الجمعة، 3 يونيو 2011

الوصاية الشيشانية

بعد انتهاء الاعمال العسكرية اصبح الاسلام ركيزة البناء الحكومي في الشيشانِ واعتمد ذلك على السير العام للاحداث وارادة النخبة السياسية الشيشانيةِ ولهذا اسبابه: اولا، ساعد الاسلام على رص صفوف
الشيشانيينِ بغض النظر عن اسلام النقشبنديين والقادريينِ حيث يجري الحديث عن الافكار الاسلامية وقيمها الاصيلة وقواعدها الشرعيةِ وجاء التطابق هنا بين البعث الاسلامي الذي كان يختفي في السابق في ظل العادات الجبلية والوعي القومي والقواعد الدينية البحتةِ ويتوطد الآن في الشيشان الاسلام الآخر الاكثر استقلالية عن التقاليد الاثنية المشبعة بالسياسة بصورة كبيرةِ ويمكننا الحديث وفق هذا المعنى عن تسرب التصورات الاصولية الى الشيشان.
ثانيا، نشر الاسلام هو عامل تحقيق الذات يساعد الشيشان على الخروج من روسياِ فلا تستطيع الجمهورية الاسلامية ان تجد لها مكانا في تكوينها الفدراليِ وستكون اعادتها صعبة حتى اذا اراد قادتها الحاليون او المستقبليون ذلك (ويبدو الامر واقعيا).
ثالثا، يساعد تطبيق احكام الشريعة على اعادة حكم القانون ولو جزئياِ ومن الممكن مناقشة تطابق حالات الاعدام العلني لاحكام الشريعة او لاِ ولكن استخدام العقوبات القاسية المصادق عليها من الاسلام سيخفض
مستوى الجريمةِ وقال رئيس محكمة الشيشان الدستورية اخوان غيريخانوف في سبتمبر 1997 معلقا على تطبيق قوانين الشريعة: 'نريد احلال النظام فحسب'ِ واستحسن اغلبية سكان الشيشان العقوبات الصارمة وفقا للشريعة. وبدأ منذ سبتمبر 1997 تشكيل المحاكم الشرعية من الحقوقيين المحترفين (نظمت المحاكم الشرعية لأول مرة بناء على مرسوم الرئيس ياندرباييف في عام 1996).
وبالرغم من ان المحاكم العليا والاقليمية في الشيشان تسمى بالمحاكم الشرعية فانها تمثل حسب نوايا القادة الشيشانيين اتجاهين في القضاء: المدني والاسلاميِ ويبقى تقسيم وظائفها غامضا حتى الآنِ (وبالنسبة للاعدامات العلنية فقد اظهرت نتائج الاستطلاع العام في موسكو وسانت بيتربورغ بعد عرضها مباشرة بالتلفزيون بان اكثر من 50% من سكان اكبر مدينتين روسيتين يؤيدون الاعدامات العلنية).
رابعا، يبقى الاسلام لحكام الشيشان بمن فيهم الذين يحترمون القوانين الدولية (مثل الرئيس مسخادوف) احدى الوسائل الملائمة لتحقيق اهداف السياسة الخارجية والداخلية على السواء. اما تأثير الاحداث الشيشانية في مسلمي روسيا فلم يظهر كموضوع للبحث العلمي حتى الآن (وان علقت وسائل الاعلام على هذا الموضوع كثيرا)ِ ثمة وجهتا نظر في هذا الصدد يمكن اختصارهما في:
أ) ان الحرب في الشيشان غيرت من قناعات المسلمين.
ب) لم تؤثر الحرب سوى على دائرة ضيقة من الساسة ورجال الدين وفي الوقت نفسه اثارت الضجر من الشيشانيين.
ولم توقظ الحرب الشعور المنتظر بالتضامن الاسلامي لدى مسلمي روسيا. وما ظهر لا يعدو كونه دعاية محضة ، حتى في شمال القوقازِ وفهموا الحرب هناك كتحد لروسيا وجاء التضامن مع الانفصاليين الشيشان بالمرتبة الثانيةِ وكانت فكرة التضامن الاسلامي توضع في ميزان الاختلافات الاثنية 'التقليدية' للقوفازِ ولم يتعاطف الجميع هناك مع الشيشانيين (الامر الذي حاول الساسة في موسكو استثماره لصالحهم ولكنهم فشلوا).
وحاول بعض الساسة المسلمين الراديكاليين 'تدويل' فكرة التضامن الدينيِ وسمعنا من شفاه الشخصيات الرسمية بان القوات الاتحادية تحارب الشعوب بسبب معتقداتها الدينيةِ ومن الطبيعي ان يكون الموقف في
تتارستان سلبيا من مشاركة التتار ضمن القوات الروسية المحاربة وفهم على اساس زج المسلمين لمقاتلة بعضهم البعض.

ومع ذلك وجدت فكرة التضامن الاسلامي بعض الصدى لدى شباب المسلمينِ وكان المؤلف يسمع في حديثه مع منظمات الشباب التتارية (وخاصة ازاتليك) استعدادهم للقتال الى جانب الشيشانيين ويعلنون اسفهم عن فقدان التتار لفرصة محاربة روسيا و'عدم وجود الجبال في تتارستان التي تفقدهم البدء بحرب الانصار' في جمهوريتهمِ وجاء في البيان السياسي الذي اصدره المركز الاجتماعي التتاري بصدد احداث كيزلار
وبيرفومايسكيا المأساوية في 15 يناير 1996 بان المركز الاجتماعي التتاري 'يحتفظ بحق الدفاع عن الحقوق والحريات الدستورية لمواطني تتارستان (المقصود عدم السماح للتتار بالمشاركة ضمن القوات الروسية في الجبهة الشيشانية ـ المؤلف) وكذلك في مساعدة الشعب الشيشاني الشقيق لحد ارسال المتطوعينِ وثمة معلومات تؤكد استعداد الاسلاميين البشكيريين الشباب للمشاركة بالقتال الى جانب الشيشانيينِ غير ان
حضورهم في الجبهة لم يلاحظ.

بيانات

بعد نشوب الحرب لم تتخذ المنظمات السياسية الاسلامية او رجال الدين اجراء عمليا واحدا غير البيانات التي دعت الى ضرورة حل النزاع بالطرق السلميةِ وتميزت هذه البيانات بوجود ميزتين فهي كانت تخدم السلطات الروسية وفي الوقت نفسه تجنبت تأييد خروج الشيشان من قوام روسيا الاتحادية.
ومن المشكوك فيه بان جوهر دوداييف ومن خلفه اعتقدوا بجد بان اعمالهم الانفصالية ستلقى ترحيب اغلبية المسلمينِ وكانت نداءات تأييد الشيشان المستقلة عبارة عن مناورات دعائية وحركات يائسةِ ومن الممكن
تفسير مرسوم دوداييف المؤرخ في نوفمبر 1991 على هذا النحو عندما توجه فيه 'الى جميع المسلمين الساكنين في موسكو البدء بتحويل موسكو الى مذبح لتحريرنا من الكفر'.
كان الساسة الشيشانيون يمنون انفسهم بتعويض خروج جمهوريتهم من روسيا ببقائهم في رابطة الدول المستقلةِ ولم يصدقوا الاعتبارات التي تعطي جمهوريات اسلامية اخرى هذا الحق وبالمقام الاول تتارستان
ومن المحتمل انغوشيتيا وحتى داغستان التي تحتل موقفا اكثر صرامة في علاقاتها مع موسكوِ ويفضلون في جمهوريات روسيا الاسلامية الحديث عن توسيع الصلاحيات والحقوق وتتكرر كلمة 'السيادة' في احاديث زعماء
هذه الجمهوريات ومعارضيهمِ ومع ذلك فان موضوع تقسيم روسيا لم ينته للآنِ وحسب معطيات استطلاع الرأي العام في شمال القوقاز حول مشاكل الفدرالية والحالة السياسية في الاقليمِ يتمسك بالرأي القائل بان التقسيم النهائي لم يتم بعد في اديغيا 81،11% وفي داغستان 98،12% وانغوشيتيا 55% وكابردينو بلقاريا 84،26% وكارتشايفو ـ شركسيا 5،17% والشيشان 37،37% .
وضغط الساسة المسلمون ورجال الدين على السلطات خلال الانتخابات الرئاسية الروسيةِ واشترط البعض انهاء الاعمال العسكرية في الشيشان مقابل تأييدهم لترشيح بوريس يلتسينِ وجاء في كل النداءات التي اعقبت اجتماعات المنظمات الاسلامية عبارات تشير الى ضرورة وضع الحد للحرب.وكانت هذه المطالب تدوي بشكل قوى في كلمات مندوبي شمال القوقاز. وكان منظمو الاجتماعات يتخذون كافة التدابير للتفادي من تأييد الانفصالية وتحديد راديكالية المطالب.
ولا يمكن التأكيد على ان ضغط المسلمين ادى الى انتهاء الحرب الروسية ـ الشيشانية وعقد معاهدة وقف الاعمال الحربية في اغسطس 1991ِ ولكن خبراء الرئيس الروسي كانوا يحذرون من امكانية انتشار 'التضامن الاسلامي' في شمال القوقاز في حالة استمرار الحربِ وكان الزعماء الشيشان يحاولون انعاش كونفدرالية شعوب القوفاز وتثبيت العلاقة بين روسيا والمسلمين المحليين في سياق الجهادِ وربوا في عام 1997 فكرة انشاء الدولة الاسلامية العامة (الامامة) في الشيشان ومناطق داغستان الشمالية الغربية، حيث يسكن الشيشان الاكينتسيون على طراز الامامة التي انشأها الامام شامل في القرن الماضي (اتخذت المحاولة الاولى من هذا النوع في عام 1919 من قبل الشيخ الشهير حاجي اوزون)ِ
ويتفق موضوع الامة القوقازية الاسلامية مع فكرة توحيد شمال القوقاز الفرضيةِ وانتشر هذا الموضوع بين الساسة والمفكرين الشيشانيين والداغستانيين في عام 1997ِ وشارك في المناقشات رئيس اتحاد مسلمي روسيا نادر شاه خاتشلاييف بقوله: 'ان امتنا القوقازية الاسلامية روحيةِ وستؤدي وحدتها الى موت الشيطان الاكبر'.

لأمة الإسلامية
وتأسست في عام 1997 بجهود مولادي اودوغوف منظمة 'الامة الاسلامية' دخل فيها اكثر من ثلاثين تشكيلا صغيرا مثل الجبهة الافارية 'شامل' والتنظيم اللاكي 'غازي ـ كوموخ'.
ويعتبر السعي لتوحيد شعوب شمال القوقاز ايجابيا لا سيما ان الخلافات الاثنية جعلت هذا الاقليم مرتعا لنزاعات ضارية خلال قرون عديدةِ غير ان الخلفية الدينية غير كافية لتأسيس تكتل ذي قيمة خاصة بعد استبعاد الروس والاوسيتونيين المسيحيينِ وعدا ذلك فان الفكرة فوق الاثنية غير متبلورة خاصة لو اخذنا بنظر الاعتبار الخلافات غير البسيطة بين النقشبنديين والقادريين وبين هؤلاء والاصوليين الذين يتهمون الآخرين بتشويه الدين.
ونرى في هذه الحالة الاتجاه الاصولي في بعث الاسلام الشيشاني (بكلمة ادق الاصولية المزيفة لانه ليس في الشيشان علماء ومثقفون ولا حتى مفسرين اذكياء لجوهر البعث)ِ وتطرح هنا الادعاءات الشيشانية للعب دور الزعامة في عموم القوقاز او طرح النموذج الشيشاني للاسلام للاقتداء به من الآخرين (زد على ذلك يرى رجال الدين المحليين بذلك خطرا على نفوذهم ووضعهم الاجتماعي)ِ ويثير مصطلح 'الاصولية' بحد ذاته مخاوف حتى المؤمنين به بسبب المواد التي تنشرها وتبثها وسائل الاعلامِ وثمة خشية لا يستهان بها من الوصاية الشيشانية على شعوب القوقازِ ولا يشك احد بان هذه الوصاية موجودةِ صرح مثلا مولادي اودوغوف في كلمته التي ألقاها في مؤتمر 'الامة الاسلامية' الذي يتزعمه بان 'الامة الشيشانية مستعدة لقيادة الامة الاسلامية'.
وطرح النزاع الروسي ـ الشيشاني مسألة المجابهة بين الاديان في داخل وخارج روسيا كمسألة ملحة. ويعتقد بعض الخبراء والصحافيين الروس بعدم وجود عامل ديني في هذا النزاع لكن ثمة قوى تستخدم 'الورقة الاسلامية' بوعي وبلا تحفظِ وتشكل هذه القوى الاغلبية الساحقةِ ويرى البعض في العامل الديني بوادر المجابهة الاسلامية ـ المسيحيةِ ويوجد من بين انصار وجهة النظر هذه عدد ليس بالقليل من الصحافيين
وممثلي المعارضة الروسية.
وكان رمضان عبداللطيفوف وزير شؤون القوميات في الحكومة الروسية وايفان ريبكين سكرتير مجلس الامن القومي الروسي السابق والكسندر ليبيد الذي وقع اتفاقيات الصلح مع الشيشان يعارضون مرارا النظر الى النزاع على اساس دينيِ وكان يشاطرهم هذا الرأي زعماء جميع المنظمات الدينيةِ وتضامن معهم اغلبية المحللين الروس بمن فيهم الفيلسوف أ . اغناتينكو والمختص بالقانون الاسلامي سيوكيانين والمختص في المسائل الاثنية ِ فِ تسيكوف وغيرهمِ وتمسك اغلبية زملائهم في الشيشان بالرأي نفسهِ أكد عميد الجامعة الإسلامية في غروزني مايير بيك حاجي ناسوخانوف في عام 1994 أنه ليست هناك حجج للحديث عن مواجهة اسلامية ـ مسيحية لأن 'الشعوب المسيحية والإسلامية عاشت طوال سنوات عديدة في سلام ووفاق وكانت المسائل الدينية مزاحة الى الخلف'ِ وقال عميد المدرسة العربية في مدينة نابريغني تشيلني رستم شيخ اللاييف في حديث خاص ان الشعب لا يربط الحرب في الشيشان بالدين ويمكننا بيسر مواصلة ايراد اقوال مماثلة كثيرة.