزيارة رسمية، بعد المحادثات في الكرملين مع فلاديمير بوتين وبعد كل البرنامج الرسمي زارنا، وأقولها كلمة شرف لقد اشتقت إليه جدا وسعدت عندما فتحت البوابة الرئيسية لمنتجع 'غوركي 9' ليدخل موكب الرئيس الأميركي. سألت كلينتون: كم مرة التقينا؟ ابتسم: يصعب عدها، مضى الوقت بسرعة جدا وإن كان الوقت في السياسة آخر: تارة يزحف ويتباطأ وفي الأزمات يندفع بسرعة الى الأمامِ ولكننا تكلمنا بشكل إنساني. لقد استطعت مع بيل أن نقيم علاقة صداقة وطيدة وتبادلنا العواطف، سألته: هل يعجبك بوتين؟ أجاب بيل بجد: 'انه زعيم حسن وقوي'، ومن ثم استغرق في الحديث: 'أعرف أن له في روسيا شعبية هائلة، غير أنه يقوم بخطواته الأولى فحسب وعليه لكي يصبح سياسيا عظيما أن يثق أكثر بقلبه وإحساسه'. سألت بيل كيف جرت، من وجهة نظره، المحادثات بشأن مشكلة شبكة الدفاع المضاد للصواريخِ أجاب كلينتون بلا تحديد وكأن في هذه المشكلة نواحي فلسفية وسياسية وتقنية وطالب أن يضع العسكريون آليات نتفق عليها. ذكرت له كيف كنا نجد المخرج لأكثر المشاكل حيرة وحتى لتلك التي كان خبراؤنا لا يتمكنون من الاتفاق بشأنها ، تأمل كلينتون لدقيقة هذا الكلام وأدركت أن بيل لا يريد أن ينصرف دون أن يحل هذه المشكلة نهائيا ويتركها لرئيس جديد للولايات المتحدةِ كيف سيكون عندها الحوار بين بلدينا؟ ماذا سيتوقع العالم نتيجة هذا الحوار؟ أعتقد أن أي حل وسط سنصل إليه في مجال نزع السلاح سيحفظ للإنسانية الأمل في القرن الحادي والعشرين الذي نريده قرن السلام، سألته كيف تعيش هيلاري؟ وأجاب كلينتون ردا على ذلك بحكاية مفاجئة: 'ألقيت أمس كلمة بإذاعتكم (كان يتحدث عبر راديو صدى موسكو ويرد على الهواء مباشرة على أسئلة المستمعين الروس) وكان هناك سؤال مضحك يا بوريس: ماذا سيحدث لو أصبحت هيلاري رئيس الولايات المتحدة وكيف سأشعر بدور زوج الرئيسة؟ أجبتهم:لا بأس سأحمل الشاي لها !'، أعجبتني دائما صراحة بيل اللطيفة وحريته ويسر معاشرته. كنا مرة نجلس في إحدى حفلات الاستقبال المهيبة وفجأة قال لي: أنا بطول قامتك بوريس ! وسألته: 'وما هو مقاس حذائك؟ دعنا نقس'، وغرق في الضحك وهوينزع حذاءه واتضح أن طولنا مماثل ومقاس حذائي 43 و له 46 ، يحصل ذلك أحيانا.
ظننت أني سأستضيف بيل لوحده، ولكن رافقه الوفد الأميركي كاملا، هؤلاء الذين كانوا يساعدون بيل في السنوات الأخيرة ويتعاملون بشكل وثيق مع إدارتنا. أراد الجميع مصافحتي وقول كلمات دافئة، كم حلا لي ذلك! قمت أخيرا لأودع الضيوف حتى الباب قال بيل شيء هام: 'أردت يا بوريس تغيير البلد وقد غيرته'. وقلت رداعلى هذا: 'وغيرت بلدك أنت أيضا يا بيل'. أظن أن هذه الكلمات ليست خاضعة للمراسيم، عندما غادر بيل نظرت طويلا للصورة التي أهداها لي: نجلس في مقعدين فضفاضين وننظر الى البعيد، الى السماء الزرقاء. في حفل التنصيب حلت أعياد مايو وبقيت أيام معدودة لمراسيم تنصيب فلاديمير بوتين رسميا رئيسا لروسياِ وشعرت بأن القلق يساورني أكثر فأكثر. جاء الكسندر فالوشين رئيس ديوان الرئيس ومعه منهاج التنصيب الأوليِ كانت ثمة طريقتان: إما أن يقام الحفل في قصر المؤتمرات حيث جرت مراسيم 1996، أو قصر الكرملين الكبير. وتذكرت أن هذه المراسيم لم تحمل لي ذكرى طيبة فقلت: حلوا الأمر بأنفسكمِ (في حفل تنصيب يلتسين عام 1996 كان يمر في أسوأ حالاته الصحية ومرت المراسيم عليه بصعوبة ولم تستغرق أكثر من 20 دقيقة). وسررت عندما عرفت أن حفل التنصيب سيكون في قاعة أندريفسكي لقصر الكرملين الكبيرِ هنا في هذه القاعات توج القياصرة غيورغيفسكي، أندريفيسكي، ألكساندروفسكي وغيرهم. وتحفظ هذه القاعات ذكريات وأحداثا تاريخية عميقة، تاريخنا الكبير الذي يستحق الحب والاحترام. درست السيناريو باهتمامِ ولكن هل يجب أن أخرج الى المسرح سوية مع بوتين؟ وهل ينبغي أن ألقي خطبة؟ أدركت في النهاية أن دور الرئيس السابق لم يتحدد في حفل التنصيب، ليس بنزوة واضع السيناريو، بل بالتاريخ نفسه. ومهما كان الأمر أقلقني إلقاء خطاب، فقد كنت طوال السنوات الثماني من إمساكي لزمام الحكم أحاول إبعاد البلاد عن الهزات وفي غضون ذلك كنت أقوم بإجراءات غير شعبية. ثماني سنوات من التوتر الشيطاني لا أرى لها شبيها في الممارسات السياسية العالمية في الربع الأخير من القرن. كيف سأتحدث عن كل هذا في صفحة واحدة؟كان قصر الكرملين الكبير غاصا بالمدعوين وينتشر في قاعاته نحو ألف وخمسمائة شخص من ممثلي كل النخب الروسية وكان هناك الرئيس الأول والأخير للاتحاد السوفيتي ميخائيل غورباتشوف. وبعد أن بدأ دوي المدافع تلاشت أصواتها في ذلك القصر الكبير الذي لا نظير له من التغييرات والانقلابات التي كنت أحد منفذيها الرئيسيين. استيقظت في الليل وفكرت: أيكون كل شيء صحيحا في كتابي؟ نعم، ان طبيعتي تحملني على أن أتكلم عن مسؤولية الموقع الأول فقط، أستطيع أن أكتب عما أعرفه وأشعر به شخصياِ نعم، كنت رئيسا لسنوات طويلة وكانت الكثير من الأمور تتوقف في بلدنا على أعمالي سواء أكانت صحيحة أم لا، ولكن التاريخ لا يحدد في النهاية من قبل أشخاص منفردين، ثمة قانون عام وغامض في حياة الأمم كلها، ربما أحمل نفسي أكثر من اللازم، غير أني آخذ على عاتقي الكثير من المسؤولية، ومهما أحمل نفسي بأمانة، يبق السؤال: وثم ماذا؟ من أكون اليوم؟ لعلي أشعر الآن كأني أعدو السوبر ماراثون، أربعين ألف كيلومتر، ها هي حالتي اليومِ كرست كل قواي وكل ما أملك لماراثون الرئيس وبذلت قصارى جهدي لجري هذه المسافة. وإذا كان لا بد من التبرئة من شيء، فاني أقدم براءتي: إذا استطعتم أن تعملوا أفضل، جربوا الركض لقطع الأربعين ألف كيلومتر هذه من جديد بشكل أسرع وأحسن وأيسر، وأنا قمت بذلك.


أنا و بريماكوف


أدركت في نهاية الثمانينات بوضوح أن روسيا تساند الإصلاحات الراديكالية ولا تجنح الى الثورية والعصيان المسلح والعنف والانقلابات العسكريةِ وكان واضحا أن المجتمع يتوقع إصلاحا متمدنا مشحونا بالحماسِ وأظهر الزمن أن تقديراتي كانت صائبة، لأن البلد رفض أي محاولة لفرض شيء ما عليه بالقوة. كان خيار روسيا واضحا: إعادة إنشاء البلد الديمقراطيِ وفي غضون ذلك كنت أراقب باهتمام سلوك وتكتيك يفغيني بريماكوف، بدأ العمل بدقة واتزان وبلا عجلة كان يناور بحذر بين القوى السياسية وتشاور كثيرا مع زعماء الأحزاب ورؤساء الأقاليم ولم يتخذ خطوات حادة، كان يوطد تدريجيا مواقعه وضمن مساندة المحافظينِ وأدخل الى الحكومة عدا يوري مسليكوف أشخاصا مقربين منه، وكان أهم شيء بالنسبة لي النبرة التي سيتكلم بها مع الشعب، وبدا لي أنه اختار النبرة الصحيحة جدا، استطاع تهدئة الجميع بصوته الخافت وطريقة كلامه الساخرة قليلا والحازمة بقدر معين. ونجح يفغيني بريماكوف بتمهله وخطواته الواثقة في نزع التوتر السائد في المجتمع في سبتمبر وأكتوبر متمكنا من إقناع الجميع في إمكانية استقرار الوضع. وكان ذلك ما أحتاج إليه بالذات. باختصار، تمكن بريماكوف من تمتين الوضع بشكل لم يسبقه أي رئيس وزراء روسي. وكانت لذلك أسباب وأسس موضوعية: مساندة مختلف القوى السياسية ابتداء من إدارة الرئيس وانتهاء بمجلس الدوما، وكانت له شعبية عالية، غير أن الصحافيين لم يتعاطفوا مع حكومة بريماكوف منذ البدايةِ وشعرت بأن غياب الحب بينهما سيكون متبادلا ،واتضح بسرعة أن أسلوب بريماكوف في العمل، وخاصة ذلك المتعلق بسرية عمل الحكومة، كان يستفز الصحافة. أعطى بريماكوف توجيهاته الدقيقة بإخفاء كل المعلومات عن الصحافة وعدم الاختلاط بالصحافيين ووضعهم تحت الرقابة. تأثر بريماكوف بأسلوب عمله لسنوات عديدة في المؤسسات السرية المغلقة: اللجنة المركزية، وزارةالخارجية، دائرة المخابرات الخارجية، ولكن نشاط الحكومة أصبح في السنوات الأخيرة شفافا وتعود الصحافيون مناقشة خطوات الحكومة والعمل حسب أنماط الصحافة العالمية، كانت الحالة أشبه بـ'الحظر السوفيتي'، ولم يستطع بريماكوف تغيير موقفه من الصحافة حالا وكان من المستحيل إقناعه، إذ تعود على رؤية كل مقالة على أنها دسيسة من خصومه السياسيين. كان من المحزن جدا أن أرى يفغيني ماكسيموفيتش غير قادر على التخلص من العادات السوفيتية، وكنت أحاول التعامل مع ذلك بصبر ريثما .. ريثما .. أخرج مرة بدلا من الملف المألوف الحاوي على قصاصات الجرائد التي تنتقد الحكومة، شيئا آخر على الإطلاق: وثيقة مهملة التوقيع خاصة بمسؤول كبير نسبت إليه اختلاسات ورشاوى وعمليات مالية غيرشرعية.. الخ. وقال ان هذه الوثيقة أعدتها الأجهزة الأمنية الخاصة. قلت له: إذا كانت هذه الوثائق حقيقية فلماذا لا تفتحوا قضية جنائية بحقه؟ أم أنها مجرد ظنون؟ كانت مثل هذه المشاهد تتكرر مرارا ويحتوي مكتب بريماكوف على الكثير منها، وكنت أنصحه دائما بألا يعيرها اهتماما ولا الى انتقاد السياسيين الليبراليين ولا الى المقالات الحادة في الصحف والإشاعات عن مكائد الأجهزة الخاصة، وكنت أقول له على الدوام: 'أنا الرئيس أساندك وهذا أهم شيء'. وبدا لي أنه أدرك كلماتي، أو حاول إدراكها على الأقل. وظهر في خريف 1998 لدى النخبة السياسية إحساس بأن رئيس الوزراء يأخذ خفية صلاحيات الرئيس، ويحاول مد نفوذه الى كل الإدارات الحكومية، وكان بريماكوف يلتقي كثيرا بمسؤولي دوائر القوة المسؤولة حسب الدستور أمام الرئيس وحده، وكان يحاول تعيين رجاله في دائرة المخابرات الخارجية في كل مكان بصفة نواب رؤساء المؤسسات الحكومية، وبدأت الصحف تكتب أن محيط الرئيس 'سلمني' لبريماكوف وكأن موظفي إدارةالرئيس اتفقوا معه مقابل إبقائهم في العمل مستقبلا عندما ينظرون بهدوء الى الرئيس وهو يفقد صلاحياتهِ كنت أرد باطمئنان على هذه الإشاعات، ولم أخش من أي تمرد 'زاحف'، كان الأهم بالنسبة لي أن بريماكوف وحكومته سيحافظان على الاستقرار السياسي وسيساعدان بذلك الاقتصاد للخروج من أزمته وأن أيدي الشيوعيين مشدودة بمشاركتهم في الحكومة. كان يفغيني بريماكوف يساعدني راغبا أم راهبا في التوصل الى الهدف السياسي الرئيسي: إيصال البلد بهدوءالى عام 2000 حيث ستجري وقائع الانتخابات الرئاسية. وكنت أظن أننا سنجد سياسيا قويا وشابا سننقل إليه الإرث السياسيِ


إقالة بريماكوف


في يناير 1999 تقريبا بدأ رئيس الوزراء من خلف ظهر الرئيس الذي يحاول تسريع الإصلاحات، التشدد في المجرى السياسي، والمبادرة بقيادة البلد الى الوراء الى الاشتراكية. هل كان هذا في مصلحة روسيا؟ لقد حررنا بالجهد الجهيد البلد وأناسه من الاشتراكية وكانت إعادة كل شيء الى الوراء دفعة واحدة جريمة حقيقية. جرى أول حديث مزعج بيننا ويفغيني ماكسيموفيتش في يناير 1999 اقترح بريماكوف على مجلس الدوما خطة تسوية سياسية حتى الانتخابات الرئاسية، جوهرها أن يلتزم الرئيس بعدم حل الدوما وعدم إقالة الحكومة ويكف النواب عن إجراءات عزل الرئيس وسحب الثقة عن الحكومة. كان هذا المشروع قد وضع في الخريف الماضي خلال ترشيح فيكتور تشيرنوميردين لمنصب رئيس الوزراءِ غير أن الدوما رفض ترشيح تشيرنوميردين وماتت الاتفاقية السياسية في سبتمبر، فلماذا قرر بريماكوف إحياءها؟كان 'ميثاق عدم الاعتداء' كما أطلقت عليه الصحف في يناير يعني استسلاما تاما من قبل الحكم الرئاسي. وصل بريماكوف الى المستشفى التي كانوا يعالجونني فيه من الالتهاب الرئوي حاملا هذه الوثيقةِ سألته:هل من الممكن عرض الوثيقة التي تنقص بشكل ملحوظ صلاحيات الرئيس ومناقشتها في مجلس الدوما ومجلس الاتحاد حتى بدون إطلاعي عليها واستشارتي؟ كيف يجب أن أفهم ذلك؟احتار بريماكوف وبدأ يبرر: "بوريس نيكولايفتش، كنت أتصرف لمصلحتكم ومصلحة المجتمع كله والدولةِ أعتذر لكوني لم أنسق الأمر معكم وأسحب الوثيقة فورا". كنت أعتبر كالسابق بريماكوف كرئيس وزرائي، غير أن الأجواء السياسية تغيرت في البلد في الأشهر الأخيرة بشكل جذري. بريماكوف 'المصالح' و 'الموحد' أصبح، في كل ما يحمله الأمر من تناقض، عاملا مهيجا لجزء كبير من البيزنس الكبير ووسائل الإعلام والطبقة الوسطى وللكثير من رجال السياسة وكتل مجلس الدوماِ جمع بريماكوف برضا أو بدونه حوله القوى المعادية لاقتصاد السوق والليبرالية وبدأ يهاجم برغبة أو رهبة حرية الكلمة وكان ذلك يقلق الصحافيين بالتأكيدِ وجرت في البلاد عمليات تثير القلقِ، وتقام الدعاوى الجنائية غير المفهومة (يقصد يلتسين القضاياالجنائية التي فتحها بريماكوف ضد رموز 'العائلة 'الحاكمة' المحيطة به ومحاولة اعتقال بوريس بيريزوفسكي الذي هرب وقتها الى باريس) وكان يعتقل الناس الأبرياء، وكان البيزنس الروسي تقريبا ونخبة رجال الأعمال في حالة انقباض ويهدد مستقبلها الغموضِ وكانت هذه توطئة لحصول انشقاق حقيقي في البلد فيما يخص الإصلاحات الاقتصادية، وأثارت أزمة كوسوفو العقلية المعادية للغرب في البلد وكان بريماكوف قادرا تماما على توحيد ذلك القسم من الساسة الذين كانوا يحلمون بعزل روسيا مجددا وإحياء 'الحرب الباردة'. كان بقاء بريماكوف في الحكم يهدد بتقسيم المجتمع الى معسكرين متخاصمين، والعودة تدريجيا الى أساليب القيادة السوفيتية السابقة، وإقالته تهدد بنشوب حرب أهلية حقيقية، وبات مفهوما أن بقاء الأمور على حالها حتى عام 2000، كما خططت لذلك من قبل، أمر مستحيلِ واتخذت قرار إقالة بريماكوف عمليا في أواسط أبريل، غير أن الضجر المشوب بالغموض لازمني لعدم استطاعتي اتخاذ قرار بتعيين رئيس وزراء جديد حتى اللحظات الأخيرة من الإقالة في 12 مايو أخبرت بريماكوف نبأ إقالته وشكرته على عمله. صمت بريماكوف قليلا ثم قال: "أقبل قراركم، لكم الحق في ذلك وفقا للدستور، غير أني أعد قراركم خطأ!". خرج بريماكوف ودعوت الى مكتب سيرغي ستيباشين.


الحرب الشيشانية الثانية


كان واضحا لنا جميعا أن الحالة في الشيشان على حافة الانهيارِ خطفوا في 5 مارس 1999 في غروزني من على متن الطائرة بوقاحة وبتحد الجنرال شبيغون، نائب وزير الداخلية (وممثل الرئيس الروسي في الشيشان)، فقد أصلان مسخادوف السيطرة على الحالة والسلطة في جمهورية الشيشانِ وكنا ندرك أن الحالة قد تدخل في طورمخيف ومواجهة سافرةِ وتم تعيين فلاديمير بوتين في منصب رئيس الحكومة بالوكالة في خلفية تدخل العصابات الشيشانية في داغستانِ وقرر رئيس الوزراء الجديد تنفيذ مهمة وحيدة خلال شهرين أو ثلاثة وهي: إنقاذ الاتحاد والبلاد وكان يدرك أن الحالة في الشيشان ستنتشر في كل القوقاز ومن ثم سيتمكن الانفصاليون المسلمون وبمساندة من الخارج البدء في عملية فصل الأراضي الأخرى من روسيا وكان انفجار الانفصالية ينذر بتفكك البلد النهائي الى عدة أجزاء وتطور النزاع الديني والأثني في كل الأراضي الروسية وبكارثة إنسانية تفوق ما حصل في يوغسلافيا. راجعني بوتين وطلب تفويضه بصلاحيات مطلقة لأجل قيادة عملية حربية والتنسيق بين هياكل القوة كافة. أيدته بلا ترددِ واستطاع تحت بصري تغيير عمل مؤسسات القوة بشكل جذري في غضون أسابيع معدودة. وبداالمجتمع يرى في بوتين قائده المستقبلي بعد أن عادت الأوضاع في داغستان الى مجراها الطبيعيِ ولعلعت التفجيرات المرعبة في بويناكس وموسكو وتلاها تفجير البيوت في مدينة فولغودونسك الصغيرة، وخيم رعب حقيقي على البلد وبدأ الناس يفرون الى القرى محتمين عند الأقرباء والمعارف وحتى الى الجمهوريات الأخرى لرابطة الدول المستقلة، وظهر الإنسان الذي أوقف الرعب وهو فلاديمير بوتين، وأصبحت تصريحاته الحازمة للغاية والتي أعلنت بداية العملية الحربية في الأراضي الشيشانية حدثا سياسيا رئيسيا في خريف 1999 وحملت له التصريحات وخاصة تلك المتعلقة بإبادة كل قطاع الطرق أينما وجدوا والبعيدة عن النمط الدبلوماسي بالشعبية الكبيرة جدا في روسيا. لم يحاول بوتين إشعال الغرائز الشوفينية الخسيسة في الروس، وانني على يقين أن سبب شعبية بوتين يكمن في أنه استطاع بعث الأمل والإيمان ومنح الشعور بالأمان و الحماية والاطمئنان للناس، لم يتلاعب بالألفاظ، بل كان يريد بإخلاص وثبات ما يريده عشرات الملايين في روسيا وما يتوقعونه منه. أعطى بوتين ضمانات الأمن الشخصي من قبل الدولة، وآمن الناس به، ببوتين شخصيا، آمنوا بأنه سيستطيع الدفاع عنهم، وبات هذا سببا رئيسيا لبروز نجمه، ولم تكن في البلاد المنومة مغناطيسيا بالأزمات الحكومية مثل هذه الأيديولوجية الإيجابية التي جاء بها هذا السياسي الشاب القادم توا للحكم. خلص بوتين البلد من الخوف وردت عليه روسيا بالشكر، في غضون ذلك، لا يمكننا نسيان عواقب الحرب الصعبة، فثمة الكثير من الوقائع تدلل على أن السكان المسالمين في الشيشان عانوا في الحرب الشيشانية الثانية، فقد الناس بيوتهم وحاجاتهم وفقدوا صحتهم وحتى حياتهم، ولكن هل ينبغي تحميل الجيش الروسي مسؤولية ذلك؟ِعندما أسمع عن 'جرائم الحرب' التي قام بها الجيش الروسي أسأل: ألا يعتبر خطف الناس والتجارة بهم وعبوديتهم والحصول على فدية مقابل إطلاق سراحهم واعتبار هذه الأموال مصدرا للرزق جريمة حرب؟حبس في الشيشان أكثر من ألفي رهينةِ ولم يكونوا من العسكريين الروس فحسب، بل وقع في عداد الرهائن مواطنو دول أخرى وشاهد العالم كيف قطعوا رؤوس ممثلي شركة الاتصالات البريطانية الذين كانوا يقيمون شبكة اتصال عبر الأقمار الصناعية لأصلان مسخادوف وغيره من زعماء العصابات ِكانوا ينقلون الى الشيشان الأطفال (كان عمر أحد الرهائن أقل من سنة) وفتيات ورجال أعمال وفلاحين، وكان قطاع الطرق يعذبونهم ويغتصبونهمِ وشاركت في تجارة الرقيق عصابات الأنغوش والداغستانيين والروسِ وأصبحت ظاهرة مرعبةِ وكان ذلك تحديا ليس لروسيا وأوربا، بل لكل الإنسانية، ليس لهم أي مذهب وعلم وحق في الاقتباس من الكتب الدينية، أنهم وحوش فحسب، وأتوقف عند مسألة هامة بالنسبة ليِ كان فلاديمير بوتين منذ البداية ينذر بوقوع ضحايا بين جنودنا، غيرأنه لا بد من إنهاء العملية الحربية وإيصالها الى نهايتها المنطقية لكي لا تكون هناك ضحايا أخطر بكثيرِ ويعرف أي بلد وأي شعب يصطدم بالإرهاب الجماعي (بما في ذلك شعوب إنكلترا وفرنسا وإسرائيل) الفكرةالبسيطة التي دوت بوضوح بعد التعايش سنوات طويلة مع قطاع الطرق المختفين تحت ستار نظام الشيشان الرسمي. لكل حرب من يعارضها وهذه حالة صحية. وفي النهاية أعارض الحرب ويعارضها فلاديمير بوتين أيضا.