الأربعاء، 27 فبراير 2008

صراع جديد على الضريح







النجف - د . جمال حسين علي

طوال أسابيع قاهرة، طويلة ، غاشمة ، تردد على كل ألسنة المعنيين مفردة جائلة، سريعة براقة كلآلئ وزبرجد وأحجار لها من القدسية والاحترام، ما يمكن أن تحمل كل هموم الكوكب ما ان تنقشع غيومه.انه ضريح الامام علي بن ابي طالب.
ما أصعب الوصول
ضمن مبادرة المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، قررت قوى الأمن العراقية، بأفرعها المتعددة، منع دخول أي شخص مهما بلغت منزلته، الى الطرق المؤدية الى ضريح الإمام، وكانت هذه مقدمة لسطو الكلام ورشاقةالتعبير وعمق البرهان، للوصول الى مكان الحدث مهما كلف الأمر. ليس مبالغة القول، أن الأمور في النجف، ليست على ما يرام تماما، ولم تمر عشر خطوات ونيف دون سماع رشقات رصاص، قراءتنا لموسيقاها، ليست تبادل إطلاق نار، لكن الذين منعوا دخول العابرين الى كل الطرقالمؤدية الى الضريح، كانوا يطلقون النار بكثافة مرة وبانفراد مرة أخرى، لأسباب، قد نوجزها حسب الخبرة بأنها التفاهم بالنار.
توتر سائد
هو عنوان اليوم الأول من السلام المبيت والمتفق عليه بعد انبساط الأرض بالحرائق، وهو سلام اللحظة الأخيرة الذي لا يزال مبكرا كحمرة باهتة ومثل كفن لم يخط جيدا. وهكذا هم الحرس الوطني، أي بعض كتائب الجيش العراقي الفتي والشرطة العراقية وقوى أمنية كثيرة مختلفة، سنتوقف عندها حتما لاحقا، بملابس مدنية أو نصف عسكرية، وأحيانا شبيهة بالميليشيات وغيرها من تقليعات القوة. والعنوان هو القلق يزيده التوتر عصبية وعربدة وزفرات من لم يتذوق الماء طويلا، فلا أحد يرغب في رؤية الغرباء، وفوق ذلك بكاميرات.
الطرق المتوعكة
وهي المؤدية الى الضريح والبادية كشبح غامض، أو مثل 'روبوت' عملاق انتزعوا منه أسلاكه. يزيد عدد المسلحين على الأعمدة واليافطات والمحلات المحروقة والمنهوبة. محيرة تلك المعركة المكعبة بصعوبتها البالغة للغاية، فقد كانت عناصر جيش المهدي، وقادته مدركون من الناحية التعبوية عناد موقفهم، فأي مهاجم يحاول اقتحام الضريح عليه تحمل الكثير من الخسائر، فإلى جانب الأزقة الضيقة التي تؤدي إليه وسهولة رصد المهاجمين، فان كل المباني التي تحيط بتلك المنطقة مزودة بالمعمار النجفي المعروف والذي يسمونه العساكر الملاجئ، فيما يسميه المحليون : السراديب. والسراديب تشكل مدينة متكاملة تحت أرض النجف، ومنها سرية للغاية ولا يعرفها سوى قلة، تلك التي تؤدي الى مركز الضريح ومنه تلقي بك الى فؤاد المدينة. كان الاقتحام، إذا، عبارة عن معركة شوارع غير مضمونة النتائج، وعلى الأرجح، فان هندسة المكان، عقدت من خطط المهاجمين ومنحت المدافعين المنتشرين في المدينة القديمة والسوق والشوارع المتفرعة من الضريح، كما الضريح نفسه، قدرا هائلا من المناورة يدركه أي شخص ذي حس عسكري وخبرة كافية.
كفاية السلاح
ولجيش المهدي والقائمين عليه والمنفذين لأوامر قيادته، السلاح الفعال الكافي، من ناحية النوع والكم. وهو السلاح المنسجم تماما مع المكان الشديد التعقيد. فالصواريخ المضادة للدروع والبي كي سي وبنادق القنص والرشاشات ومدافع الهاون السهلة الحركة وغيرها من الأسلحة الخفيفة، كافية جدا للمشاغلة في حرب الشوارع. والدبابات الأميركية لو تدخل الى الفروع المؤدية للضريح ستضرب بسهولة ويسر، فعرضها يغلق الشارع، وستنهمر عليها الصواريخ من الشبابيك وأسطح المنازل. ولو طارت لتغطيتها المروحيات، فسيتحتم عليها اتباع تكتيك الأرض المحروقة وتدمير كل المباني وتسويتها بالأرض، وهذا لا يستطيع أحد فعله بالقرب من المرقد، على الرغم من أنهم فعلوا ذلك كما سنريكم في حلقة قادمة، ولكن مهما بلغ حجم التدمير، فمن الصعب الوصول الى السراديب.
شبه التحليل العسكري هذا، نراه مفيدا جدا، لإدراك أسباب ما آلت إليه الأمور نحو 'السلام البارد' . فالفرقاء وصلوا الى مرحلة من تدمير بعضهم البعض، لا يستطيعون بعدها القيام بتدمير شامل، إلا في حالة قلع الضريح من على وجه الأرض، وهذه الخطوة لا يستطيع أحد على قيد الحياة الآن القيام بها، ووصلتالحالة، أن الضريح نفسه، اتكأ على جراحه بين الحين والآخر.
تنظيف وجرد
يمر الضريح هذه اللحظات، التي سجلناها، بمرحلة نقاهة وتنظيف وتلميع ونقل مخلفات المعركة، وعلمنا بأن الحكومة ستباشر فورا بتصليح الأضرار التي تعرض لها، على الرغم من صعوبة تنفيذ هذا الأمر من دون مختصين وخطاطين ونقاشين وتوفير مستلزمات كالكاشي الكربلائي الخاص ووضعه في الأماكن نفسها وبطريقة تشبه عملية التجميل، وهذا الأمر يتطلب وقتا ومعرفة وجهودا محترفة. وبالنسبة لعملية الجرد، فقد تحدثوا عنها كثيرا، لكننا علمنا بأن عملية الجرد الفعلية لم تبدأ بعد، لأن على اللجنة المكلفة بهذا الأمر العمل في ظروف طبيعية، ناهيك أن هذه اللجنة غير مكتملة حتى الآن، فالجماعة في جيش المهدي، تولوا مهمة ترحيل بعض العارفين بحيثيات الصحن الحيدري من على وجه الأرض ابتداء من سادن الحضرة حيدر الكيدار الذي قتل مع السيد عبد المجيد الخوئي في معركة السيطرة على " المفاتيح " ابان سقوط النظام، وآخرين غادروا النجف وأكثرهم الى إيران، التي وجدت لها منفذا جديدا لفتح صفحة جديدة للصراع من أجل الضريح.
ترميم وتضميد
وملخص المسألة، بدأ عندما اقترحت إيران ووفق نوايا لا نجد ثمة ضرورة للتوقف عندها الآن، القيام بترميم ضريح الإمام بنفسها. وهذا الاقتراح اعتبره الرسميون وغير الرسميين في العراق، تدخلا ليس له داع في ظروف يتهم فيها وزراء سيادة عراقيون إيران بالتدخل في شؤون بلادهم، لاسيما في المناطق المقدسة. فالعراقيون لابد أن يعثروا على بعض قطع الكاشي الخاص يضمدون بها جراح الإمام التي لم تندمل بعد، ولا يجدون ثمة ضرورة استراتيجية لاستيراد عدد من الطابوقات لوضعها في مكان المدمرة منها، فلماذا الظهورالإيراني مجددا في باحة الضريح ؟!
جواسيس وضح النهار
نسأل العقيد والمقدم والرائد والنقيب في الحرس الوطني، المنهار تعبا أو المتوتر قلقا، الزائغة نظراته، والمتوجس خشية، الواضع أصابعه على زناد اللحظة المقبلة، والملثم من غدر الغادرين، لمن يتبع هؤلاء الممغنطون بدشداشات رثة ويحملون معهم أحدث أجهزة الاتصالات وكاميرات التجسس: هل تعرفون هؤلاء المتسولين وكيف وصلوا الى جدران الضريح؟ فالمنطق لا يفرض وجود متسولين عند بوابة ضريح لا يصل إليه أحد، والمتسول يفترض أن يمارس مهنته بين زحمة الناس وحتى في المقابر، فلماذا يتعاطاها في منطقة عسكرية محظورة ؟! وغيرهم وغيرهم، لكن ما لا يقبل الشك والجدل، أن بعض الدول والكثير من القوى ترسل من يصور لها ما يجري في تلك اللحظات الرهيبة التي تعيشها المدينة ولا تعتمد على التغطية الإعلامية المحدودة، فلكل طرف حساباته وأجندته ومقاييسه في تقييم الآتي، وعليه الاستناد بالحجة والتبرير على الصور واستنساخ ما يجري بالمليمتر، فهنيئا للمدينة المدمرة جواسيسها الذين تجاوز عددهم عدد الزوار الطائعين.
مرور عرضي
كان من الصعب في تلك اللحظات المضطربة والوقت النازف أسابيع من الدماء، العثور على من يحكي لك حقيقة " واقعة الضريح ".
غير أن للصدف وقعها الأفضل من ألف ميعاد، فقد مر رجلان بالملابس الدينية التقليدية عبر ساحة الضريح، وكانا يتطلعان نحونا، الأمر الذي شجعنا الى اسـتنفار بعض الأسئلة. بداية لم يكن هذا التوقف العابر بحاجة الى المزيد من التعريف، فهما من العاملين في الحضرة، والمحظور عليهما أيضا دخولها في الوقت الراهنِوأبدا الشيخان الشابان معرفة حسنة بما حصل، لكونهما يسكنان في الحي نفسه المطل على المرقد المقدس، وعلى حد قولهما فان الأصوات التي كانا يسمعانها (والمقصود أصوات القتال ) ، كانت كافية لمعرفة ما يجري، وليس الرؤية فقطِ وأكدا على فضل المرجعية لتجنب موقف صعب جدا، كاد الضريح ومن فيه التعرض إليه، وحسب قولهما، فان تدخل المرجعية في اللحظة التاريخية والمصيرية أوقف عاصفة كادت تبعثر كل التاريخالماضي والمستقبل الغامض.
ولأول مرة نسمع صراحة من أحد عبارة " جرائم جيش المهدي " بقولهما: إنها واحدة من جرائم جيش المهدي ! ومن الواضح أنهما يتبعون للحوزة، غير المتفقة تماما مع الصدريين، لكن ما أثار في هذه المسألة أن عبارتهما كانت مباشرة وصريحة وشجعتهما على إرشادنا الى بعض من هذه " الجرائم " حسب وصفهم إياها والتي سنتحاسب معها في مناسبة قادمة بلا شك.
جراح الضريح
لعدستنا نحو عشرين لقطة لآثار تدمير حلت بجدران الضريح ، أكبرها فتحة يمكن لشخصين المرور عبرها بالقرب من بوابتها الخلفية وثقب قطره نصف متر حطم الواجهة الغربية منه، أما الضربات الأخرى فقد أحدثت شقوقا وحفرا لأثمن نقوشه المزينة. ولابد من الإقرار بأن التصريحات التي كان يطلقها الناطقون باسم جيش المهدي حول تعرض الضريح للقصف كانت صحيحة، ويبقى السؤال : من الذي قام بقصف الضريح؟ المساحة المخصصة لجلوس ومرور الزوار حول الضريح والمبلطة بالطابوق الخاص، كانت مليئة بحفر نتيجة سقوط قذائف. تفحصنا هذه الحفر وآثارها بمساعدة استشارية من بعض العالمين بشؤون القذائف إضافة الى بعض المعرفة بالشيء قادنا لافتراض أنها بفعل قنابل عنقودية، فهي تتوزع بشكل عادل على منطقة واسعة، ولا يوجد تأثير إلا لمثل هذا النوع من القنابل. وبما أن جيش المهدي لا يمتلك العنقودي ولا وسائل إيصاله لأرض العدو، فالاستنتاج الوحيد، أن الطائرات الأميركية ألقت بالقنابل العنقودية فعلا على المساحة القريبة للغاية من جدران الضريحِ ويحتمل جدا، أنها أصابت بقذائف أخرى جدران الضريح وأحدثت فيه الأضرار التي تبينها الصور الصريحة.لسبب منطقي وحيد، هو أن عناصر جيش المهدي لا يستطيعون قصف أنفسهم وهم المنتشرون بكثافة في هذه المنطقة. ولكوننا لا نبرر لأحد في هذه الحرب السيئة الصيت على الجميع، فأن وجود الضريح بحد ذاته، في مكان يطلق عليه العسكريون : مجال الرمي أو ساحة المعركة، فمن غير الممكن عدم إصابته بأي " طشار "، نفترض أنه غير متعمد لإنهاء الجدل حول هذه المسألة.
كل هذا البهاء تنحني أمام الضريح وتداري بعض الدموع، حتى تدرك كل هذا البهاء الذي رؤيته تعادل إلقاء ماء على عين سلكت صحراء، بأقواسه الساحرة التي تفكك الأسرار وتضمد الجراح. وأبهى ما حدث، سلامته وخروجه معافى، كعطايا جديدة. فقد تدخلت المعجزات لتنفض الفرقاء عن قبر ابن عم رسول الله وصديقه.تنساب المياه التي غسلت الصحن والجدران، مداوية آلام ما تبقى من مدينة عبر فضاء نظر وجه أجنحتنا لملاقاة ملائكة التعب للبدء في رواية الجزء الآخر من حكايات المدينة المحروقة.