الثلاثاء، 26 فبراير 2008

تسليم النجف







النجف - د . جمال حسين علي:

لم يتفقوا على تسمية محددة لهم بعد، أولئك الفتية الذين اتخذوا الحرب مهنة لهم بخيارهم، دون أن يزجهم أحد في أتونها. ظهروا بشكل مباغت في مواجهات محلية سابقة وكانت لهم مواقف تحدث عنها كل الأضداد. بدأوا كتائب ثم أفواجا، وسيزدادون عدة وعددا، طالما تلفظ النيران بريقها على هذه الأرض، وسيعيشون كأشجار مثمرة في البلاد التي ما إن رأتهم مقبلين - في تلك الأيام التي استسلمت فيها الشوارع والأزقة للصوص والمجرمين - حتى فاضت بالأزهار، مانحة ثقتها بعدالة الراية التي تحملها سواعدهم التي قد تحمي من لا حول له ولا قوة في اللحظات المتبقية له قبل أن يموت.

الفتية الذين نوقشت ملفاتهم في قمم الرؤساء وحانات المنظمات وكهوف المجاهدين وصالات العشاء الأخير قبل قص شريط تخرجهم، شبان الوجبة الأولى للجيش العراقي الجديد الذي خلف ذلك المعجون بالحروب، والذيناحتاروا في تسميتهم لغاية اللحظة التي دبت في بنادقهم النيران لفض اشتباكات الإخوةِِ التي تحولت تدريجيا الى حروب الجميع ضد الجميعِ أولئك الذين يسمونهم اليوم : قوات الحرس الوطني.
يسميهم أعداؤهم 'دروع الاحتلال'، وصفا لاذعا لخصومهم، كون طبيعة الأمور تفرض وجودهم في الصفوف الأولى، عند نقاط التفتيش والحواجز، وتنفيذا لمطالب أهل الدولة الذين طالما كرروا على الأميركان، ضرورة استبدال قواتهم، برجال لهم السحنة واللغة نفسها للشعب. لكن استبدالهم بالقوات الأجنبية، منحهم لقبا آخر، بالرغم، من أن واجباتهم الأساسية، ليست بالضرورة مساعدة المحتلين على الإمعان في احتلالهم، بل العكس أقرب في الواقع، حيث يخفف تواجدهم بالقرب من الشعب، معاناته وآلامه التي قد يسببها تواجد أجنبي فظ.
العملاء
وهذا نعت آخر يوصفون به، من أولئك الذين كانوا يوجهون انتقاداتهم بسبب عدم وجود جيش في البلاد. وما أن بدأ القائمون على الوضع تأسيس جيش جديد، حتى سارعوا بتسميتهم العملاء، قبل أن يروهم. وأسموهم المرتزقة، بينما هم عراقيون اختاروا طواعية مهنة العسكر ليخدموا داخل المساحة الجغرافية لبلادهم، ويتلقوا من وزارة عراقية مرتباتهم، وينفذوا مهام معلنة وغير سرية، وتحت مراقبة الرأي العام،وكانت لهم مواقف في معارك الفلوجة، ولم يسجل لهم حتى أعداؤهم أي تورط مشين في معارك النجف.
حمدا للسلامة
وصفوهم بشتى النعوت، هؤلاء الشبان العراقيون في الحرس الوطنيِ ولأننا من القلب نتمنى السلامة لكل البشر، فقد استبدلنا تحيتنا بعبارة: حمدا لله على السلامة ! فهؤلاء خرجوا توا من جوف النار والمواجهة غير المواتية، عندما يسلب الرصاص منك حق الاختيار وتوجهه الى أخيك. كنا نرى وقع هذه العبارة عليهم، وكانوا يتأثرون جدا عندما يسمعونها، فمنهم من يعانقنا وآخر يقبلنا وكأننا تفارقنا البارحة فقط بعد صداقة عمر.فيهم طيبة لا محدودة ورائحة أهل البلد وعلى سجيتهم ومطيعين للغاية وغير عدوانيين، بالرغم من أن بعض عنجهية الأميركان تسربت إليهم تطبيقا للمثل: من عاشر القوم أربعين يوما. لكنها غير واضحة وتبرز فيالمواقف المتشنجة أصلا.
توقف .. سر
وهم أهل قانون، حتى لو تجاوزت القانون أمامهم، فسيواجهونك به وبالمعروف. فالوضع في النجف لاسيما في الساعات الأولى لدخولهم الى المناطق التي كان يسيطر عليها جيش المهدي، لا تسمح لهم بالانشغال مع باحث عن الأنباء أو مصورِ فقد كانوا يجتازون مواقع كانت قبل ساعات يتمركز فيها "عدو ". وكأي جيش لابد له من التقدم والاستيلاء عليها بحذر متداركا وجود ألغام أو عبوات ناسفة موقوتة أو سلاحا غير مؤمنِِ وغير ذلك من مشاكل المعارك. أي أن الوضع الخاص والعام، الفردي والمجموع كان مشحونا ومتوترا جدا، وفي هذه اللحظات يدخل شخص في زحمة هذه المشاغل والهموم، ليصور! أكثر من عشر مرات تم إيقافنا وسحبنا من 'المواقع العسكرية' وعرضنا على الضابط المسؤول عن الموقع، سجلت عدستنا منها موقفين فقط، حيث يظهر الضباط وهم يتفحصون هوية 'القبس' ويحدقون فيها وبنا.طبعا، في تلك اللحظات التي يحدق فيها الضابط بالهوية، يفكر في تقرير مصيرنا، لذلك، وحسب الخبرة، لا ينبغي تضييع أي جزء من الثانية وتدبير الأمر معه بما يتيسر من حديث يجب أن يتناسب مع وضعه في اللحظةالراهنة. في كل حالات الإيقاف التي تعرضنا لها كانت النتيجة الإفراج بعد دقائق، لكن طلبا - كما لو أن الجميع اتفقوا عليه - كنا نسمعه دائما منهم: احتكم الى ضميرك عندما تكتب!
معاناة
يبدو أن قادة الحرس الوطني في النجف، وغيرها أيضا، يعتقدون بأن الإعلام لم ينصفهم جيدا، ويردد تلك النعوت التي ذكرت في المقدمة.وهو إحساس بالظلم لمسناه من رجال يشعرون بأنهم يخدمون في جيش وطني وحراس لبلد يمر بوضع استثنائي، وفي كل الأحوال فإن عدم وجودهم سيضر بهذا الوطن أكثرِ وإذا كان الوطن يتعرض للاحتلال أو للتدخل الأجنبي لهذا الطرف أو ذاك، فالذنب لا يقع لمن اختار العسكرية مهنة له في بلاده. فهؤلاء الفتية يقفون ساعات طويلة تحت القيظ والنار والأخطار، لا ليحموا أنفسهم، بل مؤسسات ومنشآت الدولة والمسؤولين عليها، يحمون الطرق والجسور والمستشفيات والمدارس، ويطفئون الحرائق ويواجهونالعصابات التي تروع الناس بالسلب والنهب والاختطافِ وإذا كان خصومهم بفضائياتهم يتناسون دور المجرمين الحقيقيين الذين أخروا عجلة البلاد عن الدوران ويلقون باللوم على كل ما تفعله الحكومة وأجهزتها، فان ذلك في كل المقاييس ليس ذنب رجال الحرس الوطني ولا الشرطة ولا أي جهاز آخر.
استنفار عام
في النجف كل القوى الأمنية العراقية وما تمتلكه الحكومة من وسائل الحفاظ على الأمن والقانون. وتعبئة الجهود، والقوى كلها في مكان واحد، له سلبية واحدة مقابل الكثير من الإيجابيات. السلبية تكمن في صعوبة التنسيق بين الأجهزة الأمنية المختلفة، بينما وجودها مجتمعة، يحسب لصالح التخصص بحيث يأخذ كل ذي خبرة دورهِكما أن مراقبة الأجهزة لعمل الأخرى، يمنع التجاوزات، فمثلا، لو قام بعض أفراد الحرس الوطني بتجاوز ما، فسيمنعهم رجال الاستخبارات، ولو قامت شرطة المرور بفعل غير صحيح، فسيوقفهم رجال مكافحة الإجراموهكذا.
البحث عن الموت
كانت أول مهمة كلفت بها الأجهزة الأمنية الوطنية وفي مقدمتهم الحرس الوطني، البحث عن مخابئ الأسلحة والذخائر وإبطال ما قد يسبب مفاجآت مميتة. لقد عثر مقاتلو الحرس الوطني على كميات لا بأس بها من السلاح، غير أنهم لم يضعوا أيديهم على معظم السلاح الذي كان موجودا لدى عناصر جيش المهدي، الذين انسحبوا بخطة وسيناريو محكمين دون أن يخلفواوراءهم أسلحة جدية - عدا مدفع 57 تركوه بالقرب من الصحن الحيدري، لعل حمله ونقله كان صعبا عليهم ، لأنهم انسحبوا بدون سيارات - وبعض القذائف والعتاد القديم.
تعاطف شعبي
أن الذي خطط لوضع الحرس الوطني في مطلع القوات الحكومية الداخلة الى النجف، أصاب في قراره الى حد بعيد، فقد جرى استقبال هؤلاء الفتية من الأهالي بشكل حسن، وتعاونوا معهم بإيجابية وأرشدوهم الى مخابئالأسلحة والمعتقلات وما أشيع على تسميتها 'المقابر الجماعية' ولفتوا أنظارهم الى المباني المدمرة التي سقطت على ساكنيها وغيرها. بتمن نقولها، أن العلاقة بنيت بشكل صحيح منذ البداية، لكن الحالة برمتها لا تسمح دائما بالصفاء، طالما توجد قوى تلعب دورها في هذه اللحظاتِكما أن الظرف يحتم تصادم الأهالي مع أصحاب البيت الجدد، فمثلا، عندما يقررون عدم دخول أحد الى مسافة كذا من الصحن الحيدري، فان هذا القرار غير الشعبي، سيؤدي بالضرورة الى مصادمة ولو بالكلام. فثمة أصحاب أملاك في تلك المنطقة، لا يستطيعون تفقد أملاكهم، وهناك من اعتاد مخالفة الأوامر أضف إليهم الفضوليين والمخبرين وما أكثرهم.
حماية الآخر
وللحرس الوطني دور تعدى الأمني، ليتداخل بعض الشيء بالبناءِ فقد أوكلت إليهم مهمة حماية عمال البلدية والمتطوعين الذي قدموا من كربلاء لإزالة الأنقاض وتنظيف المدينة، التي بدأوا حملتها منذ اليوم الأول ابتداء من الصحن. كلفوا أيضا بحماية ممتلكات المواطنين الذين غادروا المدينة هربا، ومئات المتاجر التي سلمت من الحرق والقصف وما تبقى من المؤسسات الحكومية وشبكة الكهرباء وأبراجها ومحولاتها وغيرها من بنى تحتية خاصة بالمدينة.
زيارة ليست عسكرية
عندما توقفت سيارة تقل مجموعة من أفراد الحرس الوطني أمام البوابة الرئيسية للضريح، لم نعرف هدفهم، حيث نزلوا من حوض العربة برشاقة، وتوجهوا الى البوابة واصطفوا كما لو كانوا سيؤدون تحية عسكريةلموكب. لم تفت هذه اللقطة عدستنا، فقد كانت مؤثرة جدا، فالشبان كانوا يؤدون التحية للإمام علي ويمارسون طقوس الزيارة ويقرأون الفاتحةِلكن سرعان ما تقدم منا صاحب أضخم شارب فيهم وحاول منعنا من تصويرهم، ولأول مرة نجد أنفسنا مجبرين للتوضيح بأسلوب الهجوم كأفضل وسيلة للدفاع بالقول: هذه الصورة لصالحكم فأنتم تعلمون ماذا يقولونعنكم ،ان صورتكم وأنتم تؤدون الزيارة سترد على اتهاماتهم واحتكارهم التقوىِ بعد أن سمع الضابط الشاب المرافق للمجموعة هذه الجمل، نهر صاحب الشوارب الكثة وتابعوا تأديتهم الزيارة.
استراحة محارب
أن توفير الأهالي الماء البارد والسجاد والكراسي لقوات الحرس الوطني والشرطة، دليل واضح على رفض الناس لأصحاب البيت القدامى وترحيبهم بالجدد، وهذه المظاهر كلها مسجلة بالعدسة وليست من بنات الأفكار وموهبة التخمين. ولعل أجمل غنائم هذه الحرب، جلسة على حصير أمام المرقد وتناول بعض الماء من يد صبية تريد للجميع السلام والذهاب بأسرع وقت الى مدرستها القريبة، المنزوعة السلاح.