الأربعاء، 27 فبراير 2008

د. جمال حسين علي يتحدث عن حرب الصحافة وصحافة الحرب











جريدة المدى - أجرى اللقاء : وارد بدر السالم




عندما غادر القاص جمال حسين العراق في جو خرج من أتون حرب مأساوية ، كانت في جعبته ثلاث مجموعات قصصية وثلاث روايات ؛ غير أن متغيرات الحياة الكبيرة ، وهو يعيش في الاتحاد السوفيتي السابق ،حوّلت اهتمامه من القصة الى الصحافة ، وبالذات صحافة الحرب التي انغمر فيها كلياً وهو يسجل وقائع الحروب في أفغانستان والشيشان والعراق وغيرها . وظل جمال حسين علي يطور أدواته الفنية عبر هذه النافذة الشاقة ، متنقلاً من حرب الى حرب.وخلال هذه المشاهدات العيانية في ميدان الحروب والسياسة التي تصنع قراراتها بهذا التبرير أو ذاك ، أصدر العديد من الكتب منها : كتاب "القادة السبعة" عن قادة الاتحاد السوفيتي / مؤسسة البيان / وكتاب "الإسلام في روسيا"وكتاب "الكرملين وأزمة الكويت" عن دار القبس،وكتاب "افتتاح ثقب الإبرة" وهو كتاب ميداني عن حرب أفغانستان التي عاشها الكاتب لحظة بلحظة والذي صدر مؤخراً في (أبو ظبي)، وكتاب "مذبح الأزهار" عن تجربته في إقليم كردستان، وكتاب الشيشان "نهوض الجحيم" وكتاب "لوح الأفول الأول" عن العراق..هذا اللقاء الطويل عن تجربة المراسل الحربي :

^ عملت مراسلا حربيا في النقاط الساخنة في الساحة السوفيتية السابقة ، هل تحدثنا عن تلك المناطق وتجربتك فيها ؟

-كانت مناطق حروب ، وأكثر من ساخنة ، علاوة على أنها غير تقليدية ، فالعمل الصحفي هو انعكاس للحرب وطبيعتها كما سنسوي الأمر مع حروب ، وجدنا التجارب الماضية فيها لا تنفع. فكما تتطور الحروب ، لابد وأن يتطور معها الإنجاز الصحفي. فلم تكن تجارب حرب أرمينيا وأذربيجان والحالة في سوخومي وحربها مع جورجيا ، تشبه ما حصل في الحرب الشيشانية. فقد كانت المعارك الأولى بين ميليشيات ظهرت بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وكلها تستخدم الأساليب والأسلحة وحتى الملابس واللغة نفسها ، ولا تكاد تميز فيما بينها ، بينما كانت الحرب الشيشانية مختلفة في طبيعة القدرة النارية الهائلة التي كانت تصب على نقاط التماس من جهة، وعلى المدن المأهولة بالسكان من جهة أخرى. أعقبت تجربة حربين في الشيشان ، ما جرى في الحرب الأمريكية ضد أفغانستان، وكان الوضع هناك يعد انقلابا جذريا ، ليس في الحرب وحدها ، بل في كل ما يرتبط بها ، بما في ذلك التغطية الصحفية.

* وما الذي اختلف معك في هذه الحرب ؟

- كل شيء تقريبا، فالأمريكيون كانوا يسمحون للصحفيين بتغطية كل شيء عدا الأنباء ! فحرب الإعلام كانت واحدة من أهم عوامل نجاح الطرف المهاجم. وبغياب الفعاليات العسكرية التقليدية انشغل القائمون على التحالف الدولي والمحلي بإدارة هذه الحرب ودعمت القاصفات الأمريكية في دخول قوات التحالف المدن تلو الأخرى بدون قتال. وتطلبت حرب الإعلام من الأمريكان حجز الصحفيين في مخازن أو خيام أو أية مصيبة أخرى على خروجهم للحرية وتصوير مواقع مدنية مقصوفة أو جريح أمريكي أو حطام طائرة أمريكية أو أسير من القاعدة … الخ . كانت هذه الصور من أكبر المحرمات وقد تفقد حياتك لقاء لقطة واحدة. وحتى بعد استقرار الوضع يمكن لصدرك تلقي رصاصة جندي دولي مرعوب ما أن تشهر كاميرتك بوجهه حتى داخل كابول.من المفهوم جدا حساسية العسكريين الأمريكان من الصحافة وخاصة بعد الدور الذي لعبته في الحرب الفيتنامية. ولكن الحزم والقيود الأمريكية بلغت حدها الأقصى في الحرب الأفغانية لدرجة أن من المستحيل في الأيام الأولى أن تتحدث مع أي أسير حتى لو كان أخرس !* كيف عملتم في أفغانستان ؟ - أن القاعدة الذهبية الأولى التي خرجت بها من هذه الخطى : اذهب إلى الحرب قبل وقوعها. والثانية : استثمر كل ثانية وفرصة وابتكر عيوناً إضافية وتلقف كل الشارات والإيماءات. والثالثة : عمّر روحك بالصبر وجيوبك بالنقود وحقيبتك بكل ما يحتاجه إنسان على سطح القمر ، فالمال لا يصنع الحرب على حد فهم الفرنسيين ، بل الإعلام أيضا. والعمل والنوم مع الشمس ، تماما كحال الأزمنة الغابرة.

* وكيف سارت الأمور معك بصفتك مراسلاً حربياً عربياً ؟

- الأمريكيون بصفتهم قادة معظم الحروب المعاصرة ، عنصريون جدا حتى في تعاملهم مع الصحافة ويفضلون الأقربين بالمعروف والمعلومة ويهيئون لهم كل الظروف المناسبة ، أما الأفغان أو غيرهم ، فكانوا يفضلون الأمريكان والإنكليز واليابانيين وباختصار كل من يدفع أكثر. وأكثر ما أثار دهشتنا في الحرب الأفغانية أنها حتى منتصف تشرين الثاني 2001 وقبل سقوط مزار شريف ، تحولت الى كرنفال عالمي بغياب حرب حقيقية. وطالما قطع المئات من الصحفيين آلاف الأميال فلابد لهم من الكتابة عن حرب ، أي حرب حتى لو يتم تأليفها. فمثلا ، قناة بي بي سي استأجرت قرية !! نعم استأجرتها بكل بيوتها وسكانها ومختارها ونسائها وأطفالها ورجالها وهوائها وطقسها. لماذا ؟ يصورون الأطفال في مدرسة وهمية ، بعدها يلعبون ، اجتماع طارئ لوجهاء القرية ( يقولون في التقرير وجهاء التحالف الشمالي ) ، عمال يبنون غرفة من الطين ، نسوة يستخرجن الماء من بئر ، مداعبة حيوانات سائبة ، إعداد الخبز والطعام ، طبيب لا يمتلك شهادة تمريض يفحص أشد أمراض الدنيا فتكاً … وهكذا يعملون من كل مادة تقريرا يوميا لا يحتاج المراسل سوى بضع ثوان يقول ما لديه عن سير المعـــارك في الـ " ستاند أب " ،،، ومن لا يصدقه بأنه في أفغانستان والشركة التلفزيونية الأمريكية الأشهر سي أن أن عملت الشيء ذاته في بانشير حيث استأجرت القرية التي كان مسعود يعيش فيها. غير أنها نشرت مراسليها في كل مكان في الشمال الأفغاني ولم تكتف بعرض (ريبورتاجات) القرية الوحيدة.

* هذا من ناحية الفضائيات وماذا عن الصحافة المكتوبة ؟

- عمل الوكالات تطور وتغير في هذه الحرب، فلم تكتف الوكالة الفرنسية المعروفة بمراسل أو أثنين ، فقد وزعت 16 مراسلا في كل الشمال الأفغاني وكانوا ينقلون الأخبار الى قاعدة الارتكاز في دوشنبه. وكل مراسل مزود بالعدة الضرورية ليبقى على اتصال بالثانية مع القاعدة الرئيسة. وتكمن مهمة قاعدة دوشنبه في تصفية الأنباء وبثها للمركز الرئيس. أي أنهم عملوا كهيئات الأركان العسكرية بالضبط. ومن بدون ذلك لا يمكن اللحاق بمجريات الأمور ، لا سيما أن انتقال أي مراسل من مدينة أفغانية الى أخرى قد يكلفه جهداً ومالاً ووقتاً غير معلوم.

* وكمراسل حربي عربي ما الذي كنت تعاني منه في أفغانستان ؟

- المشكلة أنهم جميعا ، أي الطرفين اللذين وقعنا في مساحتهما العسكرية وهما التحالف الشمالي والأمريكيون ، يكرهون العرب جدا. بالنسبة للأمريكيين الأمر عنصري ومعروف ، أما بقدر تعلق الأمر بالأفغان الشماليين فقد كان صحفيان عربيان وهميان قد اغتالا أحمد شاه مسعود أثناء وصولنا الى هناك وقبل أحداث ايلول بأيام قليلة جدا ، أضف الى ذلك بنية " القاعدة " المشكلة أساسا ممن يسمونهم " الأفغان العرب " والكره الذي يكنه الشماليون لطالبان والقاعدة ، ألحقونا به. فقد مرت حوادث فظيعة كدنا نفقد فيها حياتنا بسبب وضعنا " العربي ".

* ما الذي ينقص مؤسساتنا الإعلامية العربية للتقدم في مجال تغطية الحروب أو تقديم مراسل الحرب ؟

-ينقصها أهم شيء وهو الإدراك والفهم . فمراكزنا الإعلامية تعتمد على الوكالات والمؤسسات الإعلامية الأجنبية ولا تستطيع خلق مراسل حربي نموذجي ، بالرغم من أني عملت بالقرب من كل وسائل الإعلام الموجودة في الكوكب ولم أشعر بان أياً من ممثليها يتفوق علينا بشيء ، إلا بالإمكانيات التي كانت مؤسسته توفرها له ، وهذه أيضا تغلبنا عليها في الحروب التي تلت أفغانستان. لقد وجدت الأسماء اللامعة من الصحف والوكالات الألمع عاديين جدا وسبقتهم في الكثير من التقارير والتحقيقات الصحفية.

*ما التقارير التي تعتقد بأنك حققت فيها سبقا صحفيا ؟

- كثيرة للغاية ، فمثلا ، في أفغانستان موضوع المتاجرة بالعرب وليس تحديدا " عرب القاعدة " نشرته النيوزويك بعد ما نشرته في " القبس " بسنة كاملة ، وكنت أول من يدخل الى سجن فيه مقاتلو القاعدة في مزار شريف ونشرت تقارير مصورة كاملة عنهم وكذلك أول من صور ظاهرة صلب العرب في كابول ، نعم ، كانوا يصلبون العرب لأسابيع ، ونشرت تحقيقا مصورا عن هذا الأمر بعد أن اشتريت عربيا مصلوبا ودفنته . وكنت المراسل الحربي الوحيد الذي دخل الى قواعد طالبان والقاعدة وصور ما يدور فيها ، وفضحت تقاريري ما جرى من إعدام للأسرى في قلعة جانغي الشهيرة وغيرها ، هذا من ناحية العمل في أفغانستان ، أما تقارير السبق الصحفي في الحرب الأمريكية ضد العراق ، فلم تكن قليلة ، فقد صورت ونشرت تقارير مصورة عن حرب التجسس في شمالي العراق في أوقات كان النظام العراقي لا يزال موجودا ولم يتحدث أحد عن تغلغل المخابرات الأجنبية هناك بالرغم من أني وصلت الى كردستان عن طريق التهريب أيضا ، كذلك التقرير المصور عن كيفية إدخال المعدات والأسلحة الأمريكية الى شمالي العراق عن طريق شاحنات مدنية، لأنك تتذكر أن البرلمان التركي رفض دخول القوات الأمريكية الى العراق عن طريق الأراضي التركية ، لكن بعد اجتماع باول وغول ( وزيرا خارجية تركيا والولايات المتحدة ) قررا تنفيذ هذه اللعبة ، ولكني كنت هناك وصورت عملية الجسر العسكري البري عن طريق الشاحنات المدنية ، ولدي مئات الصور عن هذا الأمر .. ماذا أحدثك عن قدرة المراسل الحربي العربي؟ اعتقد أنها كافية جدا وأثبت أننا تفوقنا عليهم كثيرا جدا في عشرات التقارير لكن مغنية الحي لا تطرب كما هو الحال في الأدب والعلوم والفنون وغيرها ، هذه مشكلتنا وليست مشكلتهم.

*وكيف سيكون دورك كمراسل حرب وهذه المرة في بلدك العراق ؟

-دورنا ، كمراسلي حرب ، التعجيل بسطوة التاريخ الذي لا نتنازل عنه إلا بالموت ، وما أخفــّه علينا حينئذ وما أسهله وما أحلاه ! فليست لدينا معطيات إلكترونية عن عدد الذين أبادهم الإلكترون في العراق ولا عن دقة التصويب ولن نجادل في العدد ، بضع مئات ، أو أقل أو أكثر ، لأن رواياتنا تكفينا ، فهي الجرائم التي افترض ارتكابها في كل زمان ومكان. من هنا لا ينبغي تسمية القتلة منتصرين ، فالظفر لا يكون بالدماء ، كالصرخة التي أطلقها همنغواي : " لقد تمادى العالم في مفاسده ". نفهم واجبنا الحربي وحتى المهني ، بسد الطريق الوحيد الذي تؤدي إليه الحرب ، وهذا الدرس الذي لقننا إياه همنغواي في كل أعماله وكذلك ريمارك وجورجيو واستورياس وماركيز وأراغون وإيلوار وغيرهم من صانعي مفردات التاريخ المحرض. أن المنتصرين وأن استطاعوا الاستيلاء على السلطة فهذا لا يعني نجاحهم ، فصدام وهتلر وموسيليني وبينوشيه وستالين بقوا الكثير من السنوات فيها ، لكنهم لم يودعوا الى التاريخ المظفر. وعندما يتحدث زعيم غربي عن " المعركة التاريخية " فهو يعول فقط على اللامبالاة العامة والإفلات من القصاص ، فمعركته التاريخية يفترض أن تكون في دبلن وليس في الفلوجة أو النجف او في مدينة الصدر ! ألا يحق لنا طرح مثل هذا السؤال العصري؟! كم من الأموات يمكن لتربة العراق أن تضيف حتى يتأكدوا من انتصارهم ، وهل ينبغي أن تكون أعمار أطفالنا محددة بالوثائق والخطط العسكرية الإلكترونية ؟!

*لماذا تهتم بالصورة في إنجاز التحقيق الصحفي ؟

- للصورة ، مهنيا ، قيمة وثائقية كبرى تتحدى وتتجاوز النص المكتوب لأنها ببساطة لا تكذب ولا تهوى الإنشاء ومداعبة الكلمات ولا تخترع المصادر التي لا تريد الإفصاح عن نفسها. الصورة غير ملثمة ولا تقبل التطريز ، وهي ضمان تقديم الموضوع والدخول فيه من أوسع أبوابه ، وتمارس دورها في توسيع أفق القارئ وتأخذ بيده الى ناصية الموضوع. وصدقها ليست مصادفة ، بالرغم من أن المصادفة ولدتها كما يبدو الأمر ، هي مؤلفة ومنسجة قبل التقاطها ، لأن وصول المصور الى المكان بداية لتأليف ألوانها وأطرها وشكلها. ووصول الصحفي الى المكان أعلى قيمة في التقرير الصحفي ، لأنه الهدف وجمع المعلومات الكاملة والنية في المفتتح. والصورة الصحفية سريعة ، أي أنها تقودك الى الهدف بأسرع الطرق وأقصرها وتكرس كل المعطيات في ذهن المتلقي في وقت أقل.

*وعن صورة الحرب ؟

- هي الصورة الجيدة ، التي تفتح كل الآفاق لصور أخرى ومواضيع أكثر كالفكرة المبدعة الأصيلة الملبية للمتطلبات المهنية القصوى. وهي في حالات كثيرة تتجاوز النص وإن يبقى للكلمة الفيصل النهائي. وبقدر تعلق الأمر بالحرب في العراق والوضع فيه ، فهنا لا يمكنك التوقف في الحدود الجمالية للصورة ، قدر التقاطها في أقل جزء من الثانية وترك المكان في أسرع وقت لأنك ستتعرض لإطلاق النار شئت أم أبيت. عندما دخلنا مرة موقعا كان الأمريكان يتخذونه في أحدى المناطق المعزولة ، لم يكن الوضع متوترا كما هو عليه الأمر الآن ، لذلك لم نقتل مع السائق ، صورناهم من السيارة وأدرناها ، لكن أسلحتهم كلها كانت مصوبة نحو السيارة ، لم يطلقوا النار فقط ، لأنهم لم يطلقوا النار ونجونا بأعجوبة المصادفة. كانت هذه الحركة خاطئة جدا وفيها جسارة تقترب من الحماقة وما كان ينبغي أن تقع ، وأضافت الى خزين الخبرة. نقصد هنا تلك الخبرة التي تبقيك على قيد الحياة. وثمة صور لا ينبغي أن تضيع وقتك عليها ، كتصوير المباني العامة المحروقة ، فعندما تدخل الى مدينة كلها محروقة ، لا تستطيع الترجل عند كل بناية ، فماذا تفعل ؟ تصور المباني المعروفة والمؤسسات المشهورة ، تأخذ لها كادرا عاما فالتفاصيل سيأتي وقتها ما أن يستقر بك التحقيق الصحفي وعم تتكلم. والأفضل التركيز على البنايات المتحركة ، أي تلك التي تشب بها النيران الآن أو تلك التي تسرق ، أو التي يحيطها الجنود والآليات العسكرية ، فصورتها ستكون ناطقة متحركة ، متحدثة ، لا تفرض النص. وإن تابعت المحاذير التي أغلبها يؤدي الى القتل ، فأنك ستخالف قاعدة مهمة في العمل الصحفي وهي : " ضرورة إيداع الصورة واللقطة في جو الحدث ". فكيف تمزج بين " تطور الحدث " و أجوائه العامة ، ومتطلبات الأمن لقـوات لا تعرف الشفقة لا بـالصورة ولا بالمصور ؟!