الاثنين، 29 ديسمبر 2008

" الكون المؤقت " لشبان العراق


" لن يعنيك أحد
عندما يذهب أبنائك الطوال الى الحرب "
- روبنسون جفرز -


" لم نولد في العراق لنمضغ طعامنا فقط " ، قالها الفتى العراقي الكامل الأوصاف والشاعر بثقل الملل ورتابة البطالة معتصرا ما يستطيع قوله في ألفاظ تطلبت تدخلا مجانيا من أكثر المتعلمين من جمع الشباب العراقي الخالي الوفاض تماما لكي يترجم لنا ما يقوله من " بدع " ومفردات يستأنسون في ترديدها لإضاءة ما تبقى لديهم من مرح.
وحتى الشجرة الواقفة منذ قرن لو لا تهزها ريح ويعكرها غبار ويغسلها مطر فستذوي مع كل مساء ، فكيف يحرك فتيان العراق زهو يومهم دون أن يذوبوا في عراك الكبار و تذبذبات الأمواج ونرجسية القمر ومزاج قرينات الحي وتآكل مصاطب الدنيا التي أول ما حملقوا فيها دورّتهم بالبارود والنار وأكل مال اليتيم ونسيان احترام الكبير والعطف على العليل ؟
كائنا ما يكونوا، بادخار نواصي التقاليد والعادات وتعاليم الدين ، فأن من يبسط اللآلئ ويبعث النضرة بالزهور ، مذاقا يرفرف بلا مدى ما أن يفتح اليوم بابه الجديد ؛ زغب الشباب وريشاته الطائرات بالنور المدلى المستحق أكثر من افتراق الأمل وطوابع الخيبة واستهزاء الفراغ وكوابيس الضياع حال استقرارها على العقول النابتة للتو بلا إرادة منها ، تستوي حقول للضغط وتشجير المستقبل بأجهزة السيطرة عن بعد والإفراط في تدجين سوء الحظ والمشاجرة ما بين مرارة القسمة واحتضار النصيب.
ها هي شجرة الأمل العراقي غير مقدرة مسئوليتها ، في أن الحطام يولد الخراب والبهجة تتشظى بيارق فراشات. ما يميزهم عن غيرهم من شباب الجيل ، أن لديهم العذر تلو الآخر ، والسبب المدجـّن بالويل والمفخخ بالفزع وقلة الحيلة وقصر اليد وفراغ الجيوب وشحة الخيارات.
لم يقبلوا لهذه الدنيا كي يمضغوا طعامهم بالتأكيد ، ولم تدركهم حوافر الحظ اعتباطا وبلا تجليات القدر ، فاتخذوا الاحتياط اللازم في تأثيث الهزائم وخواء العاصمة كلوحة متاحة ، لمطاردة الحيرة وقتل الفراغ الأثيم واقتناص الأخطاء في الذوق في التعبير وانتقاء المفردة كحالة الحوار النادر بين حيوانين مختلفين المنشأ والجينات وطبلة الأذن وحدة الأنياب.
فهي وإن شاء غبار الصدف ، محاولة للدخول في " الكون المؤقت " لشبان العراق ، كوقاحة نملة وترويض هوس والإصابة بحمى الافتراضات الخاطئة ومقاومة النوبات المزمنة لأكثر الأسئلة إهمالا في " الحياة السياسية العراقية " الجديدة والتي لم يطرحها أي من المدعين بقيادة الوطن : ما الذي يعاني منه شبان العراق في " الحقيقة والواقع " ؟!
زينة الحياة
هم زينة الأوطان والعالم الذي يستحق معرفته والمسلمة اليومية لمن يدعي أبوتهم والإمكانية الوحيدة التي تتبادر لذهن من يظن بامتلاكه الخيارات كلها ، في تنوع طرقه ووضوح علـّـته وتعافيه من التظاهر والتسامح المفتعل.
وسواء تخرجوا للتو من الجامعات أو أطلق سراحهم من السجون ، فتجمعهم مائدة واحدة وسقف مشابه وإشكالية غير قابلة للجدل في كيفية حصول كل منهم على وجبة الفراغ وطهي الملل في التطلع القاسي لأي منهم على ما يصاحب مشيته من إهمال فاجع كأنهم مجموعة من اليتامى في ملجأ عمومي وليس شبان الوطن !
الضوء يتألق
الكثير جدا من الشبان العراقيين يكدون من الصباح حتى المساء بمختلف أنواع المهن التي تتناسب مرة ولا تليق بهم وبما تعلموه مرات. وما أن يبدأ هدير العاصمة والمدن الأخرى ويشتغل محركها ، إلا وتجد الفتيان موزعين في الساحات والطرقات وعند عتبات المعامل الأهلية وكراجات غسل السيارات وتصليحها ، ثمة من يرعى الأغنام والمواشي وهناك من يرتب حركة المرور لقاء " إكرامية " تنسجم مع مزاج السائقين.
والكثيرون للغاية لا تنبسط أمامهم الحياة بسهولة ، لكنهم لا يلينون ولا يستسلمون لمصروف الأم وأدعيتها والارتكان الى حديقة المنزل.
ولم يكن هادي و جواد وسامي ممن " تشاورنا " معهم حول قسوة الكسل وخطأ العطل وضراوة التسول حتى من الأقرباء ، إلا نماذج غير مختارة عمدا، وعينة عالقة في الجيل كأوراق ناصعة في شجرته النامية. فالأول في سنة البكالوريوس الأخيرة وسيتخرج مدرسا للغة العربية بعد أسابيع ، غير أنه يفهم أكثر من المستر فورد ماذا تعاني منه هذه الأنواع من السيارات. ميكانيكي من الطراز الفريد ويهوى الى جانب صنعته هذه ، أشياء لم يستطع التقاطها بسهولة مع اختلافها ، موطنا نفسه ، راهنها لبارئها وأشقائه الصغار المتكفل برعايتهم بعد رحيل الأب في واحدة من الحروب السالفة.
والثاني ، ألق في صمته ، متتبعا روائح الأفلام الجديدة ، مبهر في سرقتها وتحويلها الى أقراص أطبقت عليه الشهرة في شوارع الكرادة ، متذمرا بعض الشيء من فشل السنوات الماضية ، محتفظا بين جوانحه ببعض الأمل في أن الناس متى ما بدئوا يقبلون على السينما ، فهم على استعداد تام لتقبل المعاني الكاملة لتقلبات الحياة الأخرى.
تجني له هذه المهنة أجرة العودة الى البيت وتناول ما يشتهيه من مطاعم السوق وفيض من مسرات بسيطة علاوة على صيانة أجهزته في البيت. فهو يزوّر الأفلام في بيته ويبيعها الى أصحاب المحال لقاء نسبة معقولة ويشكو فقط من الكهرباء التي تزاحمه انقطاعها المستمر على تلبية الطلبات الكثيرة.
والثالث من النماذج المضيئة في صحبة العاصمة ، عنفوان بجسد ضعيف ، لكنه غير محطم. يكلل يومه بالنجاح تلو الآخر متنقلا ما بين مطابع سوق السراي وشارع المتنبي والجامعات ومقاهي المثقفين ، كوسيط لطباعة الكتب لمثقفين لا يعرفون دهاليز السوق ومناظرات الورق ومشاغبة الأحبار ، حتى وصل به الأمر لكثرة المواد التي يحملها عند صاحب مقهى السوق ، أن يصدر مجلة شهرية بخمسمائة عدد كمرحلة أولى ، يسترجع فيها بعض من الفصول التي ينشرها من الكتب وليكن اسمها ما يكون ، لكنها المجلة الأولى ، ربما في تاريخ النشر ، يصدرها فتى يطبع الكتب للمثقفين ، مكتبه ناصية مقهى.
الضوء يتناقص
باقة الفتيان الذين ترونهم سائبين في المقاهي ، عاطلون بغير إرادتهم مستوين كتلك المقاعد المفترشة من بلغ العمر عتيا. لم يكن الحوار مع سلطان وعامر وفرج وبدر ومصطفى وغيرهم من هواة الكسل ، من باب التسلية كما يفعلون ، بل أقرب من الازدراء وقت المحن وافتعال الجد لحظة الهزل. أحدهم ترك المدرسة في الثالث متوسط لأنه قرر أن الشهادة لا تفيد ولو كانت كذلك لجلبت الفضائل لشقيقيه أسعد وأحمد اللذان يصطحبانه كل يوم الى هذه المقهى للتشفي بطاولة البلياردو أو ضرب قطع الدومينو على مصير الطاولات.
والأشقاء الثلاثة أجمعوا بأن لا عمل حكومي وفي القطاع الخاص يحتاج الأمر الى واسطة ، والحكومة لم تفتح التعيينات حتى لأولئك المفصولين السياسيين التي جاءت لنصرتهم ، فكيف الحال معهم.
وأكدوا بان العمل الوحيد المتاح ونسبة القبول فيه عالية هو الالتحاق بالجيش أو الشرطة ، غير أنهم بالغريزة لا يحبون ممارسة هذه المهنة ، ويصرون على أن حلمهم الوحيد الهجرة الى خارج العراق والالتحاق بعمهم في هولندا.
الوحيد الذي يعمل في جمهرة العاطلين الذين وجدناهم على ضفاف دجلة ، هو من يصلح دراجاتهم الهوائية التي يستخدمونها في الانتقال واللعب وأداء حركات بهلوانية يصفون بها أنفسهم وينافسون ثقتهم بأنفسهم ، بانهم في كل الأحوال قادرين على عمل شيء.
وهنا يتقن الجميع ألعاب المقاهي ويدخنون بلا حسرة ولا شفقة بالرئتين ، الأمر الذي يجعل من العسير التكهن بمصادر دخلهم وكيف باستطاعتهم تدبر مصاريفهم غير المتاحة حتى لموظفي الدولة. ومن المؤكد حين تجد شخص عاطلا ، فيوجد من يعمل ويصرف عليه.
أقدم العاطلين
لم تدهشنا حكايات أنمار عما فعله وجيرانه من سرقة أبريل الشهيرة وقال بأنه قضى عمره عاطلا ولم يعمل سوى ثلاثة أيام بعد السقوط كان له نتاجا لها الكثير من الأجهزة الكهربائية وعدد من السيارات وحتى الأجهزة الطبية. باعها وافتتح ثلاث صالونات للحلاقة وهو يجلس يوميا في المقهى حتى المساء ليحاسب محلاته ليعود عاطلا.
يحاول إقناعك بأنه لم يسرق أكثر من حصته التي ينبغي للدولة ان تمنحها إياه، وبرأيه لم يعمل أكثر من استرداد " حقوقه " السليبة واستغلال فرصة حلت لساعات ليعيش برفاهية لسنوات.
المهن المرتبكة
الشبان الذين تجاوزوا سن الفتوة وأكملوا الجيش أو سرحهم انحلال الجيش وجدوا أنفسهم في الشارع. ولأنهم جنود ، فعملوا حسب القاعدة العسكرية التي تقول بان الجندي يمارس كل المهن.
تراهم باعة سجائر يوما أو ينشرون الحظ ببطاقات اليانصيب وثمة من يبيع قناني الغاز أو يعيد تعبئتها لقاء أجر ، زبالون ومنظفو حدائق ، باعة صحف أو خردوات وأنتيكات وأثاث قديم ، حمالون وسماسرة فاشلون ، سواق تكسي أو صبية مقاهي ومطاعم. هؤلاء هم الثنايا والحوض والحفرة التي مهما ألقيت بها لا تمتلئ.
ضحايا الفساد
لم يمهل جاسم السؤال حتى بادر بالإجابة المستفيضة التي إن حصرتها تنتزع منك وعيا سياسيا لا بأس به : حين شكلت الوزارات جلب كل وزير أقاربه وأفراد عشيرته والتحمت الواسطة بالرشاوى ، فلا يمكنك الحصول على استمارة تعيين إلا بدفعك ثلاث أو أربع ورقات ( 300 – 400 دولار ) مقدما وبعدها أنت وحظك الذي عليك أن تسارع في جلبه بعدد من الوراق الجديدة وهكذا.
شدد جاسم على أنه من المستحيل العثور على عمل الآن في العراق بدون دفع مبالغ كبيرة لا يقوى على دفعها العاطل الباحث عن عمل. ويجد الحل كما وافقه البعض ممن هز برأسه بالهجرة الى أرض الله الواسعة.
نسب كبرى
بلغت نسبة البطالة قبل سقوط النظام 65 % من إجمالي الأيدي القادرة على العمل وبعد حل الكثير من المؤسسات بعد السقوط ارتفعت حسب التقديرات الرسمية لتصل الى 78 %.
والبطالة اجتاحت بالدرجة الأساسية الشبان المتخرجين حديثا من المعاهد والكليات ، فالحركة التجارية ونشاط المؤسسات الأمنية والأحزاب الثورية لا يتطلب شهادات أكاديمية ولا خريجين ، بل مهارات أخرى ، فهناك ضباط كبار في الجيش الجديد والشرطة النامية ومسؤولين كبار في الدولة لا يعرفون القراءة ولا الكتابة بطبيعة الحال ولديهم فقط لسان وقرابة وظهر قوي. أضف الى ذلك ان المهن التي انتعشت حاليا هي تلك التي لا تتطلب أي دراسة ، فمحصول الحمال تجاوز ما يتقاضاه المدرس ومن يغني في الأعراس يستطيع مصادقة رئيس جامعة لمؤهله المالي فقط.
وتوقف حملة الإعمار زاد من المشكلة ، وحتى إن بدأت يوما ما ، فالشركات الأمريكية وحدها التي فازت بالعقود وهي التي ستحدد دور " الأيدي العاملة " في المرحلة القادمة ، علما أن العمولات اهدرت وصرفت قبل الشروع بهذه الحملة.
وعقود إعادة تأهيل المؤسسات الحكومية وتنظيف المدن وصبغ المدارس وطلاء الشوارع وغيرها من عقود تجميلية ، لم تحل مشكلة البطالة لكونها نفذت على عجل وبأرخص الأيادي العاملة غير المتخصصة.
وحتى العمل في هذه المجالات وعند هذه الشركات لا يحل المشكلة لأنه مؤقت ولا يوجد فيه مستقبل.
مضاعفات نفسية
خبراء الطب النفسي وعلم الاجتماع يشيرون الى تزايد حالات الاكتئاب والنفور لدى الشبان وسكنهم في المقاهي ومنعطفات الشوارع تعبير عن يأسهم وحبهم للهجرة انعكاس لنفورهم من الوطن الذي لم يسعفهم وحالة اللوم الشديد التي تقض أيامهم يهدئونها بالحبوب المنومة والمهدئة والفاليوم وكبسولات الهذيان.
وتصل نسبة من بقى عاطلا عن العمل بعد التخرج الى 80 % و تتفوق عليها كثيرا نسبة الراغبين بالهجرة لو تسنت لهم الفرصة بذلك ، الأمر الذي يطرح قضية " الانتماء " بجدية على مستقبل البلاد والجيل برمته.
فأزمة الشهادات المرمية في الصناديق وعلى الرفوف باتت تهدد جيلين متعاقبين هما التسعينات والجيل الحالي والحيف الذي لحق بهؤلاء لا يسترده إلا العمل الجيد والمناسب والمثمر والتخلي عن طرح الشعارات التي حفظها الفتيان قبل الشبان الذين سيوافقون على العمل في مؤسسات دينية لا تناسبهم وآخرين سينزوون بالتدريج ليعملوا " مقاومين " من باب التشفي وقتل الوقت وكسب بعض النقود.
تكتل سلبي
يتزايد عدد الشبان الذين تركوا الدراسة في مراحل التعليم المختلفة لقناعتهم بأن هذه ستكون شهادة للبطالة والتسكع في الشوارع وقضاء العمر في المقاهي.
ومهما كانت البراءة عنوانهم ، إلا أن طاولات البلياردو والدوران في دراجة مستعملة ومناغاة الفضائيات والهيام بالعسل سيقطع الطريق نحو البناء الذي يعد المعيار الأول لرضا البلاد والستر الذي ستغطي به أبنائها وتداري انحلالهم وانحرافهم وتقوي عودهم راسمة ولو شعاع على ريبهم وشطط أفكارهم.