الاثنين، 25 فبراير 2008

مراسل حربي يتسلح بدكتوراه في الفيزياء النووية - جمال حسين علي.. مسافر على جبهات النار







جريدة البيان - وارد بدر السالم :

عندما غادر الدكتور جمال حسين علي العراق في الثمانينات إلى موسكو ،ترك وراءه ثلاث روايات هي «صيف في الجنوب» و«الفنارات» و«التوأم» وثلاث مجموعات قصصية هي «ظل متبخر» و«الضريح الحي» و«التويجات» لينغمر في الدراسة الجامعية الصعبة في بحر العلوم النووية ويظفر بشهادة الدكتوراه بهذا الاختصاص النادر «دكتوراه في الفيزياء النووية»، غير أن قلق الكتابة والصحافة ظل هاجسه الأول، لكن باتجاه آخر هو الاتجاه البحثي والسياسي ومن ثم الميداني، حين شغلته الحروب لأن يكون مراسلاً حربياً في ساحات المعارك الساخنة، يرى ويصور ويكتب ويؤلف، ومن هذه التجارب سيصدر له كتاب «افتتاح ثقب الإبرة» عن دار السويدي في أبوظبي وهو كتاب ميداني عن حرب أفغانستان التي عاشها الكاتب لحظة بلحظة، ونفس الدار تبنت نشر كتبه الثلاثة اللاحقة «مؤاساة لنهوض الجحيم» عن حرب الشيشان و«مذبح الأزهار» عن كردستان العراقية و«لوح الأفول الأول» عن تجربته الميدانية في الغزو الأميركي للعراق. وغير ذلك فقد أصدر كتاب «الكرملين وأزمة الكويت» وكتاب «القادة السبعة» عن قادة الاتحاد السوفيتي السابق وكتاب «الإسلام في روسيا» وآخر كتبه التي تتردد بعض الصحف ودور النشر عن نشره هو كتاب «حقيقة أسلحة الدمار الشامل الإيرانية ـ الدور الروسي» لما يتضمنه من معلومات «نووية» جديدة كان المؤلف قريبا من حقيقتها .
دخل العمل الصحافي العربي القرن الحادي والعشرين عبر الحروب التي اشتعلت في مناطق مختلفة من العالم، ولعل بعض الفضائيات العربية تمكنت من أن تكون رائدة في هذا الميدان وهي تقترب من خطوط التماس وتنقل إلى المشاهد العربي صور الموت والدمار والاحتلالات الميدانية ؛ وإذا كانت صورة الفضائيات قد طغت في حضورها الميداني، فإن (المراسل الحربي) الذي يتابع المعارك والحروب بكاميرته وقلمه يكاد يكون مجهولاً إلى القارئ العربي، رغم أنه لا يقل أهمية عن المراسل الفضائي، ولعل تجربة الدكتور «جمال حسين علي» لافتة للانتباه في هذا الميدان الخطير، فهو أول مراسل حربي عربي دخل غمار حروب مختلفة مراسلاً حربياً إلى صحيفة القبس الكويتية وموثقاً الكثير من المشاهدات الميدانية في الساحة السوفيتية لا سيما في معارك الشيشان والبوسنة ومن ثم في أفغانستان والعراقولبنان ودارفور ، ولعله أول عراقي يحصل على جائزة الصحافة العربية في ميدان التحقيق الصحافي عن معارك النجف التي وثقها بالصورة الحية والمشاهدات الكثيرة التي لم تتمكن العدسات الفضائيات من تسجيلها وقتذاك.
جمال حسين علي يكشف في هذا اللقاء عن آليات العمل الحربي الميداني وصعوباته ومحدداته وظروف العمل في المناطق الساخنة من العالم، ويفتح لنا أجواء الميدان العسكري وأسراره وطرائق التعامل معه والتحكم بمفاجآته غير السارّة في كثير من الأحيان.
* عملتَ مراسلاً حربياً في النقاط الساخنة في الساحة السوفيتية السابقة، هل تحدثنا عن تلك التجربة وأمكنتها؟
ـ كانت مناطق حروب ساخنة جداً وغير تقليدية، فالعمل الصحافي هو انعكاس للحرب وطبيعتها كما سنسوي الأمر مع حروب وجدنا التجارب الماضية فيها لا تنفع. فكما تتطور الحروب، لابد وأن يتطور معها الإنجاز الصحافي. فلم تكن تجارب حرب أرمينيا وأذربيجان والحالة في سوخومي وحربها مع جورجيا، تشبه بما حصل في الحرب الشيشانية. فقد كانت المعارك الأولى بين ميليشيات ظهرت بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وكلها تستخدم الأساليب والأسلحة وحتى الملابس واللغة نفسها، ولا تكاد تميز فيما بينها، بينما كانت الحرب الشيشانية مختلفة في طبيعة القدرة النارية الهائلة التي كانت تصب على نقاط التماس من جهة وعلى المدن المأهولة بالسكان من جهة أخرى.
* وكيف عملتم في أفغانستان؟
ـ إن القاعدة الذهبية الأولى التي خرجت بها: اذهب إلى الحرب قبل وقوعها. والثانية : استثمر كل ثانية وفرصة وابتكر عيوناً إضافية وتلقف كل الشارات والإيماءات. والثالثة : عمّر روحك بالصبر وجيوبك بالنقود وحقيبتك بكل ما يحتاجه إنسان على سطح القمر، فالمال لا يصنع الحرب على حد فهم الفرنسيين.
* وكيف سارت الأمور معك كمراسل حربي عربي؟
ـ ما أثار دهشتنا في الحرب الأفغانية أنها حتى منتصف نوفمبر 2001 وقبل سقوط مزار شريف، تحولت إلى كرنفال عالمي بغياب حرب حقيقية. وطالما قطع المئات من الصحافيين آلاف الأميال فلابد لهم الكتابة عن حرب، أي حرب حتى لو يتم تأليفها. فمثلا وهذه معلومة جديدة لكم، قناة بي بي سي استأجرت قرية !! نعم استأجرتها بكل بيوتها وسكانها ومختارها ونسائها وأطفالها ورجالها وهوائها وطقسها..لماذا؟ ليصوروا الأطفال في مدرسة وهمية، بعدها يلعبون،ثم اجتماع طارئ لوجهاء القرية ( يقولون في التقرير وجهاء التحالف الشمالي ) ثم عمال يبنون غرفة من الطين، بعدها نسوة يستخرجن الماء من بئر،،، مداعبة حيوانات سائبة، إعداد الخبز والطعام، طبيب لا يمتلك شهادة تمريض يفحص أشد أمراض الدنيا خطورة. وهكذا يعملون من كل مادة تقريرا يوميا لا يحتاج المراسل سوى لبضع ثوان يقول ما لديه عن سير المعارك في الـ «ستاند أب» ومن لا يصدقه في هذه الحالة أنه في أفغانستان؟ والشركة التلفزيونية الأميركية الأشهر سي ان ان عملت الشيء ذاته في بانشير حيث استأجرت القرية التي كان مسعود يعيش فيها. غير أنها نشرت مراسليها في كل مكان في الشمال الأفغاني ولم تكتف بعرض ريبورتاجات القرية الوحيدة.
* أية جهة كانت تدير أعمال الصحافيين هناك؟
ـ إن النقاط الساخنة المعاصرة بطبيعة وضعها فقيرة للغاية وتغيب عنها المؤسسات الحديثة، ولأنها ساخنة، فالفوضى تحكمها، لذلك نجد في كل من هذه النقاط ما يسمونه «مافيا الحرب» وهذا المصطلح بطبيعة الحال، ليس وليد الحرب الأفغانية وليس من ابتكارنا، وربما الحسنة الرئيسية لهذه المافيا، أنْ بفضلها تم تنظيم عمل الصحافة بغياب أهم مصطلحات القانون الدولي : الدولة. فهؤلاء يؤمّنون وصولك وإرشادك إلى المكان الذي تريده، لا سيما أن أهم مسألة على الإطلاق للمراسل الحربي هي ما أطلق عليه «الوصول إلى المكان المطلوب» فالوصول إلى النقطة الساخنة هو مفتتح أية تغطية ناجحة تعقب ذلك. أضف إليها التجهيز الكامل، فالنقاط الساخنة اتفقنا على أنها فقيرة، أي عليك أن تجهز نفسك كما لو تكون في الصحراء لتأمين الشرط الثاني وهو إرسال المواد إلى المركز الذي بعثك، فبدون إرسال هذه المواد وبالوقت المناسب فماذا يعني وجودك هناك!
يتاجرون بالعرب
* وكمراسل حربي عربي ما الذي كنت تعاني منه في أفغانستان؟
ـ المشكلة أنهم جميعا، أي الطرفان اللذان وقعنا في مساحتهما العسكرية، يرتابون بالعرب وبقدر تعلق الأمر بالأفغان الشماليين فقد كان صحفيان عربيان وهميان قد اغتالا أحمد شاه مسعود أثناء وصولنا إلى هناك وقبل أحداث سبتمبر بأيام قليلة جدا، أضف إلى ذلك بنية «القاعدة» المشكلة أساسا ممن يسمونهم «الأفغان العرب» والكره الذي يكنه الشماليون لطالبان والقاعدة، ألحقونا به. فقد مرت حوادث فظيعة كدنا نفقد حياتنا بسبب وضعنا «العربي».
* ما التقارير التي تعتقد بأنكَ حققت فيها سبقا صحافيا؟
ـ كثيرة للغاية، فمثلا، في أفغانستان موضوع المتاجرة بالعرب وليس تحديدا «عرب القاعدة» نشرته النيوزويك بعد ما نشرته في «القبس» الكويتية بسنة كاملة، وكنتُ أول من يدخل إلى سجن فيه مقاتلو القاعدة في مزار شريف ونشرت تقارير مصورة كاملة عنهم وكذلك أول من صور ظاهرة صلب العرب في كابول، نعم، كانوا يصلبون العرب ويتركونهم معلقين لأسابيع، ونشرت تحقيقا مصورا عن هذا الأمر بعد أن اشتريت عربيا مصلوبا ودفنته على حسابي الخاص !!
وكنتُ المراسل الحربي العربي الوحيد الذي دخل إلى قواعد طالبان والقاعدة وصور ما يدور هناك، وفضحتْ تقاريري ما جرى من إعدام للأسرى في قلعة جانغي الشهيرة وغيرها، هذا من ناحية العمل في أفغانستان، أما تقارير السبق الصحافي في الحرب الأميركية ضد العراق، فلم تكن قليلة، فقد صورت ونشرت تقارير مصورة عن حرب التجسس في شمال العراق في أوقات كان النظام العراقي لا يزال موجودا ولم يتحدث أحد عن تغلغل المخابرات الأجنبية هناك بالرغم من أني وصلت إلى كردستان عن طريق التهريب،
كذلك التقرير المصور عن كيفية إدخال المعدات والأسلحة الأميركية إلى شمال العراق عن طريق شاحنات مدنية، لأنك تذكر أن البرلمان التركي رفض دخول القوات الأميركية إلى العراق عن طريق الأراضي التركية، لكن بعد اجتماع باول وغول (وزيري خارجية تركيا والولايات المتحدة) قررا تنفيذ هذه اللعبة، ولكني كنت هناك وصورت عملية الجسر العسكري البري عن طريق الشاحنات المدنية، ولدي مئات الصور عن هذا الأمر.. ماذا أحدثك عن قدرة المراسل الحربي العربي اعتقد أنها كافية جدا وأثبت أننا تفوقنا عليهم كثيرا جدا في عشرات التقارير لكن مغنية الحي لا تطرب كما هو الحال في الأدب والعلوم والفنون وغيرها، هذه مشكلتنا وليست مشكلتهم.
* وكيف كان دورك كمراسل حرب وهذه المرة في بلدك العراق؟
ـ الصرخة التي أطلقها همنغواي: «لقد تمادى العالم في مفاسده» هي درس الذي حفظناه من همنغواي في كل كتاباته وكذلك ما كتبه ريمارك وجورجيو واستورياس وماركيز وأراغون وإيلوار وغيرهم من صانعي مفردات التاريخ المحرض.أن المنتصرين وأن استطاعوا الاستيلاء على السلطة ، فهذا لا يعني نجاحهم، فصدام وهتلر وموسيليني وبينوشيه وستالين بقوا الكثير من السنوات فيها، لكنهم لم يُودعوا إلى التاريخ المظفر. وعندما يتحدث زعيم غربي عن «المعركة التاريخية» فهو يعول فقط على اللامبالاة العامة والإفلات من القصاص، فمعركته التاريخية يفترض أن تكون في دبلن وليس في الفلوجة أو النجف أو في مدينة الصدر!
* ماذا يعني لك فوزك بجائزة الصحافة العربية لعام 2004 لسلسلة تحقيقاتك عن معارك النجف؟
ـ هو التاريخ نفسه الذي نشرت فيه أول ريبورتاج صحافي ولكن قبل ثلاثين سنة. شعرت وقتها ببعض العدل وإن هذه الجائزة جاءت كتتويج للسنوات الطويلة في هذه المهنة.
لا نصائح في الكتابة الصحافية
* ما أسس كتابة تقرير حربي صحافي ناجح بضوء تجربتك المتنوعة في ساحات المعارك؟
ـ ان العشرات من النصائح لا تخلق تحقيقا صحافياً جيداً، طالما لا يجيد المحرر كتابة تحقيق ناجح مستجيبا لفكرته وصوره، فالابتكار هو القاعدة الإلكترونية للمعلومات وهو البيانات الدقيقة، والتحقيق المتفوق، مهما برع المحرر في كتابته، لن يكون كذلك بدون الصورة المحفزة، تلي ذلك المقبّلات الأخرى من ترتيب للأفكار واختيار الأسلوب والنمط المتناسق مع أجواء التحقيق، فاستخدام المفردة يختلف منذ الحرف الأول في التحقيق المكتوب عن الجمال أو الحب أو الفرح، عن ذلك الذي تناقش فيه مسائل البورصة وإعادة تأهيل الجيش أو السطو المسلح على الوطن. ولا تتوقعوا تحقيقا صحافيا فذا يكتب أثناء العمل في مبنى الجريدة، فالفذ كالقصيدة يهبط وحيه عليك في أي وقت، والمحترف يدرك متى تحين ساعة تحقيقه الناجح، المهم أن تخرجه بالجهد نفسه ولكن بشكل أفضل. وقد تفرض عليك أحداث الحرب تحقيقاتها وأخبارها، وتكمن قوة التحقيق هنا بالسبق والانفراد وسرعة إيصال النص والصورة في الوقت المطلوب.
* لماذا تهتم بالصورة في إنجاز التحقيق الصحافي؟
ـ للصورة، مهنيا، قيمة وثائقية كبرى تتحدى وتتجاوز النص المكتوب لأنها ببساطة غير ملثمة ولا تقبل التطريز، وهي ضمان تقديم الموضوع والدخول فيه من أوسع أبوابه.
* وعن صورة الحرب؟
ـ هي الصورة الجيدة، التي تفتح كل الآفاق لصور أخرى ومواضيع أكثر كالفكرة المبدعة الأصيلة الملبية للمتطلبات المهنية القصوى. وهي في حالات كثيرة تتجاوز النص وإن تبقى للكلمة الفيصل النهائي. إن صور المعارك والحرب ليست صورا ذاتية ولا اجتماعية ولا إلهام عرس صديق أو احتفال بتزوير انتخابات أو مؤتمر صحافي لأناس تعلموا تصفيف الحروف فيه ولا اجتماع قمة ولا جلسة طارئة لبرلمان سيسحبون الثقة فيه ويحلونه بعد دقائق. هي أصعب بآلاف المرات مما ذكرنا وبمئات المرات من أعمال العنف التي تتخلل المظاهرات وحتى الانتفاضات غير المسلحة، أو تلك التي تستخدم القناني والحجارة.. أما صور معارك الشوارع أصعب بكثير من صور الحرب النظامية في الجبهات، فأنت في هذه الحالة محصن مع أحد الجيوش، ولطالما عمل الصحافيون مع الجيوش الأقوى والمضمونة الانتصار، في العراق يدخلون مع الجيش الأميركي وفي الشيشان مع الجيش الروسي وهكذا تكون حياتهم مؤمنة أكثر بكثير مما لو عملوا عند جبهات الجانب الأضعف. ومعارك الشوارع متشعبة وغير معروفة النقاط الملتهبة، فهذا الشارع الذي تمركزت فيه، قد يهدأ فجأة، لتندلع في شارع آخر، ولكي تنتقل، عليك قياس نسبة الخطورة التي تتجاوز حاجز 80 % دائما من الموت.