الجمعة، 29 فبراير 2008

دلمون وبعدها التاريخ.. رؤى القلاع ومئزر الأحلام


البحرين - د.جمال حسين علي:


أنما نذكرها لأنها أرض الخلود والجنة والمزروعة في ملاحم وادي الرافدين والتوراة، ولنا أن نتساءل عن أولئك البحارة المتأخرين البارزين من بين الأمواج في فلكهم المبعثرة وهوائهم المختوم بالغربة، ولنجعلها مسامرة نحيي فيها أقدم مدن التاريخ التي صادف وجودنا إنارتها والميناء القديم في بهاء قلعة البحرين، آخر عواصم دلمون والمرصعة لساحل البحرين الشمالي بمناسبة مرور 50 عاما على اكتشافها.
سر دلمون
طبقاتها التاريخية تمتد لأكثر من 5 آلاف عام بالإشارة إلى ما قامت به بعثات الآثار الدانمركية في البحرين التي تجاوزت الشك في اليقين بأن دلمون وجزيرة الالهة البالغة الحضارة هي البحرين الراهنة. وإن كان حديثنا عن سالف الدهور حيث الرمال غطت دلمون ومعابدها وأسواقها وقبورها التي تجاوزت المائة ألف قبر، فلكم أن تتخيلوا كم من البشر عاشوا هنا لو أن ضجيج أمواتهم يسمع ضمائرنا لغاية هذه اللحظة، وكم غطت الرمال حضارات في غمرة هذه الجزيرة الذهبية، انه واحد من ألغاز دلمون، كما السؤال المحير الذي طالما أجله الباحثون : من أين كانوا يحصلون على غزارة الماء العذب، كما لو صدقت حكاية البحرين اللذين شكلاها احدهما مالح والآخر نابض بالعذوبة والحياة. وبإضافة لغز آخر انبثق بعد اكتشاف قطع الذهب والفضة و العاج والنحاس والخزف ونبال صيادي ما قبل التاريخ والجرار الفخارية و وقطع البلور الملحية ومقالع الحجر و حجر الصوان الذي استعار لون الكهرب وحلي لا تقدر بثمن ضمتها القبور، ويمكن اللجوء إلى حل أخير : كان بناة الحضارات الغنية يجلبون موتاهم ويدفنوهم فيها، كظمأ للخلود ومداهمة للجنة المبذولة في طيف الجزائر المتقاطرة على فراش البحر.

ألغاز متوالية
وتتقاطر الألغاز مع سؤال كهذا : ما الأشياء التي صنعها الإنسان هنا وما الذي صنعه البحر والشمس! وبافتراض ان السادة المبجلين الذين يحيون هذه الآثار اليوم حددوا عمرها بخمسة آلاف سنة، فأي دهشة ستصيبهم لو علموا بأن أدوات العمل الحجري التي تم إيقاظها من بين الرمال تحمل عمرا ليس أقل من 50 ألف سنة وبتنوعها وطرازها المختلف الذي ينقل ثقافات مختلفة لأزمان مبتسرة شديدة العمق! لننظر إلى الخيول المدفونة مع فرسانها و السهام والأدوات الزراعية والمناشير المتآكلة من كثرة الحصد والمناجل ذوات المقابض المصنوعة من الخشب والعظام وشرائح النحاس التي تستعمل كمرآة بمعونة قليل من الماء، آلات كهذه لم يعرفها سوى إنسان بلاد الرافدين ومصر وبعدهم الحضارة المكينية في اليونان، فكيف وصلت إلى هنا!
إتلاف كنوز
لم يكن اللصوص وحدهم من تطاول على مئزر الأحلام، بل إهمال وجهل الأجيال التي لم تنر الحضارة عبيرها عليها، فتلك القباب الأثيرية التي لا يعادلها جدية شيء في التاريخ، تم هدمها لبناء ميناء، في الوقت ذاتهأتلفت الكثير من الآثار وتناثر الرمل المعجون بالذهب. هكذا لم تنج الكثير من القبور القديمة من العبث والسرقة والتهديم وكتابة ذكريات سمجة على حجارة مديدة الحضارة تم التعامل معها كخرائب على المارة الإمعان أكثر في تخريبها. وما الذي يمكن فعله مع جبال من الفخار المهشم بعدد القلوب التي تحطمت في هذا المكان عبر آلاف السنين. حتى المواقد التي تحدثنا بحلقات الأولين وتفكك موجات أسرارهم، كأنها أشعلت قبل ثوان بتلك العفة التي تتمايل بها أكفهن المحلات بالذهب وأوشام غابر الزمان لتصب الأباريق النحاسية متوهجة نير امرأة تشتبك أصابعها مع اللحظة نفسها التي نمر فيها أمام الموقد المنشأ على نحر سنوات طوال من انفراج الأرض على جبهتها العذبة، نزوع قمر مليء بمرونة ما خلفه بشر وما انصاعت إليه بقاياهم التي ستظهر مع كل فجر ولود.
مجتمعات متداخلة الإرث
المهارة في التصميم والتصوير والتطور في ورش صناعة الفخار وصهر النحاس وما يرتبط به من أشغال يدوية ونماذج الأسلحة وأنصال الرماح والأختام الأسطوانية التي تم العثور عليها وأشكال الحيوانات: الفيلة والثيران والماعز الجبلي والطيور والثعابين والعقارب، تشدد على وجود ارتباط كبير بين أناس القلعة وحضارات بلاد الرافدين وعيلام والهند، أما عالم الآلهة والأزياء والأختام والفخار الدلموني، فهذا لا يقبل أي جدل من أنها حملت حضارة بلاد الرافدين. هناك حيث يدوي الرنين المبهر للتاريخ في هيئة قبر يعتبر ميثاق السفينة التي حملت الملحق التجاري للملك البابلي نبوخذنصر إلى دلمون ومعه زوجته التي تتكئ عليها محفظتها النسائية البرونزية وفتياته الصغيرات المدفونات في قبر بيضاوي كبير مع جرار فخارية تشعر بثقل عظامهن الناحلات بارتداد آلاف الموجات من التاريخ الذي حملهن من بابل إلى دلمون، هي الموجة ذاتها التي ارتفعت شاقة سبيلها لتعلن ميلاد الكون البعيد المنال.
نذور المعابد
المعابد الثلاثة القديمة في باربار طمرت آلاف السنين بفعل العواصف الرملية، وبغض النظر عما كانوا يعبدون هنا، فإن إنسان تلك الأوقات كان حليما بما يكفي إزاء القوة التي كان يعبدها (لديهم آلهة للماء والنار والخصب والحكمة غيرها). وكانت المعابد تهدم ويعاد بناؤها لأسباب عقائدية طوعت الهندسة المعمارية لخدمتها وكانوا ينتزعون شيئا ليبنوا بواسطته شيئا آخر، ولم تسلم هذه المعابد من أعمال النهب، فالخنادق والحفر الضيقة اقتلعت وأواني الزجاج الخضراء هشمت وسيراميك سامراء المرمي في بئر المعبد أزيل هو الآخر. يفسر خبراء البعثة الدانمركية عملية التنكيل التي تعرضت لها المعابد بافتراض تاريخي مختصره أن البحرين في غضون الثلاثة آلاف سنة الأخيرة تعاقبت عليها الكثير من الدول والحكام الذين كانوا يحرصون على بناء معابدهم الجديدة في هذا المكان الذي اعتبروه مقدسا، ولو نتجاوز هذه الفرضية، ونمعن النظر في هذا المشهد : كل حضارة تبني معبدها على معبد الحضارة التي غادرت التاريخ، لأي تخوم سنصل، وأي مجسم سيمنحنا فرجة المعابد المبنية فوق بعضها، أنها صولة شراع يوافي نذره ناثرا قرابينه على تل الأحجار التي تراكمت لحماية المعبد من الشرور.
قلعة البرتغال
ستمر آلاف السنين حتى يظهر العرب في القرن الرابع عشر الميلادي ويشيدوا الأبراج في زواياها ويوسعوها ويجعلوها عامرة لغاية ظهور البحارة البرتغاليين في الخليج في مقدمتهم فاسكو دي غاما وليس انتهاء بالأدميرال ألفونسو دي البوكيرك الذي أبهره موقع البحرين وعجبه لؤلؤها، فشيد ميناء البحرين عام 1512 وجدد قلعتها التي صارت تسمى، على الأقل محليا، منذ ذلك الوقت ولغاية اللحظة التي زرناها 'قلعة البرتغال'!ميناء القلعة عد المنفذ الرئيسي للمستعمرين البرتغاليين ومنه كانوا يصلون تجاريا بالعالم حيث ربطوا القلعة مع البحر بقناة.
استعادة التاريخلمن يطلع جيدا على هذه الأرض ينتابه انطباع بأن كل شبر فيها تاريخ. وكان لظهور التحف في أول معرض أثري أقيم في البحرين في مدرسة الهداية الخليفية بالمحرق عام 1957 الإشارة الأولى لوجود آثار بالغة الأهمية في البحرين تم انتزاعها وإخراجها من البلاد بطرق شتى، الأمر الذي دفع لولادة اتجاه يعيد التاريخ للبحرين بمساعدة منظمة اليونيسكو التي وقعت مع البحرين اتفاقية بهذا الخصوص بعد عشرة أعوام من إقامة المعرض المذكور. أعقب ذلك تقرير اليونسكو 1968 بعنوان : 'حماية الممتلكات الثقافية وتطوير متحف البحرين'، وأهم ما دعا إليه هذا التقرير هو ضرورة أن تعيد البعثات الأثرية ولاسيما الدانمركية والإنكليزية والفرنسية ما تم أخذه من آثار البلاد وتصديره للخارج.
مشجب المجد
لقد طوى الموت بناة هذه الحضارة التي شقت سبيلها لميلاد جحودنا، فهذا المكان بدا وكأنه ملتقى كل الثقافات : البابلية والسومرية والهندوسية واليونانية والفينيقية والفارسية والصينية بالمزهريات وقطع النقود التي تثبت دعائم هذه القلعة التجارية.ولا غرابة في أن تضيق أجساد زوار قلعة البحرين وتتضاءل أمام عمقها وسعتها في وقت بدأت القناديل فيها، تضاء لأول مرة، في هذه الأيام حيث تعود حاملة نسيجها الواهن في سكون أولئك العظام الذين تعاقبوا عليها لتبقى وإياهم مشجبا للمجد.

قلعة الرفاع
شيدت لأسباب قيل انها دفاعية وسكنية أيضا فوق المنطقة الصحراوية الواقعة بين الرفاع القديمة والرفاع الحديثة من قبل الشيخ سلمان أحمد الفاتح عام 1812. وتميزت بعمارة تقليدية حيث الغرف المستطيلة التي يتوسطها فناء مركزي ومصلى وبئر حفر غربها. في غضون زيارتنا لها كانت خاضعة للترميم الذي بدأ عام 1989 وقيل انه انتهى 1993 ولكننا رصدنا وجود أعمال لتطويرها.