الثلاثاء، 26 فبراير 2008

شبح المدينة الخاوية






النجف - د . جمال حسين علي:

الأزقة النجفية مهر المدينة ومبالغة في حلاوتها وتفردها الساحرِ فاقتراب البيوت وأبوابها ونوافذها، تآلف قلوب وسماع آهات الجيران وفرحهم وحزنهم، مشاريعهم وعراكهم وتجويد شيخ الدار لما تيسر له قبل النوم. أزقة تنهمر بالأخوة، وفناء يفضي الى فناء أضيق من اتساع المرح، وسلم خصيب يلقي بك الى منحدر، ينابيعه خلود الحياة في ممرات البشرِ ولكثرة ما يعرف الناس بعضهم الآخر، فلا تقرأ لوحات تدلك على البيوت أو تعلن أسماء الأزقة والفروع، فلكل حجر هنا، أو خشب ساج نمقوا به واجهة الدار، حكاية واسم عائلة، بلا تدوين حروف أو إعلان عن أسر. أزقة كأقفاص تتدلى منها لحى صفراء، وأخرى تبطش بالفراغ فلا تستطيع المرور منها دون الاصطدام بعتبات البيوت. وأزقة تذهب بك الى أخرى، لتلقي بك أعمق ما في الخطوط من رسوخ، فتطير عند أول انعطافة لكالحمامات، هاديات، موقظات، شجرة المدينة وأسمائها المتسعة.
خواء المحال
تعجب بأسواقها ابن بطوطة الذي زارها عام 727 ه، حيث كتب عنها: ' أنها من أحسن مدن العراق وأكثرها ناسا وأتقنها بناء وأسواقها حسنة ونظيفة'. هكذا عرف التاريخ والرحالة وكل من رأى النجف - على مر الأزمنة - شهرة أسواقها ومحلاتها وازدهار التجارة فيها، لاسيما تلك السلع النادرة جدا والتي يحرص التجار على عرضها في أسواق النجف بالذات،كالتذكارات الحسينية والحلي الأصلية والرخيصة التي تحمل نقوشا وزخارف وتخط عليها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والأحجار الكريمة والزمرد والياقوت والفيروز، المباخر والطاسات المذهبة والفضية،الأباريق وألواح الزيارة والشماعد والمزهريات، الأعلام والتيجان والمنسوجات وأغطية القبور والخيام والملابس المرصعة بالأحجار والسجاد بمختلف أنواعه، المعقود من وجه ومن وجهين، الثريات والكريستال،زخارف الخشب والمسابح المتنوعة الأحجارِِ وغيرها من بضائع نفيسة، غالية ورخيصة، تميزت بها أسواق النجف التي، لو تتمشى عند حوافها اليوم، يئن في رواقها الخواء وينطق الصمت لو ارتفعت تهاليل باعتها وروادها الغائبين.
خواء المحلات
أكبر محلات المدينة القديمة يسمونها: العمارة، ساكنة خالية من أي حركة أو نفس أو حياةِ هذه المحلة التي قطنها كل طلاب العلم الذين قدموا الى النجف للدراسة في الحوزة لقربها من الضريح الشريف ولتوفر مساكن رخيصة فيها لقدمها وتداخلها مع المحال التي تلبي الراحة والطعام وما يحتاجه الغريب.ومثلها محلة العلا التي استبدلوها بتسمية المشراق، ومحلة الحويش التي تؤدي بك الى الجنوب نحو محلة البراق، التي تضم الأسواق الحديثة التي تتناسب مع متطلبات العصر كالتصوير والكمبيوتر وصالوناتالتجميل والملابس الحديثة وغيرها. تتماسك محلات الخواء بعضها يشد فراغ بعضها الآخر، ابتداء من حي الغدير مرورا بالأمير والسعد والحنانة والجديدة والإسكان والعلماء وانتهاء بحي المثنى.
خواء الشوارع
تتعرج الشوارع الخالية في النجف كدمعة لا تكاد تسقط من شدة الوهنِ فثمة شوارع خالية وهذا أفضل مصير، وهناك شوارع مدمرة بناياتها، سائلة أنقاضها على حوافها، كتمرد أعضاء جسم واحدِ هكذا كان مصير شارعالإمام زين العابدين وشارع المدينة وشارع الطوسي، فيما يحل الصمت والانتظار شوارع الرسول صلى الله عليه وسلم والإمام الصادق عليه السلام والكوفة والسور والخورنق والسدير. يتوزع الخواء بعدل في هذه الشوارع، ذات الأسماء المعلومة، والتي لكل واحد منها حكاية، سائرة بروح المدينة المثقلة بالأوجاع بإدهاش وهمي يبيد مرأى الناظر.
خواء العيادات

في واحدة من أزقة المدينة القديمة، أطلت علينا غابة من الأسلاك الكهربائية والهاتفية المقطوعة – وقد امتدت كسقف خيمة - مغطية العشرات من يافطات الأطباء مختلفي الاختصاص والواجبات. منظر القطع البيضاء الملفوفة بالأسلاك التي قطعتها الحرب وسكون الزقاق الذي هرب منه أطباؤه، صورة جسمت وضع النجف، بلا إطار ولا تحتاج الى المزيد من الوجع ولا الكلمات.
خواء الكتب
والنجف ناسخة كتب من الدرجة الأولى، وفيها أكثر نسبة قراء في العالم، ونسبة لعدد سكانها، فان وجود 50 مكتبة لبيع وشراء الكتب يعد نسبة عالية، زد على ذلك أسواق المزاد التي تنشط أيام عطلة الحوزة في الخميس والجمعة. في هذا السوق، ترى العلماء والطلاب والهواة، يتنافسون على اقتناء الكتاب على قدم المساواة، سواسية في أمهر ما اشتهرت به المدينة على الإطلاق: طلب العلم. مكتبات النجف المعروفة بأنها الأهم والأغنى في العالم الإسلامي مثل مكتبات: الحيدرية، العلمين، الحسينية، الشوشترية، مدرسة القوم، المدرسة الخليلية الكبرى والصغرى، الشيخ جعفر الكبير، الشيخ فخر الدين الطريحي، الرابطة العلمية، عبد العزيز البغدادي، منتدى للنشر، كلية الفقه، المكتبة العامة، البروجردي، مكتبة جامعة النجف، الآخوند، الأصفهاني، البلاغي والكثير جدا من مكتبات البيوت والعائلات المعروفة في النجف. حزين للغاية، أن هذا السوق الذي لم يتوقف على مر دهور طويلة وعقود، تناثرت أشلاؤه الآن وجف حبره بعد قطع وريده وشريانه الأهم: الناس والكتاب. وتتولى عدة مطابع في النجف شؤون طبع الكتاب ونشره كمطبعة الحبل المتين والمطبعة المرتضوية والنعمان والزهراء والقضاء والآداب وغيرها كثير. النجفيون القائلون إن 'زكاة الكتاب رعايته' - الذين اعتادوا 'رهن الكتاب' في حالة الاستدانة، بدلا من الذهب كما جرت العادة - يدارون الأسى، لعل الأيام القادمة تعيد إليهم أنوار الكتب والمكتبات وسوقهم الثري للكتب الذي يحوي - مع ما تحويه المكتبات - ملايين من العناوين وآلافا من المخطوطات النادرة.
خواء المدارس
ولا يدرك الآن مصير العديد من المدارس العلمية والفقهية والشرعية والفلسفية والدينية، مع مطلع عام الدراسة، وهل تستقبل طلابها ومريديها وحلقات درسها ونقاشها. غير أن النجف التي مرت عبر تاريخها بالكثير من المحن، ظلت محافظة وفية لعلومها ولمريديها في مدارس الصدر الأعظم، ومدرسة الملا عبد الله المهتمة بتدريس المنطق، القوام، الجوهرجي، الشيرازي، القزويني، دار العلم، مدارس آخوند الكبرى والمتوسطة والصغرى، البخاري، دار الحكمة،، مدرسة المعتمد، مدرسة النجف الدينية وعدد آخر من مدارس خرجت نوابغ الفقه والتشريع والمنطق والفلسفة وغيرها من العلوم. تتكئ جدرانها محفورة بذخائر المحاضرات، مثقوبة بذلك الترتيل المضيء، الذي مهما اشتدت الخطوب، سيعيد فتح أبوابها للسائلين والمثابرين والمجتهدين.
خواء الدهور
يسير بنا التاريخ الى حوادث احترقت بها النجف أكثر من مرة وتعرضت للدمار والغزو والنهب مرارا، بداية من هجوم الخارجي مرة عليها، مرورا بغزو المشعشعي الذي نهب مرقد الإمام وحطم الصندوق المشيد فوق أميرالمؤمنين، وغزاها الروم والأوزبيك والصفويون والعثمانيون والوهابيون والبريطانيونِِ وأخيرا الإسبان والبولونيون والأميركيون. لم تسقط النجف في كل الغزوات والحروب التي داهمتها بلا إرادتها، وكانت تنبعث دائما وسط رماد حرائقها لتبث الأنوار وتوقظ الأرواح التي تحرسها والعلوم التي تشجرها. محروسة أيتها النجف برسوخ موتاك قبل أحيائك، بجراح الإمام المغدور وحماماته الحانية، خالدة تبقين، مرصعة بعلمك الشامخ.