الأربعاء، 27 فبراير 2008

دبابيس اليأس مفتولة بالقرى


المنامة - د . جمال حسين علي

هناك تنتهي تخوم وتبدأ أخرى.وهناك يبردون في الشتاء ويذبلون في الصيف، حيث الطقس غير معتدل دائما وفيه الكثير من الوجوم وفي المنازل المزيد من البطون وأكثر منها الأضراس التي تريد أن تعمل.وهناك أناس لا ينصاعون لأحد ولا يصدقون البيانات ولا يثقون بالصحف وبيوتهم ناقصة أحد الرجال على الدوام لأنهم مولعون جدا بالرفض ولا يعرفون التزوير والمماطلة والمجاملة وأسنانهم لا تبتسم لأي مسؤول أيا كان، ولديهم صدور تهوى اللطم في كل فجر وأفئدتهم فيها من الندوب ما يطمر البحر أسرع من المكنات الحديثة المستوردة، وعندهم الشمس لا تنام وإذا فقدوا رجلا ظهر بمكانه آخر في اللحظة نفسها، مشاكسون لا يداس لهم على طرف، ولو ألقيت عليهم كل الغازات المسيلة للدموع فسينفجرون من الضحك، لأن دموعهم تنهمر كل يوم بمعونة الغازات وبدونها. ولكل حصته من الرصاص المطاطي الذي يتلاعبون في خراطيشه كما لو كانوا في افتتان. محيرون صغارا وكبارا، أطفالا وشيوخا، أصحاء ومرضى، طائرين كانوا أو مقعدين، هكذا هم جسد ولد من تلابيب الأرض وإن انطفأت منهم شعلة، توردت آلاف غيرها، ضللهم الفقر ومذلة العوز وكنجمة جريحة تنساب من كل صوب، لتصادق النار، لكن لو أقبلت عليهم سيسورون ناصيتك والتراب الذي تحت قدميك بالفرح والحياء وسيكثرون من حولك بتوقد السحاب قبل مجيء المطر.وهناك المجامر والعنف الراقد وفتية يتعاضدون وجباه تعرف الخجل وأكف لا ينبغي أن تتحرش بها والمرأة فيهم بألف من 'رجال الأنابيب' المولودين بتراضي الجينات المعولمة. أنهم أناس القرى البحرينية الذين فاتهم الزمان جدا كأنهم خرجوا إلى الدنيا لكي يلموا فتاتها ويلثموا أرزاقها ويشموا عن بعد عبقها ويصوروا للذكرى أريجها.
القرى المعطاء
لقد أنتجت قرى البحرين الكثير جدا من الفنانين والأدباء والمفكرين والسياسيين والرياضيين والمبدعين في شتى المجالات، وكأنه القانون الطبيعي الذي تعودنا عليه في كل الكوكب، كلما ازددت فقرا شع ثراءك الإبداعي، وهي نظرية لم تثبت، لأن أحدا لا يريد الاقتناع بها، والمبدعون في البحرين ليسوا استثناء.لذلك ليس من المستغرب أن يلتقوا جميعا، الطبيب والمهندس والحوذي وصانع الفخار والخباز والنجار ودفان القبور بهم واحد ويتداعوا معا في لحمة متراصة لو أصاب أي منهم أي خطب، اتحاد طبيعي لطبقة عانت العسر ولا ينبغي أن تفهم أكثر من ذلك ولا ضرورة لأن تستدعي تصرفاتهم غضب أحد وتهور آخر.انهم يعبرون عما يشعرون به وما آلت إليه أوضاعهم. وحينما زفت لهم مباهج 'الميثاق' رفعوا سيارة الملك من على الأرض، زفوا جلالته في عرس لم تشهده البحرين المعاصرة طوال تاريخها.لم يولدوا رافضين وباستطاعة النهر إذا مشى في مجراه الصحيح، فلا يعترضون سبيله، لأنهم ليسوا معارضة لأنهم يحبون ذلك أو لأنهم جبلوا على الالتصاق بالفقر وهوايتهم السكن في السجون وإملاء المكان الشاغر في المعتقلات، انهم أحوج من أي هراوة للسكون وإيداع الغد برأفة المتأمل الرهيف.
مثال للعميان
ثمة أمور لا تحتاج إلى إثبات وحنكة وحذق مبهر، ويتسنى حتى للأعمى رؤيتها.تجوالنا في قرى مثل السنابس والدراز وبني جمرة ودمستان وكرانه والمقشع والشاخورة وجنوثان وبربار وغيرها، أعطانا اليقين بأن ثمة خطأ في مكان ما، فقد تغيرت هناك الأجواء وظهرت المجاري الطافحة وازدهرت القمامة المكومة من شهر على الأقل وتهالكت المنازل وامحى الجير من الشوارع فبانت على طبيعتها الترابية والتصقت البيوت التي تحاول جاهدة السقوط لكن عناية البيوت التي بجانبها وبفضل الجاذبية الأرضية على الأرجح بقيت مستقرة على أساسها. لكن المثير الذي لم يعد مستغربا، أنه حال خروجنا بمتر واحد عن حدود القرى يتغير كل شيء كأنما يظهر لنا 'وطن آخر' حيث تعود المملكة الخليجية الصغيرة بأحلى ما يمكن من تناسق شوارع ونظافة وريعان خضار وأشجار ملطفة بالسماد المستورد وإشارات مرور ونظام ويافطات تخبرنا بأجود المأكولات وأثرى البنوك وأوسع الحدائق.
أسئلة ما بعد المثال
ألا يحق لأي شخص مطمور في هذه القرى أن يئن على سبيل الافتراض، وهو يرى كل شيء من حوله زاهيا متنعما من رحمات وبركات ثروة بلاده وهو يعيش العام تلو العام، بانتظار الفرج.. أطفاله يقطعون الطرق الترابية مشيا ذهابا وإيابا إلى مدارسهم المعفاة من الخدمات الكاملة منذ دهور، ألا يعطينا كزوار طارئين انطباعا بأن هذا الإهمال للقرى هو تهميش متعمد يكون سببه عند أدنى الحدود سياسيا وليس شيئا آخر لا نريد التطرق إليه لأنه معروف للجميع. تذكرنا هذه المشاهد في الفرق الشاسع بين الضاحية الشرقية والجنوبية من بيروت ومدينة الثورة في بغداد وأحياء المسحوقين في القاهرة والكثير من الأمثلة، في مدننا غير العادلة. فلماذا يزعلون إذن، وتظهر مراجلهم لو قرر هؤلاء المساكين الخروج في مناسبات ما والتعبير عن حاجتهم القصوى للحياة؟ أليس الأموال التي تصرف على فرق مكافحة 'الشغب' (لو نزيل النقطة من فوق العين تكون التسمية أصوب إلى حد بعيد) كافية لتعمير هذه القرى، وبدلا من تسمين هذه الفرق وتزويدها بالمعدات الحديثة والغازات والرصاص المطاطي والدروع، لماذا لا تحول هذه الأموال لتعبيد طريق وتزيين حديقة وترتيب حدود المقبرة التي دخل أمواتها وزاحموا الأحياء ونغصوا عيشتهم!
الغضب المفسر
حين قمنا بتغطية إحدى التظاهرات التي خرجت من هذه القرى، داهمنا انطباع وفهم لحالة الغضب الذي فسره أحد الزملاء بعبارة مهمة للغاية: كل حادثة في البحرين مهما كانت تنعكس وتؤثر في الجو العام برمته للبلاد. هذه العبارة وما رأيناه وسمعناه من حناجر نسوة هززن الأرض بهتافاتهن يعطي فهما واحدا لا تفسير آخر غيره وهو وجود ما يسمونه في علم النفس: الاحتقان.لماذا يتفق الجميع في هذه القرى على شعار واحد؟ وهل هم فعلا يهوون السياسة ومنتمون لجمعيات وأحزاب؟ بالتأكيد كلا، انهم ينتمون إلى حزب واحد هو: الإهمال والفقر والبطالة والحيف والتمييز وغيرها من أمور لو صببتها على جبل لرأيته جاثيا متكسرا من هولها. لماذا عليهم تحمل كل شيء وكأن هذا الكل شيء من طبائع الحياة وعلى المرء تحمل العلقم والابتسام بعده كأنه تناول العسل. ماذا يخسر الجميع لو تكاتفوا ووضعوا الكف فوق الكف والدينار على الدينار وأحيوا النفس الإنساني في هذه القرى. وكم عليها التوجع، والانتظار، هذه القرى وكم من جيل ستنجب لتعاد الحياة إلى نصابها.
أحياء فحسب
لا نعرف أصل التسمية المعروفة بالقرى التي تطلق على هذه الأماكن، فهي ليست قرى بالمفهوم المعروف للكلمة. وحتى البحرين لا تتحمل هذا العدد من القرى. فهي لا تبعد كثيرا عن العاصمة وأحيانا تحدها بأشبار قليلة وليس بأمتار. أنها باختصار يوضح جوهر القضية أحياء معزولة ومنسية وتعيش حالة فقر وبمنتهى الوداعة.لذلك لا تجد فيها صورة أي رسمي، ان الناس، وربما الأحزاب يرفعون صور رجال دين فالدراز مثلا تنتشر فيها صور الشيخ عيسى أحمد قاسم لشعبيته الواضحة كونها معقله ومسقط رأسه وهكذا.والواضح ان الأحزاب الدينية خاصة، تهتم كثيرا بصور زعمائها ومراجعها وكأن هذه الصور ستفعل شيئا وترفع من مستوى القرى وحالتها، وكان الأجدر بهم اتخاذ بضع خطوات جديرة بالإشارة ولاسيما التي اتخذها بعض التجار المتمكنين الذين شيدوا مجمعات سكنية للفقراء في تلك القرى.
المتنفس الوحيد
المعارضة السياسية أو الشعبية في أي بلد تتناسب حدتها مع الوضع الاقتصادي والمعيشي، فلو انشغل الناس بأعمالهم التي تدر عليهم رزقا مناسبا لما حصلوا على جهد ووقت للخروج في تظاهرات باتت دورية في البحرين. فالمعارضة البحرينية في السبعينات كانت قوية ومتعددة ولها تنظيمات في غاية التنوع : الماركسية والقومية والإسلامية عدا الجبهات الراديكالية، لكن الوضع لم يصل حينذاك لحد المجابهات المستمرة والدامية بينها والسلطة. ويعزى الأمر لكون البلاد كانت تشهد طفرة اقتصادية أثرت في مستواها ووضعها التجاري والاجتماعي وبدأت تضخ أموالها في إنشاء بنية تحتية جيدة وكان الجميع يعمل، على عكس ما تمر به اليوم حيث نسبة البطالة تزيد الحد المناسب ونسبة البحرينيين العاملين في القطاع الخاص يمثلون 21 % فقط حسب معطيات الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية والمنشورة بمطبوع رسمي. كما لا يوجد أي نمو في وظائف القطاع العام المشغول حاليا ببرامج الخصخصة.ولأن العاطلين عن العمل أغلبهم من القرى وقسم كبير منهم يحمل شهادات حتى عليا، إلا أنهم ينتظرون دورهم بعد أن سجلوا أسماءهم في 'المشروع الوطني للتوظيف'.ويعاني الجامعيون بتدني مرتباتهم التي لا تتجاوز في أحيان كثيرة 150 دينارا في الشهر، وهذا يؤثر سلبا في الفتيان الذين ينظرون لحال الخريجين فتنمو لديهم حالة اليأس من الدراسة لتبدأ ظاهرة التسرب من المدارس نحو الشوارع للعمل كباعة متجولين وامتهان غسل السيارات أو أي مهنة تطيح بمستقبلهم نهائيا. المعارضة السياسية الحالية استثمرت طوابير العاطلين، وهذا شغلها، لتشعل الساحة مجددا بتظاهرات بلا نهاية وأحيانا لأي سبب ليبدأ عراك الشوارع مع الفرق الخاصة الذي أصبح المهنة الجديدة للشباب العاطل.
للرمق الأخير
ولو استمرت الحال على ما هي عليه الآن لاستمر العنف والعنف المضاد، ومشاكل القرى في البحرين لا تحلها المسكنات والمنح والصناديق الخيرية، بل تحلها الصراحة والعمل الدؤوب لإخراجها لكي تتساوى مع باقي مناطق المملكة في كل شيء وإيجاد فرص عمل لنحو 30 ألف عاطل فيها يشكلون نسبة كبرى من القوة القادرة على العمل في المجتمع. وإلا ستبقى هذه القرى ككيانات معزولة ومستقلة، لا أفراحها تنسجم مع الآخرين ولا أحزانها تصل إلى قلوب من هم في الضفة الأخرى من الحياة.
القرية الملونة
هي قرية صغيرة في المحافظة الشمالية، يسمونها قرية القلعة، لأن قلعة البحرين تطل عليها وهذا بحد ذاته يحملها مسؤولية كبيرة كونها تحتضن عمق التاريخ البحريني.ولكونها معلما سياحيا ولابد لأي زائر للقلعة المرور بها، فقد أشيع أن وزارة الإعلام تريد ضمها إلى القلعة وتحويلها إلى معلم سياحي كما قالوا، لكن شيئا من ذلك لم يحصل لغاية مرورنا بها. ما يثير في هذه القرية ليس انعدام كل شيء فيها كالمجاري المؤدبة وحدائق الأطفال والبيوت القديمة التي تتناوب الرمال التحرش بها فحسب، بل أنها ملونة وبإسراف!فقد قامت ما يطلقون عليها 'جمعية المرسم الحسيني' بطلاء كل واجهات البيوت ورسم مختلف التشكيلات في كل شيء فيها، البيوت والمسجد والمأتمين والمحلات وكراجات السيارات حتى حاويات القمامة.