الثلاثاء، 26 فبراير 2008

سبعة أوقات لوداع الجنة








الأهوار - د . جمال حسين علي :



" الذي لم يعبره ظل ّ غير ظلنا
ونحن نمضي من بيت لغاب
بين أزهاره الملتهبة
مبدلين عزلة بأخرى "
- روبرت فروست -

ونحن نطأ العتبة الأخيرة، يلتئم تفكيرنا في هذه النجوى وبملامسة عالم مبعثر النسمات، صافي الغدير، ناصع الجبهة، مطبقة أقدامه في الجري والسؤال وتشذيب المحال للفوز ولو بشوط واحد من الجولات السبع التي تكوّن فيها العالم ونفثت فيه الروح. بداية في هذه البقعة وتحت ظل قصبة وشفقة موجة واستدارة حلفاء بنى فيها الإنسان البيت الأول وعلـّم الطير مولد جناحه وخط الحرف منبت كلماته واستدلت السهام على السهام و أجري الإثبات الأول على منبع كل شيء حي من الماء وإن للطين اسرارا، والعدم طوفان قد يعيد كل شيء لنصابه في سبعة أوقات.

بيت الألــــــــــواح

" أنها لأيام طويلة حقا
حياتي في بيت الألواح "
- من يوميات تلميذ سومري -


إذا كان السومريون نجحوا في تشييد «بيت الألواح» في الأهوار وترجمته إلى لغتنا المعاصرة: المدرسة، قبل خمسة آلاف سنة، فكيف تعجز الدول المعاصرة عن بناء مدرسة طوال 40 عاما في المنطقة ذاتها؟ كانت الكتابة على الطين لذلك سمو التلاميذ: ابناء بيت الألواح. واستخدموا القصب المدبب كأقلام وممحاتهم كانت بصمة الإبهام ومنهم اتخذت بصمة الإبهام لتقدير هوية الإنسان ليومنا هذا. والمعلم أسموه الكاتب أو الناسخ (كان لديهم الآلاف!) وناظر المدرسة «أوميا» وتعني الأستاذ بالسومرية. والتعليم كان جادا وقويا وفي غاية الصعوبة قياسا لتعليمنا الابتدائي الآن. فكان التلميذ في بيت الألواح يتعلم أسرار اللغة وأنواع الخطوط، علوم الترجمة من السومرية إلى الأكدية ولغات الكهنة المختلفة وأداء التراتيل والأناشيد ولغات صاغة الذهب وصناع الأختام والخطباء ورعاة البقر والسفـّانة ومصطلحاتهم وعمليات الضرب الحسابية والعامل المشترك وعامل التناسب وموازنة الحسابات والحسابات الإدارية وصرف المخصصات وقسمة الممتلكات وتحديد حصص الحقول وكل ما يتعلق بشؤون الحياة المختلفة وما ينير اللغز السومري التالي الذي وجد على أحد ألواحهم: «بيت أساسه كالسماءبيت كأنه مغطى بالكتانبيت مثل الأوزة يقوم على أساس متينفمن يدخله بلا عينين مفتوحتينيخرج منه بعينين مفتوحتينحل هذا اللغز: المدرسة» نقف عند مدخل بناء من القصب يكتبون عليه مدرسة وفي مكان آخر تشارك نساء القرية في تشييد مدرسة توقف العمل فيها منذ نهاية السبعينات. كان الجميع يعمل حتى الأطفال وبانت أكوام القصب والبردي و أحضروا من المدينة بعض النوافذ ليكملوا البناء حتى بداية العام الدراسي المقبل. الجهات الرسمية المعنية أعلنت عن فتح عشر مدارس مؤقتة في منطقة الأهوار، ومؤقتة يعني أنها من حيث البناء ستعتمد على البيوت الجاهزة المعروفة بتسمية «الكرفانات» التي يتسع كل فصل دراسي فيها لنحو 30 تلميذا ينحشرون جنبا إلى جنب على أرضيتها. قال الأطفال لنا بأنهم يجلبون فرشهم معهم وأي شيء يمكنهم الجلوس عليه. لكن إطلاق صفة مؤقتة يعني أن المعلمين فيها أيضا غير ثابتين وقد يكلفوهم بأسلوب العقد المؤقت الذي تعلمته الدولة العراقية الراهنة من أسلوب الإدارة الأميركية. ومع ذلك فهذه «المدارس المؤقتة» لم تظهر في عمق الأهوار ولم نلمحها وربما وضعوا «الكرفانات» عند أطرافها القريبة من الشوارع الرئيسية. ولأن الأهوار شاسعة المساحة، فلا يستطيع الأطفال الوصول إلى مواقع تلك المدارس التي نفترض وجودها فعلها، وبالتالي، فان المهجرين من أهالي الأهوار في حالة سكنهم حاليا في مناطق قريبة من المدن وتعود أبنائهم على الذهاب إلى المدرسة، فانهم سيفكرون كثيرا قبل عودتهم إلى الأهوار وستصبح المدرسة وموقعها ووجودها وعدمه واحدة من معوقات عودتهم بعد أن تغيرت أحوال أبنائهم في المدن. الرسميون عللوا عدم الشروع في بناء مدارس ولو من القصب في الأهوار بخشيتهم من عودة المياه وغمرها مباني المدارس، لذلك فضلوا الانتظار ريثما تحسم القضية الأصل: المياه. ارتاحوا لأسلوب المدارس المتنقلة، فهي تنصب في يومين وترفع بالفترة نفسها ويختارونها حيث توجد كهرباء وطرق معبدة وعلى المتعطشين للعلم عناء الوصول إليها والعودة مجددا مشيا أو على الحمير وهذا ليس من شأن العملية التربوية ووزارتها، بل على عاتق وزارات أخرى عليها تبليط الطرق وتوفير وسائل نقل للتلاميذ. يقولون بأن المياه الحديثة أطاحت بنحو 20 مدرسة في الأهوار، وهذه المدارس أغلبها طائف على المياه وما أن يعلو المد حتى تحرفها الأمواج معها، كطرافة ذكر التعميم الذي أعلنته مديرية تربية ناحية في الناصرية مفاده «تم فقدان مدرسة فمن يعثر عليها الاتصال على الرقم التالي..». وبعد أيام بعثت ناحية الدير في أهوار البصرة البرقية التالية: «تم العثور على المدرسة المذكورة في تعميمكم بالقرب من أهوارنا»! لقد شملت خطة عام 2004 بناء مدارس بديلة فيها مختبرات وكمبيوترات وتعهدت اليونيسيف ببناء 68 مدرسة من الطابوق وليس من القصب والمعدن وتعويض النقص في الخدمات داخلها وتجهيزها بالكامل ولكن عام 2005 شارف على الانتهاء ولم تظهر طابوقة واحدة من هذه المدارس! المشكلة الرئيسية الأخرى لا تنحصر في بناية المدرسة ومعلميها، بل في العنصر الأساسي في العملية برمتها وهو التلاميذ. فالناس بالكاد بدأوا يرتقون أيامهم وتعمل العائلة كلها منذ الفجر من أجل توفير لقمة العيش لها ولحيواناتها فكيف يضحون بيد عاملة نشطة كالصبيان والصبايا! لاسيما أن البلد تعود منذ فترة طويلة على عدم احترام المتعلمين وأهدرت فيه كرامة الطبقة الوسطى ونزل فيه حتى أساتذة الجامعة إلى الشارع ومارسوا مهنا لم يمارسها أي من أقرانهم طوال التاريخ المحلي والعام لهذه المهنة. بالكاد تعيش العائلة وتسوي مائدتها وتشطف رزقها والحد الأدنى من التعليم الذي يعتبر القراءة والكتابة، لم يعد يقلق أحدا منهم كالجوع. والتلميذ الوحيد الذي قابلناه متحمسا مقبلا على التعليم هو مرتجى رياض وكان أكثر التلاميذ سعادة حين جلس في الصف، لكنه الوحيد من بين كل الجالسين أخرس! لأن لديه مشاكل في الإذن الوسطى ولا يسمع لذلك لا يتكلم. هذا المسكين وعلى الرغم من سعادته في مشاركة أقرانه فرحة الجلوس أمام السبورة، إلا أن «مدير مدرسة الرازي» الأستاذ محمد سلمان أوسعه ضربا وطرده من الصف أمام زملائه، ليس لأنه لا يحب العلم ولا يؤدي الواجبات وتلفظ بما يسيء لحرمة التعليم، بل لكونه ولد ومعه مشكلة الإذن الوسطى. أخذه والده إلى بغداد ليعالجه حتى يحقق أمنيته في الجلوس أمام السبورة ولكن الطبيب قال لهم بأن معالجته فقط متيسرة في الخارج. وثمة من يهرب ولا يريد التعليم وهو أساس مشكلة ليست هينة وهي التسرب التدريجي للتلاميذ للمدارس المتاحة في الأهوار.

موطن الأمراض

مهما أصاب المرء من حوادث طارئة وهي كثيرة لأناس يعملون بأيديهم ويصيدون بآلات جارحة ويستخدمون السموم والقنابل ويتجولون بالأسلحة ويعدون طعامهم بوقود يصنعونه، ومهما تناثرت عليهم من أساسيات الحاجات الملحة لإسعاف طفل وشيخ وامرأة تلد بعسر، فلا يأمل في مساندة طبيب متخصص إلا بعد يوم يطويه في المياه ومن ثم على الدواب وبعدها بانتظار فتح أبواب المستوصف العامل في أقرب النواحي. ففي الأهوار لا توجد مراكز صحية ولا ممرض أو ممرضة ولا قرص مهدئ ولا حقنة منقذة ولا شاش ولا يوجد حتى المهدئات وأدوات التعقيم. يحمل المرء إصابته وعلته حتى يشفى لوحده، مسنات ومسنين يداوينهم بالأعشاب والكي وتضميد القرون الأولى ويتقاسمون الألم حتى يصابون بإعاقة مستديمة أو يموتون. وكالة التنمية الدولية الأميركية USAID ومنظمة الصحة العالمية WHO على علم بالواقع لأن لهم الكلمة الفصل لأصحاب صندوق تنمية العراق الغامض المصاريف. هذه الوكالات وغيرها أعدت «مشاريع»لتنمية وتطوير الواقع الصحي في الأهوار كتوفير الأدوية وتنفيذ منظومة للمعالجة السريعة للحالات الاستثنائية والمستعجلة. وأعدوا برامج يدربون فيها العاملين المحليين وتأهيلهم لتنفيذ منظومة المراقبة السريعة للأمراض التي ستعتمد على الإنترنت والموبايل. وقيل أنهم سيفتحون عيادات متنقلة (كرفانات أيضا) وسيوزعونها في الأهوار، وقيل أكثر من ذلك والله أعلم بما يعاني منه الناس هنا من ملاريا ودزنتري وهزال وفقر الدم و شحوب بسبب سوء التغذية والتراخوما والتهابات العين والسل والجرب والبواسير والحصى ودود الأمعاء والزحار وحساسية الجلد والحكة التي تستمر لأسابيع بلا توقف والدمامل والبثور وذات الرئة والأمراض الزهرية المتنوعة والحصبة والجدري المائي والسعال الديكي والنكاف والتقيحات وتشققات الجلد والجروح التي لا تندمل والكوليرا والحمى الدورية وتضخم الطحال وبقايا الحروق والالتهابات بأنواعها واختلاف مواقعها و غيرها من الأمراض التي يعالجها «السيد» بالبصق عليها!وإذا فهمنا الأمراض والعلل التي يعاني منها الناس، فاننا لا نفهم، لأننا لا نفهم فعلا، كيف يمكنهم بالحال الذي رأيناهم وهم عليه أبد الدهر، الاتصال بمنظومة المعالجة السريعة وطلب إسعافها السريع بالإنترنت!

السيد الصدر

أن كلمة السيد تعني كل شيء لأهل الأهوار (وللشيعة عموما). والسيد في مفهوم أهل الأهوار هو: مقتدى الصدر! وعداه فهم أحزاب هذا الوقت. ويتمتع السيد مقتدى بشعبية كاسحة في مناطق الأهوار وحتى يعلقون صوره في المقامات والمزارات والمضايف والمجالس الحسينية ويؤيدونه بشكل كاف ولا يترددون من مناصرة «جيش المهدي». ويكاد الجميع يتفق على أن أيديولوجيتهم هي ما يأمر به مقتدى الصدر وأفكار والده الشهيد. أما الأحزاب الأخرى فلا يحبونها ولا يحترمونها ولا يريدون معرفتها. ويقولون بأن جماعات الأحزاب الحاكمة كالمجلس الأعلى والدعوة استولت على منازل عبد الباقي السعدون وغيره من رموز النظام السابق ويتندرون بأنهم صاروا مثلهم وإن هذه الأحزاب تتعامل معهم كالفرق الحزبية سابقا، بينما مقتدى الصدر واحد منهم ويرون فيه صورة القائد النزيه والمضحي والمعبر عن آمالهم وآلامهم. في واقع الأمر أنهم مقلدين للمرجع الأعلى السيد علي السيستاني في الغالب لكنهم «صدريين» من وجهة نظر تآلف المسحوقين وتعاضد الفقراء، لأن السيد مقتدى لم يطرح نفسه كمرجع تقلده الجماهير، بل تزعم تيارا سياسيا ووفق ذلك فإن التوجه السياسي لفقراء الأهوار «صدري» ولذلك حرموا من التصويت على حد قول نعمان آل جبارة وبعض المتعلمين الذين شاركونا نقاشا سياسيا في أحدى المضايف. لم يمنعوهم حين تفحصنا الأمر، لكن مراكزهم الانتخابية كانت في «الولاية» كما يصفون سوق الشيوخ (القضاء) ولأن أغلبهم من المهجرين، فهم لا يحملون وثائق ولا الورقة الرهيبة التي تدل على مواطنتهم والمعروفة باسم: البطاقة التموينية، فهم غير مشمولين بها، لأن غالبيتهم لم يعيشوا في العراق أيام التموين ونظام الحصص الغذائي وحين عادوا لم يؤمن لهم أحدا فرصة التقاط المواطنة من أنفاس الفوضى التي أحرقت مديريات الأحوال المدنية المنهوبة. ونظرا للكسل المتوارث لديهم في مثل هذه المسائل ولأنهم لا يثقون بالدولة ولا بمؤسساتهم من اليوم الذي بعثوا فيه، فلم يأملوا منها بورقة وهوية وارتضوا حياتهم وأيدوا الصدر بلا بطاقة تموينية وبذلك كانوا قوته الكامنة على الأرض وليس مجرد بطاقات انتخابية.

الســـياحـــة المفــقودة

ان اتفاق العلماء وقبلهم «العهد القديم» بتسمية الأهوار بجنة عدن، لم يثبت لأي ممن تولوا شأن هذه البلاد تلقف النظرة وإبداء النية وامتطاء مشروع واحد يوجه ولو الأنظار إلى هذه القطعة الفعلية من الجنة. فالماء والخضرة والوجه الحسن التي ميزت الجنان جميعها متوفرة في الأهوار ويمكن إضافة الطيور والأسماك لعناصر الجنة، لمن يهوى الصيد أو التمتع بمنظرها ولهواة الطبيعة. ولابد من الإشارة إلى أن أي من المنتجعات والقرى السياحية المصنعة أو الطبيعية لا يمكنها مجارات الأهوار بسحرها الطبيعي ومناظرها الخلابة و ثرواتها الخاصة وبيئتها ومناخها الذي فيه 250 يوما درجة الحرارة فيها تتراوح بين 25 درجة مئوية وأكثر بقليل وهي درجة الحرارة المثالية للمصطافين، أما بشرها فودودين و مسالمين و يفرشون الأرض زهورا للأجانب. وتعتبر الأهوار منطقة جذب رائعة لمحبي ركوب الزوارق بأنواعها والتجول في المسطحات المائية وممارسة الصيد والسباحة والاستجمام تحت الشمس وغيرها. وللمتخصصين في الآثار هناك في هور الحمــّار لوحده الذي ينتشر على أكثر من مليون دونم أكثر من مائة موقع أثري تعود إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد موجودة في قضاء الجبايش وناحية الإصلاح والعكيكة والسديناوية وكرمة بني سعيد وفي العمارة عند هور الحويزة والوادية والصحين وبريدة نحو 50 موقعا مكتشفا يرجع إلى عصور الساسانيين. وبإمكانهم زيارة المواقع الأثرية في أريدو التي تبعد 40 كلم عن الناصرية والأقرب منها سومر وأور الذي لا يتجاوز الوصول إليها من الناصرية عشر دقائق في السيارة. ويمكنهم الإطلاع على الزقورة الحمراء وآثار الحضارات الكلدانية وعصر العبيد والكوتيين والعيلاميين وآثار غزوات الاسكندر وكورش وداريوس. غير أن كل المشاريع المحلية الرسمية والدولية الأممية، فيها إنعاش الأهوار سياحيا ولكن شيئا ما على الأرض لم ينفذ ولن يتحقق في الأمد المتوسط على الأرجح.فالأهوار تصلح للغاية لممارسة النشاط السياحي لو توفرت فيها منشآت داخلها أو على أطرافها وزوارق سياحية ومطاعم عائمة أو ثابتة داخل الأهوار كمرحلة أولى من هذا النشاط ويكلف المحليون بإدارتها وحمايتها ويمكن البدء بالسياحة الداخلية، حيث يرغب الكثير من العراقيين ولاسيما المنحدرين من هذه المناطق بزيارتها وتجديد أوقات طفولتهم وتعريف أبنائهم بها وبالتالي إجراء النشاطات الرياضية فيما يتعلق بالماء كسباقات الزوارق الشراعية والبخارية وإرسائها كتقاليد موسمية وتشجيع هواة الصيد بإنشاء محميات وهي موجودة أصلا على الطبيعة، و إحياء مضايف سياحية يديرها المحليون بكل بساطة ودقة وتعجب أهل المدن حتما لكونها عادات لم يألفوها وجميلة ومثيرة ومحترمة. ان القرى السياحية التي تحدثت عنها معظم البرامج المهتمة بتطوير الأهوار ستدر ربحا غير بسيط لمن يتبناها كاستثمار تجاري ويمكنه تعويض رأسماله في غضون فترة قياسية لأن الأرض موجودة وكل المواد الأولية والأيدي العاملة متوفرة ورخيصة ويمكن مشاركة الدولة في توفير مراكز للخدمات الأساسية التي تدعم المشروع السياحي هذا وهو جزء من واجبها بتهيئة مراكز اتصالات وخدمات مصرفية وبريدية ومحطات تعبئة وقود وأسواق تجارية ومحلات لأدوات الصيد وصالات ألعاب ومقاه وقاعات لعرض فولكلور المنطقة وبيع المنتجات الفولكلورية وقاعات يعرض فيها التشكيليون لوحاتهم على الأهوار وتاريخها و نمط حياتها و بالإمكان تشجيع النقل المائي عبر بواخر سياحية تنقل السائحين من الموصل وبغداد والبصرة حتى قرى الأهوار السياحية. ان المناظر التي رأيناها في الأهوار لا تجعل هذه المقترحات والأحلام صعبة فالبنية الطبيعية موجودة ولا يحتاج الأمر سوى لبعض المال والنية الصادقة والتخطيط الحسن ودعاية مناسبة، فيما رغبات الناس سواء المحليين أو العراقيين والخليجيين عموما متوفرة فيشزيارة هذه المنطقة الفريدة بجمالها وثرواتها وحيويتها ودفقها المعطاء.
الـقـوى الـخـفـية
لا يكتمل بناء شخصية (الأجاويد) بدون تراكم الحكمة والتجربة والمواقف المؤثرة في المجتمع المحلي و الدور الذي يلعبه هذا الشخص ليتبوأ هذا اللقب الذي بموجبه يكون مسموعا مؤثرا في قرارات قومه من الصغير حتى «الكليط» (شيخ العشيرة). يهتم الأهواريون جدا بالأشخاص المؤثرين في حياتهم وبعضهم وصل إلى مرحلة التقديس حتى بعد وفاته فيقيمون على مثواه المرقد الذي يؤمونه ويزورونه ويلجأون إليه في السراء والضراء وينذرون له ما استطاعوا عرفانا وتقديرا وخشية وتحسبا وتكريما لمآثره ومكارمه. ولعل المرأة الوحيدة التي بني لها مقام يزار تقديرا لها بعد وفاتها هي فؤاده التي يسمونها «العلوية فؤاده» (أم هاشم) التي بدأت قصتها حين هاجم أسد جواميسها وأكل واحدة. ولأنها عمياء فقد خرجت في الليل وربطت أحد الأسود بمكان الجاموسة التي افترسها. وحين استفاق الناس في الصباح وشاهدوا الأسد مربوطا مع الجواميس وبدون أن يقاومها كما لو استسلم لمشيئتها بالكامل، اعتبروها واحدة من «الكرامات» التي أوصلتها لمصاف الأولياء. ويبدو أن هذا الاكتشاف جاء متأخرا، فقد كانت لها «كرامات» أخرى فيما يخص معالجتها للمرضى ما أن تقرا عليهم وتلمس مكان أوجاعهم. وللسيد صروط مقاما مهيبا في الصحين وهو واحد من أكثر السادة «البخيتين» في تاريخ الأهوار الذي عدوه الحارس الأمين عليها من الجن والطناطل والسعلوات والآفات والأشباح والعرابيد والبيوت المسكونة واحتراما له بنوا له مقام يزار حتى الآن بالرغم من أن جثمانه مدفونا في النجف. ويعتبر مقام العزير واحدا من أهم القبور التي يحرص الأهواريون و معظم الجنوبيين في زيارته في المناسبات الدينية والحسينية ويقع عند دجلة وسط البساتين وبالقرب من مداخن كور الطابوق وعادت الزيارات تزدهر إلى هذا المقام وانتعشت بالقرب منه التجارة وحركة المطاعم والباعة الذين يخدمون الزوار القادمين من المدن والقرى البعيدة. (العزير قضاء في العمارة كان يسكنه الكثير من اليهود قبل أن يهاجروا ولهذا المقام قبة زرقاء وليس خضراء ورسومات ونقوش بالعبرية لا تزال موجودة على الضريح الذي انتشرت إشاعة مفادها أن قوات خاصة إسرائيلية نهبته في مرحلة الفرهود التي أعقبت السقوط وسرقت الضريح ونقلته الى إسرائيل ولكن أي آثار لسرقة من هذا النوع غير واضحة ولم يثبتها أحد). والزوار أنفسهم يؤدون المراسم في مقامات علي الغربي وعلي الشرقي والخضر والسيد يوشع وعبد الله بن علي والحريري وسادة «بخيتين» محليين آخرين مثل سيد نعمة وسيد صليبي وسيد رحيمة وغيرهم ويحنون جدرانها تيمنا طامحين بمنح الأولياء بركاتهم لهم ولأطفالهم وتحقيق رغباتهم وحل مشاكلهم وفرج مصائبهم وزوال كربهم.

السلطة الغائبة

لا وجود لأي مظاهر للسلطة في الأهوار ولا يمكنك لمح ولو شرطي يمشي هناك إلا عندما توجه لهم الدعوة لحضور وليمة عشائرية للمجاملة أو بمناسبة فرح أو حزن وعداها فليس لأحد سلطة على أحد هنا، ولا ندري من يشرف على حماية القانون في منطقة ذكرنا أن مساحتها تزيد عشرة أضعاف دول أعضاء في الأمم المتحدة. لا يوجد مركز واحد للشرطة في الأهوار والناس يحتكمون لحل نزاعاتهم للقضاء العشائري. و إذا أراد أحد المسؤولين المحليين تصوير نفسه في الأهوار فان مئات الشرطة سيظهرون مع مركباتهم الحديثة وأسلحتهم لاستكمال المشهد. من الممكن حل هذه المشكلة بالاتفاق مع العشائر وتعيين أبنائهم في الشرطة الخاصة بمناطقهم، لأن أي شرطي غريب سيتعرض للمتاعب هناك ولن يستطيع حل أي مشكلة وسيكون هو أساس أي خلاف يحصل بين الأطراف الأخرى، لكون السكان يرفضون تدخل الغرباء في حل منازعاتهم. ولو يفترض وجود مراكز شرطة في الأهوار، أو تسيير دوريات جوالة، فهذه لا تستطيع القبض على أي لص، لأنه لو دخل إلى الهور فلا أحد يمكنه اللحاق به أو القبض عليه وإذا حدث وأن لاحقوه سيقتلون جميعا لأن النيران ستصوب عليهم من كل حدب وصوب. هنا، حالات القتل بسبب الثأر أو الشرف وهذه لا تستطيع قوة رسمية السيطرة عليها وحتى حين حدثنا قائد قوات المغاوير في الناصرية "عبد الأمير جبار المنادي" أبدى الموقف نفسه، وفي غضون حديثنا طلب من زعيم احد العشائر التي تشاركنا الجلسة حل خلاف حصل له شخصيا مع أحد المطلوبين للنظام السابق. ان لجوء قائد قوات المغاوير وهي القوة الأولى لوزارة الداخلية، إلى العشائر لحل قضية تخصه، يدل بشكل واضح على أنهم فعلا لا يحتاجون إلى مراكز للشرطة في الأهوار.

مسامير الوداع

اننا راحلون، لم يحمل أحد حقائبك فهذه شيمهم، لا يساعدونك على الرحيل وإن رفع أحد حقائبك قد يفهم أنه مرتاح لمغادرتك، عرفنا هذه العادة الفذة حينما انتقلنا من مضيف لآخر. تذكرنا الامتحان الأول الذي أراد فيه حكيم المضيف اختبار ذكائنا، كما جرت الأعراف هنا: لا يشعرون الضيف بأنهم أعلى وأذكى منه لكنهم يهوون التأكد من فصاحته ووزنه: بطريقتهم. سألنا: أي ثمن ستقدم لو أعيدت لك ساعة واحدة من صباك؟ أجبناه: كل عمري القادم! فهتف الجميع: أحسنت! وقال الحكيم: انك أول شخص جلس في هذا المضيف لفظ الجواب الصحيح. ثم ردد هذا الشعر لمسيـّر آل فليح:

دمه هلـّن عيوني من صــــباتي
وعليّ أنغن أيامي من صـــــباتي
لو أن ساعة تحصلي من صباتي
أبدلها بجميع الباقي ليـّه

صباح الوداع، كان الجميع متأهبون لمشاطرتنا اللحظات الصعبة، سهر إبراهيم محمد آل ضهد الليل كله ليكتب قصيدة ويهديها لنا في الصباح، اقترب الشيخ منذر سعدون حسين آل قطان وقال: انك ابننا.. هذه الفترة التي قضيتها بيننا كما لو كانت العمر كله، كأنك عشت بيننا منذ ولادتك، انك ابننا! خففنا عنه مشقة التوديع بالتأكيد على زيارتهم في أقرب فرصة: لا أمر على الجنوب بدون المبيت عندكم. كان لديهم واجب المشاركة في تشييع، فانشطروا إلى جمعين، الأول ذهب للتشييع مع الشيخ، والباقين تكفلوا توديعنا. المثير اننا رأينا عددا من السيارات وكلهم يحملون حقائب معهم فقلنا لهم: تكفي سيارة واحدة توصلني إلى كراج بغداد ومن هناك استقل سيارة أجرة.لم نظن بأن أربع سيارات فيها 14 شخصا قرروا توصلينا إلى بيتنا في بغداد قال رياض: هل تمزح أي كراج نوصلك إليه، الجميع يريدون توديعك حتى باب بيتكم في بغداد! برجاء وتوسل اختصرنا العدد إلى النصف لكي لا نكلفهم مشاق الطريق وخطورة العاصمة ومفاجآتها غير المواتية، اخترنا الشبان منهم لكي لا يتعب الأكبر سنا، ففرح مهند حين وقع عليه الاختيار: عندما نوصلك للبيت لا نشعر بأنك غادرت! أسلوب توديع يترك أمل التواصل، نتلمسه بطيب وإخلاص أناس لن تقابلهم سوى مرة واحدة أيضا وخفف كثيرا على وطأة مفارقة من أودعك آماله وصرح بجرأة على موطن آلامه. كانوا رجالا بطبيعتهم ولم يتعمدوا إظهار الرجولة، فحين داهمتنا مرة ريح «الزجري» وكنا وسط مساحة مائية بدون غطاء أو تجمع قصب نحتمي به، كأن انقلاب الزورق وشيكا، وكان على الجميع السباحة مسافة قد تطول، لكن نهيـّض قفز إلى الماء بدون أن ينشده أحد، وسبح في مؤخرة المشحوف لكي يثبته من جهة، ويقلل وزن رجل عليه. كانت خشيتنا محصورة في تلف الكاميرا بالماء وضياعها مع صور كثيرة، فكل أجهزتنا تقريبا كانت في الزورق ولم تكن السباحة تخيف أي منا، لكن حرص نهيـّض الفطري حوله إلى شراع للآخرين حتى تجاوزنا عمق المسطح المائي واقتربنا من أول جباشة واحتمينا بها بانتظار مرور «الزجري». كان الحذر البالغ، القاعدة التي تعلمناها منهم وهي مغروسة في جيناتهم وطباع البلاد وأوضاعها المتقلبة، لكن عندما نكون على اليابسة ولحظة ظهور حركة غريبة، سيارة كانت أم عابرين مجهولين، كانوا يسحبون أقسام البنادق بحركة واحدة كما لو شعروا بالخطر في اللحظة نفسها. لحظات وإن كانت تمر كسهم، إلا أنها خشيتهم البالغة على حياة الضيف الذي اعتبروه ابنهم. لقد شعروا بذلك وقالها جبار منذ اليوم الأول: طالما لا تخاف من الكلاب ولا تهاجمك وتمر قربك الجواميس بدون رهبة منك ومنها فأنت من أهل الديرة. لم يكن هينا مفارقة هؤلاء الناس ولا الليل في الأهوار ولا متعة القوارب وهي تجوس في المياه و سناء فرش الدغل وذوائب القصب والبردي والمرور عبر «الكواهين» الضيقة وانفتاح الصوابيط على الفضاء المائي وأذرع السعف المتمايلة من نخلة منفردة وسط بحيرة واندلاق الشمس على الأشنات ورائحة الهور التي تتفتق ما أن تمضي فيه وحين يختنق الماء في مكان ليمنحك فرصة كتابة اسمك على الشنبلان، متموجا بين الماء والخضرة المزخرفة جبهة الأمواج المتخثرة بالطحالب وخصائص القصب و وحشة الهور حين يخلو من الطيور وكواسر الليل التي تخسف أحلام ليلة مشبعة بالزئير. لم يكن هينـّا تعويض هذه اللوحة بإسمنت العاصمة وزعيق الخلق والواجهات التجارية وإعلانات البضائع المغشوشة وهوام عربات الشرطة وإطلاق النار في كل صوب وجرح الهواء والهيئة المعادة للرجال والنساء. حقا، كان شعورا مفاجئ بالغربة حين أدركنا العاصمة وأسلاكها وحواجزها، كمن انتقل فجأة من نسيم إلى صيهود ومن نقاء إلى غبار ومن الجنة وما فيها إلى الجحيم وطبقاته. سيمر الكثير من الوقت، وربما العديد من السنوات، لكي يتسنى تعويض ولو فجر واحد أطلت به الأطيار في فضاء كله أعشاب وماء وزرقة حقيقية لسماء واحدة وقلوب مفتوحة، مشرعة بالأمل.