الثلاثاء، 26 فبراير 2008

أحلام جيش المهدي وكوابيسه











النجف - د . جمال حسين علي:


أنشئ جيش المهدي لسببين أعلنهما السيد مقتدى الصدر بدون شعرية ولا زيادة ولا نقصان: لحماية العتبات المقدسة ولحرمة الحوزة العلمية و المراجع الدينية. غير أن الأقدار والأيام أثبتت بعد مرور أشهر على نشوء هذه الميليشيات المسلحة بأنه، في نهاية المطاف، العتبات المقدسة والمراجع الدينية هي التي حمت جيش المهدي وليس العكس.
بطل السبب
لو حل العجب، لبطل السبب، كحال كل الأشياء المعكوسة التي حدثت وقد تحدثِ وستعاني ميليشيات الصدريين كثيرا بعد واقعة النجف، من انهيار أسبابهم الفقهية التي ولدوا من أجلها، فلم يتحولوا الى حماة للعتبات المقدسة، والمرجعية الدينية هربت من مساكنها بسببهم، وهذا ما حصل على أقل تقديرِان أحدا لم يتوقف كثيرا لمعرفة سبب العودة السريعة جدا للسيد علي السيستاني من لندن، التي استغرقت ساعات معدودة ومحسوبة كقنبلة على وشك الانفجار، كما نسي الجميع تصريحات وزراء القوة العراقيين التي أطلقوها علنا ومن ثم بلعوا هذه التصريحات لخطورتها، ولخطورتها الرهيبة لم يشأ أي شخص التفكير فيها، تلك التصريحات التي اتهموا بها عناصر جيش المهدي بتفخيخ ضريح الإمام علي.
بداية الانهيار
كانت عملية تفخيخ الضريح بداية انهيار جيش المهدي وخروجه الصاخب من المرقد، وهي التي جلبت السيستاني على وجه السرعة الفائقة، فالسيد مقتدى الصدر قد توعد الأميركان في خطبة الكوفة بأن مجاهدي جيش المهدي سيتحولون الى قنابل حية ومتحركة ضد المحتلين أينما ثقفوهمِ فماذا لو نفذ انتحاريو جيش المهدي هذه التهديدات؟! أضف الى هذا التهديد العلني ما قاله الصدر في جلسة خاصة نورده بالحرف: " ما نفعله الآن أقل بكثير من أن يوصف بالمقاومة، فلو فعلنا ذلك لن يبقى لقوات الاحتلال بقوة الله، باقية ". ماذا كان يقصد السيد مقتدى بعبارته: 'فلو فعلنا ذلك'؟! الذي كان يقصده، شيء رهيب يقض سكون الشيعة والمسلمين عموما، شيء لا يمكن لأحد السكوت عنه، سيؤدي الى وقفة واحدة للشيعة ضد الاحتلال، ولا يوجد مثل هذا الشيء، سوى ما كادت الأمور تؤول إليه، ذلك الشيء المفزع الذي جعل السيستاني ومن معه يجتازون سرعة الصوت لكي يصلوا، أمر سيهز العراق والعالم: تفجير مرقد الإمام !!
إنذار الرابية
هو الأمر المريع نفسه الذي دفع بوزير الدفاع العراقي حازم الشعلان، الذي لم ينصفه أحد لصراحته حتى الآن، الهبوط على رابية للحرس الوطني متجحفلة في بحر النجف والإعلان من هناك عن نبأ تلغيم الحضرة. الغريب، أن هذه الأمور سارت بلا تدوين ولا رد فعل من الرأي العام، ووجدت الحكومة العراقية ووزراء القوة المتكفلين بحل هذه المعضلة، نفسها، أمام خيارات مريرة، أوصلت مستشار الأمن الوطني موفق الربيعيالى المستشفى بعد أن أصيب بجلطة لم يتحمل قلبه هول ما سيحدث، فيما كان الشعلان وقاسم داود ومن ورائهم اياد علاوي في أقسى درجات الحيرة، فما الذي سيحدث لو فجروا الإمام؟
إدراك مقتدى
والسيد مقتدى الصدر يعلم بأن أحداثا جساما لم تحرك الشيعة في العراق، سواء في ظل النظام السابق أو في أوقات الاحتلال، وكان لابد من عملية كبرى لهز الضمير الشيعي. أما السيد السيستاني فقد أنجز مبادرته على الوتر نفسه، فإذا كان يكفيه وهو المرجع الأعلى إصدار فتوى أو إطلاق مبادرة، فلماذا دعا العراقيين الى الزحف نحو النجف " لإنقاذ الضريح الشريف ".
ليلة مقتدى الليلاء
" فلو فعلنا ذلك " ، لن يبقى للاميركان باقية، وهو السيناريو الأخير للحرب الأخيرة. فالسيد مقتدى يعرف أن هذا السكون الشيعي لم يزحزحه مقتل عمه وعمته: السيد محمد باقر الصدر والعلوية آمنة السيد حيدر الصدر (نور الهدى)، ولم يحدث الأمر بمقتل والده وشقيقيهِ ما زالت تلك الليلة الدامية تؤثر في مقتدى الشاب الذي اندفع مع الشيخ محمد النعماني الى غرفة الطوارئ التي كان والده وشقيقاه ممددين فيها بدمائهم الطاهرة، وشاهد شقيقه السيد مصطفى الصدر مفتوح العينين وأشار نحوه وقد كان حيا، نظر إليه ثم أغمض عينيه من عمق الجراحِ بعدها أخرجوا السيد مقتدى والنعماني بالقوة من غرفة الطوارئ، ولم يرهم أحياء بعدها. وستبقى تلك الليلة الظلماء في ذاكرة السيد مقتدى الصدر الى الأبد، فعندما طلب النظام أن يرسلوا من طرفهم أحد المجتهدين لاستلام المرجع الشهيد (لتثبيت واقعة الموت لا أكثر لدى شخصية دينية معترف بها) حصل ما لا يمكن أن ينساه السيد مقتدى: طرقوا الباب على السيد السيستاني فكلمهم خادمه من وراء الباب وأخبرهم بأن السيد نائم، وعندما أعلموه بأن الأمر ضروري وعليه إيقاظ السيد، ذهب وعاد ليكرر ما قاله إن السيد نائم !! ورفض استلام الجثث أيضا كل المراجع الدينية، فقد رفض السيد حسين بحر العلوم بحجة أنه مريض والسيد محمد كلانتر قال انه كبير السن ولا يستطيع الخروج ليلا والشيخ محمد اسحق الفياض قال بالحرف: لا أستطيع، والسيد علي البغدادي قال إن بيته قريب من المقبرة ولا يستطيع ترك أسرته وحدهم لأنهم يخافون. ولم يطلب الصدريون من السيد محمد سعيد الحكيم ولا من الشيخ بشير الباكستاني (النجفي) وتوقعوا رد آل بحر العلوم لأنهم يدركون سلفا بأن موقفهم الرفض الشديد لأسباب كثيرة: (لا ينسى العارفون بأن الشهيدمحمد صادق الصدر وصف بشير النجفي بأنه 'مفسد' ورفع في واحدة من خطب الجمعة نص كتاب موقع من صدام حسين ألغى فيه عائدية جامعة الصدر في الكوفة من الصدريين وأوكلها بعهدة محمد سعيد الحكيم، متسائلا: من منا العميل للنظام؟! أما موقفه من آل بحر العلوم فقال بحقهم والد مقتدى: الخمس غير مبرئ للذمة إذا منح لبحر العلوم!). في النتيجة قام بهذه المهمة، أي استلام جثة المرجع الشهيد وولديه ودفنهما ليلا الشيخ محمد اليعقوبي ومعه الشيوخ عباس الربيعي وحسين المالكي ومحمد النعماني ومحمد الصافي وعلي الكعبي وعدد قليل جدا من الأخيار.
ذاكرة السيد الشاب
ليس من السهولة على السيد مقتدى الصدر نسيان ما جرى في تلك الليلة، حيث ترك والده السيد والمرجع وشقيقاه في مشرحة أمن النظام ورفضت غالبية المراجع في الحوزة العلمية استلام جثثهم، ومن العسير عليهنسيان الاتهامات التي كان الحكيميون من طهران والخوئيون من لندن والمراجع المذكورة من الداخل ، يكيلونها لأبيه الشهيد مثل 'تعاونه وارتباطاته المشبوهة مع النظام'. هذه وأمور أخرى كتقسيم عوائد المراقد المقدسة وتنظيمها والإشراف عليها، كانت القنابل الموقوتة لصراع 'السادة' على النجف، والتي وجدت الحكومة ومن ورائها القوات المتعددة الجنسية نفسها في قلبها، بعد أندفعتهم أطراف مؤثرة في المشهد السياسي العراقي، دون أن يوضحوا للساسة الجدد ولا للاميركان الغافلين كعادتهم عن فهم التركيبة الشيعية' المعقدة، الى صدام مسلح، كان شعاره من طرف جيش المهدي محاربةالمحتلين ومن الجانب الحكومي ـ الاميركي بسط القانون والقضاء على الخارجين عنه، في وقت يدرك فيه العالمون بالأمور، ان كلا الشعارين، لم يخرج عن كونه شعارا فحسب.
ضد الساكتين
اللافتة التي ترونها في الصورة والمكتوب عليها:'دماؤنا في أعناق الساكتين'، تحولت الى أساس أيديولوجي للحوزة الناطقة التي قادها السيد محمد صادق الصدر، والد مقتدى والتي انتهت بتأسيسهم لأول مرة فيتاريخ المرجعية ما أطلق عليها الصدر الثاني ب 'الحوزة الناطقة'ِ التي أخذ السيد مقتدى، على عاتقه إحياءها كونه درس في الحوزة العلمية مذ كان عمره 14 سنة، أي أن السنوات ال 16 التي قضاها في الدراسة الفقهية والشرعية تمكنه من اجتياز مرحلة 'المقدمات والسطوح والسطوح العالية' حسب التعبير الحوزويِ والصدريون يعدون مرجعهم في التقليد السيد الشهيد محمد باقر الصدر ويرجعون في المستحدثات الى السيد كاظم الحائري، وبعضهم يفضل محمد اسحق الفياض لقربه منهم، أما إثبات الحجة الشرعية فيطول شرحها و 'مرجعية الاستناد' ترجع الى تقليد الشهيد الصدر الأولِان أساس 'الحوزة الناطقة'بناه الشهيد الثاني، ويتابع ابنه السيد مقتدى المعركة التي بدأها والده ضد الساكتين والتي استندت الى أصول مدرسة الصدر الأول. ونظرا لانتشار وشيوع ظاهرة الميليشيات المسلحة للأحزاب التي دخلت الى العراق بعد السقوط، فإن ظهور ميليشيا مسلحة صدرية، كان منطقيا وله أسسه المذكورة.
الصدريون
الصدريون الجدد مقلدو الشهيد الأول محمد باقر الصدر والشهيد الثاني محمد محمد صادق الصدر الذي ولد بعد حكاية مؤكدة فيها الكثير من العبرِفبعد أن يئست والدة محمد صادق الصدر (والد مقتدى) من الحمل، تضرعت أثناء تأديتها الزيارة لقبر النبي أن يرزقها الله بولد تسميه محمدا، وما أن عادت الى العراق حتى ولدت محمد محمد صادق الصدر في اليوم نفسه الذي ولد فيه النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، والإمام جعفر الصادق، عليه السلامِ فتربى في منزل جده لأمه آية الله العظمى رضا آل ياسين وتعلم على يد والده السيد الحجة محمد صادق الصدرِ بعد أن كبرتزوج من بنت عمه السيد محمد جعفر الصدر ورزق بأولاده الأربعة: مصطفى، مقتدى، مؤمل، مرتضى. وعمه السيد محمد باقر الصدر المعروف بعلمه ومدرسته المرتبطة بوالده العلامة حيدر الصدر وجده لأبيه السيد إسماعيل الصدر معلم الفقهاء الشهير والأستاذ الكبير بالأصول، ووالدته ابنة واحد من أعظم علماء المذهب الشيخ عبد الحسين آل ياسين ويعود نسبه الى الإمام السابع موسى بن جعفر الكاظمِوأعمام السيد مقتدى الصدر، هم خيرة أعلام وعلماء المذهب كموسى الصدر وجده صالح شرف الدين وجده الثاني صدر الدين الصدر وقافلة طويلة من العلماء الصدريين بدأها في العراق محمد حسن الصدر وتؤول الآن الى مقتدى الصدر.
الوريث الأخير
ومقتدى لم يكن ابنا عاديا للسيد الشهيد الثاني، بل واصل دراسته، بما يسميه أهل الحوزة كطالب بحث خارجي، الى الدرجة التي أوكل إليه أبيه رئاسة تحرير جريدة 'الهدى'، على الرغم من أنه لم يصل الى درجةمجتهد ولا مرجع مقلد، واكتفى بوكالة المرجع كاظم الحائري وقيادة 'الحوزة الناطقة' السائرة على تقليد عمه وأبيه، لكن بلا مرتبة حوزوية. هكذا إذن، ظهر الصدر الأخير في العراق، على خلفية جيل من العلم والأعلام، المجاهدين والشهداء، أنبل الجيل وأكثرهم رفعة ووزنا وعلماِ وحمله الزمن والمسؤولية وظروف العراق لأن يجد نفسه مرتديا الكفنذاته الذي لبسه والده الشهيد، خطيبا ساخنا، من على المنبر ذاته الذي قدرت الأيام للصدريين حمل لواء المذهب بغياب الخوئيين والحكيميين وسكوت السيستاني وبشير الباكستاني (النجفي) ومحمد اسحق الفياض ومحمد سعيد الحكيم وباقي المراجع الكبار.
البوادر الأولى
بعد سقوط النظام يمكن متابعة الأحداث في المدن المقدسة كالتالي: بعد يوم واحد فقط وفي العاشر من أبريل، اغتيل السيد عبد المجيد الخوئي، وانتهى عرق الخوئيين الى الأبد في المدن المقدسةِ صاحب ذلك مقتل حيدر الكليدار واستلام مفاتيح الحضرة من قبل الصدريين وبقائها لديهم لغاية انتهاء الأزمة الأخيرة. مرت أشهر قليلة جدا من عودة السيد محد باقر الحكيم وتفضيله الصحن الحيدري لإلقاء خطبة الجمعة، بمعنى أن الحكيميين سيطروا مرجعيا على حضرة الإمام علي، لكنه اغتيل في جريمة النجف الشهيرةِ وقبلها بأيامكان المرجع السيد محمد سعيد الحكيم قد نجا بأعجوبة من محاولة اغتيال بعد أن دمرت مكتبه عبوة ناسفة. في غضون ذلك، بثت أنباء عن سيطرة الصدريين على الطرق المؤدية لمساكن كل المراجع الدينية المذكورين أعلاه، الأمر الذي اعتبره السيد مقتدى الصدر محض افتراء، لكن المراجع الكبار كانوا يعانون بالفعل منتواجد الصدريين المسلحين بالقرب منهم وكان الغطاء لذلك حمايتهم. بعدها، وصلت الأمور، الى سيطرة الصدريين العسكرية الكاملة على النجف والكوفة وكربلاء على أساس السببين اللذين أعلنهما السيد مقتدى واللذين قدمنا بهما هذا الكلام: حماية العتبات المقدسة والحوزة العلمية والمراجع، فيما عرف في كل الكوكب بالتسمية التي لا تخلو من معان عدة بـ " جيش المهدي ".
نبض أبريل
لم تكن معارك أبريل هي الأولى بين 'جيش المهدي' والاميركان، فقد سبقها جس نبض متعدد في مواقع كثيرة في العراق، لكن ما دار في أبريل هو جس النبض الذي قصم العلاقة بين الصدريين والسلطة العراقية ومنورائها القوات العسكرية الأجنبية.فمن بدأ المعركة الأولى؟ الذي حصل على الأرض كان بما لا يقبل الشك، تحرش من سلطات بريمر بدفع من بعض أعضاء مجلس الحكم الشيعة، ضد الصدريين، وهنا لابد من التوقف عند بعض النقاط :
1 - ان أعضاء مؤثرين في مجلس الحكم من الشيعة لديهم خلاف تاريخي كبير مع الصدريين، وهذا ما فات بريمر ومجموعة العسكريين وقتها سانشيز وكيميت.2 - ان مجلس الحكم كان يريد استمالة المرجعية العليا وخصوصا السيد علي السيستاني لتمرير مشاريعه السياسية الاستراتيجية، فأرادوا قلع شوكة الصدريين من عنق المرجع الأعلى كتمهيد لإقامة علاقة جديدة تسهل لهم المهمة المذكورة.3 - ولهذا السبب عندما طالب السيستاني بضرورة إجراء الانتخابات وعدم تعيين الحكومة الأولى وحتى الثانية، خرج الصدريون مؤيدين له أكثر من أتباعه بكثير، محاولة منهم لإفشال مخطط بعض أعضاء مجلس الحكم بتحييد السيستاني ومن ثم موقف المرجعية ككل من مشاريعهم السياسية، بما في ذلك قانون إدارة الدولة الذي تحفظ عليه السيستاني وهاجمه الصدريون بقوة.4 - للفقرة الرابعة علاقة وطيدة جدا بـ 'مبادرة السيستاني' الجديدة التي أخرجت الصدريين من المدن المقدسة والتي لولاها لأحرج الصدريون المرجعية أكثر مما فعلوا، عندما تضمنت البند الخامس الخاص بضرورة تهيئة الأجواء لإجراء الانتخابات في حينها.5 - ومضمون 'في حينها'، أن للمرجعية والصدريين على السواء خشية من عدم إجرائها في الوقت المعلن، كتعبير السيد مقتدى بنفسه الذي أوحى بأن هذه الحكومة باقية مع آليات وجودها وسيجدون مبررات لدعم هذا الوجود.6 - ولماذا لا تكون مبررات هذا الوجود معارك وأعمال عنف مع ميليشيات غير شرعية كجيش المهدي. فالمنطق قول إن مبادرة السيستاني كانت تخص مدينتي النجف والكوفة وجاءت لتنقذ النفق المسدود الذي دخلت به الأطراف بعد 'أزمة الضريح'، فما الداعي لذكر موضوع الانتخابات كبند رئيسي في الاتفاق؟! ان القائمون على معارك أبريل يريدون إنهاء الوجود المسلح للصدريين بأي شكل، لكن تشابك الوضع مع معارك الفلوجة وتردد بريمر وقرب تسليم السيادة، وصلابة جيش المهدي وعناده في القتال وعدم دخول الخسائر التي تكبدها في عضده، أي لا الأفراد ولا القيادات اهتمت وتأثرت بالخسائر البشرية والمادية وظل موقفها على ما هو عليه، عندها ارتضت الأطراف بالهدنة. هذه الهدنة منحت جيش المهدي اليد الطولى، ليس في النجف وكربلاء فحسب، بل في الجنوب كله ومدينة الصدر في بغداد.
الشغل الصحيح
كانت الهدنة مع القوة العظمى، مشروع انتصار لدى الصدريين الذين لم يحاربوا بكامل قواهم الكامنة. وفوجئوا بمعارك أبريل التي أجبروا عليها، حيث كنا نراقب ميدانيا كيف كانوا يجمعون السلاح البسيط من السوق المحلية، فأكثر ما كانوا يفكرون فيه، تنظيم مسيرات سلمية لإثبات الوجود ولهز موقف أهل الحكم وتثبيت إدانتهم لتصرفات المحتلين ضد قياداتهم وجريدتهم.
لائحة جيش المهدي
لكن فشل الاميركان في كسر شوكة الصدريين في معارك أبريل، أعطاهم الدافع للعمل المضني والصحيح بين الناس ولتأكيد جملة المبادئ التي أنشئ جيش المهدي لتحقيقها والتي يمكن تلخيصها حسب أدبياتهم وتصريحاتقادتهم بالتالي: - جيش المهدي قوة عراقية مخلصة للدين والوطن والشعب تحقق مطالب الشعب الأمنية ولا تتجاوز حدودها بما يسيء إلى أي مفردة من مفردات الوطن الحضارية والدينية والجغرافية والاقتصادية.- جيش المهدي رد فعل ضروري وطبيعي نتيجة لإخفاق قوات الاحتلال في حفظ الأمن والنظام ونتيجة طبيعية لعدم وفاء الإدارة الاميركية بوعودها وعهودها للشعب العراقي.- جيش المهدي لا تنحصر مهمته لمصلحة السلطات الحاكمة وتأمين مصالحها وكراسيها، بل هو جيش إسلامي مخلص هدفه الحفاظ على بيضة الدين وحماية أمن المواطنين ومد العون للمحتاجين لبناء الدولة.- مادة جيش المهدي المخلصون من أبناء الوطن مسلمين ومسيحيين عربا وكردا، ورايته التي يحملها راية الحق والإيمان والسلام للبشرية جمعاء التي حملها الأنبياء والرسل والأولياء الصالحونِ ولا يسلمها إلا لمنقذ البشرية من الضياع والهلاك الذي يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا.- شعار جيش المهدي: كلا للظلم نعم للعدل، كلا للجهل نعم للعلم، كلا للشيطان نعم للرحمن، كلا للخيانة نعم للوطنية، كلا للكفر نعم للإيمان.
- قيادة جيش المهدي تتألف من المرجعية الصالحة التي تطبق فكر الإسلام المحمدي، فكر أهل البيت عليهم السلام الذي كان رمزا للحب والإخلاص للمؤمنين. و نشاط جيش المهدي: معاونة المحتاج وبناء المهدوم وإعمار العراق ونصرة الحق وأهله وعلى المؤمنين رؤوف رحيم وعلى الظالمين شديد حكيم.هذه اللوائح قدمها أتباع السيد مقتدى الصدر ما ان أسسوا جيش المهدي في يوليو 2003 بعد اغتيال السيد الشهيد محمد باقر الحكيم مباشرةِ والأهداف التي أعلنوها في التعريف بمؤسستهم العسكرية، تقبل الكثير من الجدل والنقاش، والمراجعة، بعد أن أثبتت الأيام فيما بعد، قيمة حوار من هذا النوع وما لجيش المهدي وما عليه، وما الذي حققه من هذه الأهداف وما الذي اتبعه من أساليب، وجدها الكثيرون مناقضة تماما للمبادئ التي طرحوها في تلك الظهيرة الحاسمة من صيف عام السقوط.
علنية جيش المهدي
كان استعراض يوليو أول ظهور علني لجيش المهدي في مدينة الصدر، وكان هذا الاستعراض فاتحة لتاريخ جديد في العلاقة الشيعية - الاميركية في العراق، تلك الفاتحة التي أنهت القول بوجود تحالف ما بين الطرفين. وكان الاستعراض رسالة من السيد مقتدى الصدر لخصومه وأصدقائه على السواء، بأن لديه ميليشيات، حاله كحال الحكيميين في قوات بدر والكرد بتفرعات قواتهم المسلحة وباقي الأحزاب العلمانية بتشكيلاتهمالمختلفة. وكان القرار الذي اتخذه الصدر، أن يكون جيش المهدي بقيادته وعناصره علنيا لا سريا، مستندا الى المدخل الشرعي، بأن' كل العراقيين وكل أبناء المذهب هم أعضاء في جيش المهدي'، نافيا أن تكون لديه أي سلطة على جيش الإمام المنتظر. لم يأخذ أحد من الرسميين العراقيين ولا قوات التحالف وقتذاك هذا الكلام وهذه الخطوات على محمل الجد، وتكمن هنا أسباب المصائب التي انهالت على الجميع في الأشهر الساخنة التالية.
هيكلية جيش المهدي
كانت الشعارات المطروحة أعلاه لنصرة المحرومين وإحقاق العدل، كافية لانخراط المسحوقين من أبناء الجنوب العراقي المضطهد، والمنكل بهم في سنوات القمع الى هذه التشكيلات المستندة إلى تيار يعتبر مقلدو السيد الشهيد محمد باقر الصدر قائده صاحب أشهر وأفضل مدرسة أصولية في المذهب. ولأن أغلبهم ممن تلقوا تدريبات عسكرية محترفة في الجيش العراقي، فلم تكن لديهم مشكلة في بناء المعسكرات وتصنيف القوات، كما أن توفر السلاح المطلوب في السوق المحلية وتحت الأرض من مخلفات أسلحةالجيش، وكرم دول جوار معروفة، قد ساهما في سرعة إنجاز تسليحهِأما الهيكلية، فقد سارت حسب مدرسة الجيش العراقي المنحل وكالتالي: الفصيل (50 - 60 مقاتلا) . السرية (5 – 6 فصائل ). الفوج (6 - 7 سرايا). وحسب معلومات دقيقة حاربت في النجف 45 - 50 سرية بمجموع يتراوح ما بين 15 و17 ألف مقاتل بمختلف الصنوف (الرصد - الهندسة العسكرية - المشاة – القناصة ... الخ ).
وقادة السرايا يتبعون مباشرة هيئة قيادة جيش المهدي التي يشرف عليها السيد مقتدى الصدر مباشرة وهي التي يسمونها القيادة العامة لقوات جيش المهديِ بمعنى أن قادة السرايا وهم القادة الميدانيون على الأرض لا يتصلون مباشرة بالسيد مقتدى، أما أعضاء القيادة العامة فأغلبهم من العسكريين السابقين معظمهم من الضباط المحترفين.
الصدريون السنة !
أول تأثير للأيديولوجيا الجديدة التي استند إليها 'جيش المهدي' بضم سنة ومسيحيين إليه، وهي الدعوات التي تلقتها منظمة بدر والبشمركه مباشرة من السيد مقتدى في واحدة من خطبه، كانت وصول قوافل ضمت نحو 15 ألفا من مدن سنية كالموصل و الأنبار الى الكوفة للصلات خلف السيد مقتدى يوم الجمعة. وكانت اللافتات التي تحملها هذه القوافل في مجملها سياسية، ولم تشر واحدة منها الى طائفة أو مذهب، وركزت على ما أطلقوا عليه وقتها: وحدة الشعب العراقي. وبالرغم من أن الصدر اعتبر هذه 'البيعة ' نجاحا دنيويا لم يسبقه إلى تحقيقه حتى والده الذي سبق أن دعا السنة للصلاة المشتركة، إلا أن ظهور 'صدريين سنة' بهذا القدر والحجم والحماس، لفت انتباه المعنيين العاملين في قصور بريمر وتحت قبة مجلس الحكم الموصوف بالدمية الاميركية من قبل مقتدى الجديد، فكانت شرارة الخطر التي أحس بها قادة العراق الجدد ومنها دفعوا الاميركان للقضاء على مقتدى الصدر بأي طريقة ولو بـ 'مذكرة جوحي' ذائعة الصيت! (هو بذاته القاضي رائد جوحي الذي استجوب صدام).
نضال مشترك
بعد الاتفاق على الصلاة المشتركة وتنفيذها، لم يبق غير 'الجهاد المشترك'، ووصل هذا في قمته يوم قرر القادة العسكريون في سلطة الائتلاف الانتقام من قتلة المقاولين الاميركان واقتحام الفلوجة مطلع أبريلالماضي. وحصل أن التزم السيد مقتدى بالاتفاق، ساعده في ذلك تسرع اميركي - عراقي (رسمي) بإصدار مذكرة التوقيف بحق مقتدى الصدر وقبلها اعتقال الشيخ مصطفى اليعقوبي أحد مساعدي الصدر، المقربين وإغلاق الحوزةوإطلاق النار على المتظاهرين المدنيين وسط بغداد ومدينة الصدر. ساعد الاميركان ومن ورائهم بعض شيعة مجلس الحكم (هم مستشار الأمن الوطني موفق الربيعي الذي ليس له ظهر في العراق غير الاميركان، وعبد العزيز الحكيم الغارق في خلافات موروثة ودموية مع الصدريين، ومحمد بحر العلوم الذي لم يبرئ ذمته والد مقتدى من جباية الخمس)، كلهم ساعدوا مقتدى على الإسراع في تقوية جيش المهدي بأي شكل، والنزول الى الشارع لمقاتلة المحتلين، الذين أسماهم مرة بـ " الضيوف " !!
فدائيو مقتدى
في هذه اللحظات انسل فدائيو صدام وعساكر الجيش العراقي المنحل وضباط المخابرات والأمن الهاربون وغيرهم من خريجي السجون (لأسباب جنائية مختلفة وليست سياسية)، منخرطين في التشكيل القوي والمتسرعالتشكيل تحت راية الإمام المهدي، في ظل فوضى عارمة جدا كانت تعصف بالبلاد.يعترف، بعد فوات الأوان، السيد مقتدى الصدر بوجود ما أسماهم بـ 'المندسين' في جيش المهدي، في وقت أصبح صعبا جدا ليس على الاميركان والقوات الحكومية فحسب، بل على مقتدى الصدر لجم هؤلاء "المندسين ".والدليل، أن هؤلاء المندسين ولغاية لحظة كتابة هذه السطور، يرفضون سماع توجيهات 'القائد العام لجيش المهدي' بترك السلاح والانخراط بالعملية السياسية ولا يزالون يمارسون نشاطاتهم العسكرية والاستخبارية وانتهاك حرمة الناس والبيوت وفرض قوانينهم على أحياء بأكملها حتى في بغداد.
انشطار الصدريين
من المهم الالتفات الى نقطة خطيرة للغاية وهي: ليس كل الصدريين من أتباع مقتدى الصدر وأفرادا في جيش المهدي، وليس كل أتباع مقتدى الصدر وعناصر جيش المهدي ، صدريين ! فالصدريون هم كل من يتبع في التقليد الشهيد الأول والثاني وفي المستحدثات يميلون الى أحد المراجع الكبار الأحياء (فقهيا صحيح).أما 'جماعة مقتدى' ففيهم صدريون وفيهم من لا يصلي ولا يعرف متى يحل رمضان، وفيهم لصوص وقطاع طرق وفدائيو صدام، ومن لم تتحمل رؤيتهم بيوتهم وفيهم.. وفيهم.
الجيش الوردي
ولعل السيد مقتدى قد سمع أو لم يسمع، كيف يصف العراقيون جيش المهدي ليس تندرا كاملا، بـ 'الجيش الوردي'، نسبة الى الكبسولة الوردية التي يتعاطاها المدمنون على المخدرات وحبوب الهلوسة والفاليوم وغيرها من تقليعات العراق الجديد، لكثرتهم في صفوف ميليشياته ولتصرفاتهم التي لا تنطلق إلا من شخص واقع تحت تأثير الكبسولة الوردية.ومن غير المرجح أن أحدا من هؤلاء المهلوسين قد اطلع على لائحة جيش المهدي المذكورة أعلاه، في وقت يتعاطون فيه مرتبات تفوق ما يستلمه رجال الشرطة.
التمويل
انه مشروع تحقيق طويل، تلك الأموال التي تصل الى العراق لتحرك التمردات والحركات المسلحة ومجاميع المجاهدين والمفجرين أنفسهم والذابحين رقاب السواق والصحافيين. لكن ما يهمنا في هذا التحقيق، تلك الأموال التي بنت جيشا قارع الاميركان في معركتين كبيرتين حتى الآن، ويسير فيها مكاتب وإدارات تمتد في ثلثي الأراضي العراقية، ويشتري أي سلاح موجود في الأسواق، ويطبع صورا تفوق ما طبعه الطاغية السابق وغيرها من أموال لا تحصى.فهل يصرف أنصار السيد مقتدى هذه الأموال من الهبات والتبرعات وأموال الخمس؟ وهل تكفيهم هذه الأموال وكلهم محرومون مسحوقون كما نراهم ويقولون عن أنفسهم؟ أم أن في الأموال سرا محيرا؟
زيارة حافلة
الزيارة الأثيرية التي قام بها مقتدى الصدر الى إيران وصف أهدافها كالتالي: زيارة قبر جدي الإمام الرضا وسماع نصائح آية الله العظمى كاظم الحائري. لكنه لم يذكر بأن مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي استقبله استقبال الرؤساء، وقال له بالحرف الواحد: أرى فيك حسن نصر الله العراق! وفاته الانتباه الى أن صور الإمام الخميني انتشرت في المناطق التي يسيطر عليها في العراق بعد هذه الزيارة! وكانت الصور هي الأمر الذي يرى وما خفي كان أخطر، وقبل أن يتطوع ويعلن عن نفسه " اليدالضاربة لحزب الله وحماس في العراق " ، ألم يعرف بأن أعضاء حماس أقاموا مجالس الفاتحة بعد مقتل عدي وقصي ولا يزالون يرفعون صور صدام حسين الذي قتل والده وأخويه ، في تظاهراتهم ؟
اتهامات وأسئلة
اعتاد السيد مقتدى الصدر، الأجابة عن الاتهامات التي توجه إليه وإلى جماعته بالنفي المجرد واستخدام مفردات مثل: افتراء، ظلم، كذب ِِِإلخ، لكنه لم يتعمق أكثر ويحاول تفنيدها بالحجة مقابل الحجة. فالسيد مقتدى متهم بالتورط بتصفية المراجع الدينية ومقتل السيد عبد المجيد الخوئي، وجماعته متهمون بمساعدة قوات القدس التابعة لحرس الثورة الإيرانية بتدبير اغتيال محمد باقر الحكيم بعد رفضه لعب دور إيراني في العراق وانزوائه للبحث والعلم. وثمة اتهامات بأن الإيرانيين يوظفون مقتدى لإحداث انقلاب على شيعة العراق لصالح شيعة إيران، كونه -أصلا - وكيلا لأحد مراجع قم السيد كاظم الحائري ومن خلال هذا 'الخط' ومن خلال تصرفات جماعة مقتدىالتي تمعن في إهانة المراجع الكبار حتى لم يسلم منهم السيد علي السيستاني الذين حاصروا بيته واعتدوا عليه أكثر من مرة، بحركات يراد منها إزالة الهيبة عن حوزة النجف لتصب في النهاية في حوزة قم.وهكذا فإن مقتدى الصدر شاكس الجميع: أطلق على مجلس الحكم مجلس الكفر وتبرأ من حكومة علاوي الى يوم الدين، ودان صمت المرجعية مرارا ويجيش الجيوش لمحاربة القوات الأجنبية في العراق. بمعنى آخر، ان مقتدى الصدر تبنى الموقف الإيراني الكامل مما يحصل في العراق، وجوهر آخر، أنه عادى الجميع، حتى أولئك الذين نجحوا في تنفيذ 'المشروع السياسي الشيعي' بعد تهميش للمذهب دام 1400 سنة.
انشقاق الصدريين
هذه الأحكام والتصرفات أدت الى انشقاق الكثير من الصدريين عن السيد مقتدى، بدأها الشيخ محمد اليعقوبي ( الآنف الذكر) الذي كان يدير مكتب الشهيد الصدر المركزي في عهد والده ومن ثم في عهده، مؤسسا ما أطلقعليه 'حركة الفضلاء' وهي تنظيم حوزوي فكري ثقافي يتم التعاطي فيه بالسياسة ولكن بشكل سلمي للغاية. ومن ثم نشوء حركة محمد سعيد الصرخي الحسني (من داخل الرحم الصدري) الذي ادعى الأعلمية وساند حركة الفلوجة، ولكنه على خلاف مع حركة اليعقوبي (على الرغم من أنه عديله ِ متزوجين من شقيقتين). أما علاء البحراني الغريفي فقد التزم الصمت وبدأ يميل في الآونة الأخيرة الى مرجعية السيد محمد سعيد الحكيم، فيما يعتكف الشيخ علي البغدادي في مكتبه الصغير في النجف بدون ضجة ولا يمارس غير تعليم مريديه وطلاب الفقه والشريعة. وبهذه الانشقاقات، يكون السيد مقتدى الصدر، الوحيد من الرعيل الأول الذي عمل مع والده، رافعا راية الصدريين الأوائل.
حاشية مغمورة
لكن أهل العلم والمعرفة بالصدريين يؤكدون، أنهم لا يعرفون شيئان مهمين لكل من يدعي المشيخة والأعلمية والاجتهاد ممن يحيطون بمقتدى الصدر الآن، تحت مسميات مختلفة: مدير مكتب، مساعد القائد، الناطق الرسمي ... الخ. والأمران المهمان غير المعروفين بهؤلاء المحيطين بالسيد مقتدى هما النسب والانحدار، والتحصيل الدراسي. وبدون ذكر الألقاب والأسماء، فإن من هو مطروح منهم في الآونة الأخيرة ، كانوا مجرد طلاب في المراحل الأولى في الحوزة العلمية في أحسن الأحوال، ويبدو أن اعتماد السيد مقتدى الصدر عليهم في المسائلالحساسة والاستراتيجية، يسجل كواحد من أخطائه المتتابعة، التي من الصعب تجاوزها في هذا المقام.
الخط الأحمر
عندما أعلن السيد علي السيستاني النجف خطا أحمر، فهو لم يعلن ذلك على الاميركان فحسب، بل على جيش المهدي بالدرجة الأولى. فالاميركان عندما دخلوا النجف أيام 6 و 7 و 8 و 9 أبريل 2003 خرجوا منها مباشرة ولم يدخلوا الحضرة الحيدرية التي تحصن بها من كنا نسميهم وقتذاك 'المتطوعين العرب'. لم يعتبر السيستاني النجف خطا أحمر، إلا بعد أحداث أبريل التي دارت فيها معارك طاحنة بين جيش المهدي والاسبان والاميركان والبولونيينِخط السيستاني الأحمر لم يعترف به جيش المهدي، ووصل الأمر الى تطويق دار المرجع الأعلى، بحجة أن المكلفين بحمايته هربوا. وإذا كانت حماية السيستاني قد هربت بالفعل، فممن هربت ولماذا؟ ولماذا قرروا قسطرة قلب السيستاني قبل بداية معارك النجف الأخيرة بساعات؟ لماذا ترك السيستاني النجف قبل ساعات من اندلاع المعارك فيها؟ تركها بعد أن أدرك أن الجماعة في جيش المهدي سائرون الى إحداث عملية كبرى، ووجوده في النجف سيزيدها تعقيدا وسيعطيها الشرعية ولو بالإجبار وباستخدام وسائل مضللة. ولم يدفعه الى العودة السريعة، غيرالإدراك بأن الحريق اقترب بالفعل وسيطول الإمام علي هذه المرة.
كسب الود
بعد هدنة أبريل، حاول القائمون على جيش المهدي تنفيذ ما وعدوا به من خلال لائحتهم المذكورة أعلاه. وبغض النظر عن الأهداف الحقيقية، وفيما إذا كانوا يقيمون حواجز التفتيش ويسيرون الدوريات المسلحة 'لغرض مساعدة الشرطة على استتباب الأمن' كما قالوا (ثمة رأي يقول ان ذلك نوع من استعراض القوة وإثباتفرض السيطرة وتحديد هوية صاحب البيت)، إلا أنهم بالفعل قاموا بإلقاء القبض على بعض اللصوص وأفشلوا بعض محاولات تهريب المخدرات وسلموا المجرمين الى الشرطة وأحيانا كانوا ينفذون بهم 'الأحكام الشرعية'
ويعدمونهم على مرأى الناس، الأمر الذي لم يعلنه أي مسؤول. وكان اتفاق ما بعد الهدنة، قد حدد العلاقة بين الشرطة وعناصر جيش المهدي، متفقين على عدم تعرض أحدها للآخر. غير أن حادثة واحدة مظهرها بسيط حصلت بين شرطي وفرد من أتباع جيش المهدي، كانت شرارة اندلاع معركة النجف الكبرى؟ فهل يجوز للمنطق الإقرار بأن هذه الحادثة العرضية واليومية في الشارع العراقي، يمكنها أن تؤدي الى حريق النجف، أم أن كل العوامل كانت قد مهدت أصلا، لنشوب النار؟
المعركة الطويلة
كان قرار قيادة جيش المهدي (أو من دفعهم الى ذلك)، تحويل معركة النجف الى حرب استنزاف طويلة الأمد، مع استثمار كامل لـ 'العوامل المقدسة' وتدخل الدول والأطراف المعنية بالمقدسات وغيرها من استراتيجيةوضعت ل'فتنمة' النجف وكربلاء والكوفةِ ولتحقيق هذا الهدف، استعد جيش المهدي لهذه المعركة منذ أشهر ولم تندلع النار بمصادفة الحادث العرضي المذكور الذي وان حصل، فهو متعمد. تعزيزا لذلك، لابد من الإشارة الى أن الكمية الهائلة من الذخيرة والسلاح التي كانت في المدينة القديمة والأحياء المطلة على الضريح وفي الضريح نفسه وآلاف المسلحين الذين رقدوا مع الأموات في مقبرة وادي السلام، كانت كافية لهذه الحرب الطويلة الأمد، ناهيك عن الجهود الضخمة التي بذلت من أجل إيصال الرجال والسلاح والعتاد لهذه المواقع.
تكتيك عال
لقد استخدم قادة جيش المهدي الميدانيين تكتيكا عاليا درسوه وتدربوا عليه في الجيش العراقي واستثمروا كل العوامل المساعدة في هذه المعركة، لذا فهم ليسوا قليلي خبرة و " رعاع " كما قيل عنهم، لأنهم أفلحوا في تنفيذ خطط حرب مدن وشوارع في منتهى الدقة والحرفنة، الأمر الذي زاد من صعوبة القوات المقابلة وأحرجها ودفعها الى فقدان صوابها باستخدام أسلوب التدمير الشامل وهو ما لحق بالمدينة في النهاية. ويمكن تلخيص التكتيك الذي اتبعه جيش المهدي في إدارة معركة النجف (وباقي المدن كالصدر مثلا) بالمهام والخطوات التالية التي لا تقبل الشك في أنها خبرة أناس عهدوا القتال وامتهنوا العسكرية:- الحرص على زرع جواسيس لدى الطرف المقابل للحصول على معلومات التحركات قبل وقوعها ودرجة استعدادات الطرف الآخر وأماكن تجحفله وطرق إدارته وتوزيع قطعاتهِ (الاميركان استخدموا الأمر نفسه ولديهمجواسيسهم بالمقابل في جيش المهدي، وعندما كانوا يدخلون في شارع يعرفون أين زرعت العبوة الناسفة وأي منزل أو موقع مفخخ!).- استخدام السراديب داخل المدينة ومقبرة وادي السلام على أفضل وجه، الأمر الذي عقد من مهمة الاميركان كثيرا، لاسيما التفريق بين الأحياء منهم والأموات.- توظيف بعض الأهالي الذين يتنقلون بحرية ومن خلال الحواجز الاميركية كالأطفال والنساء لمعرفة ما يجري في الطرف المقابل.- استخدام أجهزة الاتصالات الحديثة والتي باتت متاحة للجميع في العراق كالموبايلات (لا نعرف لماذا لم يغلق الأميركان هذه الشبكة خلال المعركة!!). فمثلا، كان قادة الفصائل والسرايا والأفواج على اتصالمستمر مع بعضهم البعض، الأمر الذي لم يتوفر في معارك ابريل الماضي وتلافوا هذا النقص في المعركة الأخيرة.- استخدام الماطورسيكلات أو الدراجات النارية التي تسهل حركتها في أزقة ضيقة ولها مناورة مدهشة في مثل هذه الأحياء المكتظة بالبيوت للمراقبة والرصد وكذلك لتنفيذ هجمات بالهاون وإطلاق الصواريخ المحمولة على الكتف ومن ثم مغادرة المكان حالا (لأول مرة في الحروب استخدم النازيون الدراجات النارية لفرق الاستطلاع وأجاد حرس الثورة استخدامها في الحرب العراقية - الإيرانية).- تنفيذ طرق التمويه بشكل فعال، فمثلا، تهاجم مجموعة من أربعة أشخاص مواقع اميركية ( بما يسميه العسكريون المشاغلة ) ، ومن ثم تنقض المجموعة المكلفة بالهجوم من جهة أخرى، لتظهر ثالثة مهمتها التغطية وهكذا.- تطوير الحرب الإعلامية بالإكثار من' الناطقين الرسميين' لتهييج الرأي العام الإسلامي والعالمي والمحلي عبر قنوات متفق عليها ومن خلال أجهزة هاتف مملوكة للاميركان!!- تصوير خسائر الاميركان والعمليات الناجحة التي ينفذها جيش المهدي، أدى الى إرباك القوات الاميركية وأدخلها قسرا في' الحرب الإعلامية'، الأمر الذي أدى الى إهدار وقتها وجهدها ونفوسها بحرب جانبية، كإخلاء الخسائر من معدات وأفراد، ومعروف كم من الصعوبة سحب دبابة او عربة مدرعة من ساحة المعركة في حرب المدن.- ابتكار طرق جديدة في التفخيخ، كاستخدام الحيوانات (ليست جديدة تماما فقد استخدمها على نطاق محدود مقاتلي طالبان)ِ فكانوا يفخخون الكلاب والحمير وينتظرون وصولها الى المواقع الاميركية لكي يفجروها عنبعد.- من المرجح أنهم فخخوا جثث المدنيين والشرطة، حسب أقاويل شهود عيان، لكن هذا الأمر غير مؤكد.- لأول مرة يزرع أفراد جيش المهدي الطرق المؤدية الى مواقعه بالألغام الأرضية المضادة للأشخاص والدروع وهذا تطور كبير في نشاطهم العسكري.- لانعدام الكهرباء شهدت معركة النجف أطرف المواقف عندما كان يخصص جيش المهدي مولدات للكهرباء لشحن بطاريات العبوات الناسفة عن بعد!
ضحايا وجبات الهامري
الناس الذين حوصروا بين نارين أو أكثر، تضوروا جوعا وعطشا، ولم يكن أمام الاميركان والحرس الوطني، غير تقاسم وجباتهم معهمِ فقد كانت عربات الهامري الاميركية تنقل الطعام الخاص بالجنود الاميركانالمعروف بـ 'وجبات الهامري' وكالمعتاد يتجمع الناس ليأخذ كل ذي رزق رزقه. ومن الطبيعي أن يراقب أفراد جيش المهدي هذا المنظر الذي لا يحسدون عليه، فهم يقاتلون الاميركان من أجل هذا الشعب الذي يذهب الى الاميركان ليتقبل مساعداتهم. هذا الفهم والموقف، أدى الى أن يقرر من قرر في جيش المهدي، قصف هؤلاء المدنيين، أصحاب النفوس الضعيفة الذين يتسولون من الذين يحاربونهم، وقرروا عمالة هؤلاء الجياع المحصورين ببيوتهم بسببهم، ونفذوا حكم الإعدام بهم بغض النظر عن كل شيء!
تنظيم المعارك
لأنهم من أهل البلد، فلا يبالون بقيظ منتصف النهار، لذلك ينشط أفراد جيش المهدي في الظهيرة، أي بعد الساعة الواحدة ظهرا ولغاية الخامسة عصرا، وهي الأوقات التي يكسل فيها الجنود الاميركان أو يهجعونللراحة أو اتقاء نار الشمسِ بينما ينشطون ليلا، أو في المساء، فتجهيزهم وسلاحهم يساعدهم على تأدية الأعمال العسكرية الليلية على العكس من الطرف المقابل الذي لا يمتلك غير مشاعل (قذائف) التنوير. وعلى العموم، فقد تميز الأسبوعان الأولان من معركة النجف، بتحديد القوات الحكومية - الاميركية على نشاط جيش المهدي العسكرية، أي اقتصر عملهم على الرد فقط لدى رصدهم تحركات أو تعرضهم لهجمات، ومن المعروف أن الرد كان بقدرة نارية كبيرة، فقد كانت قذيفة الدوشكا العادية تخترق ثلاثة جدران دفعة واحدة، لذلك لم ينفع دائما الاحتماء بالمباني والجدران، ففضل أنصار الصدر الغوص أعمق في الأرض عندالسراديب.
مقبرة المحكمة
حاولت القوات الحكومية، في اللحظات الأولى من استلامها النجف (المدينة القديمة والضريح وما حوله) ، الاستمرار بالحرب الإعلامية وتشويه صورة جيش المهدي بوضع بعض قناني الخمر في مواقعهم واتهامهم بفتح مقابر جماعية لخصومهم وللمدنيين والشرطة. وكانت أزمة الجثث - التي عثر عليها أفراد الحرس الوطني والشرطة في قبو تابع لما أطلق عليه 'المحكمة الشرعية'، وهي دار قديمة جدا تقع في زقاق مطل على الحضرة الحيدرية، استخدمها أتباع مقتدى الصدر فيمحاكمة الخلق وفق الشريعة - واحدة من حلقات 'الحرب الإعلامية' التي يصعب تصديق سيناريو الجانب الحكومي أو الصدري في غضونهاِ وزادنا حيرة ذلك الحوار الذي تم بيننا والشبان المتجمهرين عند بوابتها. فقد انبرى أحدهم للدفاع عن جيش المهدي وأن هذه الجثث كانت لفلان ولفلان واستمر بذكر أسماء من قال قادة جيش المهدي بأنها لقتلاهمِلكن في غضون هذا الدفاع، تطوع شاب آخر وأخبرنا بأنه قبل ساعات فقط، حمل 6 جثث لشرطة عراقيين كانوا معدومين وملقاة جثثهم في السرداب. وكادت معركة بالسكاكين تنشب بين المدعين، لولا سحبنا لمحامي جيش المهدي خارج المنطقة، لكون المجموعة كلها كانت ضده، وارتأينا إنقاذ ولو شخص واحد من جيش المهدي فيما تبقى من لحظات المواجهة التي لا يمكنالتكهن بمصيرها وآفاقها.