الاثنين، 29 ديسمبر 2008

هنا بغداد


فلنعدّ الأصوات والأشرطة والوجوه والأنوار التي صدحت وأطربت ومثلت وأنارت وعلقت وأذاعت طوال سبعين عاما ، هي عمر دار الإذاعة والتلفزيون في بغداد ، الواقعة في منطقة الصالحية ، على الضفة الكرخية من دجلة.
وبلا شك ، فهذه الدار الأعرق في الشرق ، وعبر بوابتها عبر المطربون الرواد والمذيعون المهندمون والمبدعون العراقيون والعرب ، العلماء والرسامين والمهندسين في الإنارة والديكور والصوت والتجميل ، الشعراء وكتاب الأغاني والمسرحيات والتمثيليات التي كانت تبث منها على الهواء مباشرة قبل اختراع الفيديو والتسجيل.
قضى أول المصورين العراقيين ساعاتهم أمام أولى الكاميرات الإنكليزية المستوردة أيام العم أبو ناجي وتربى وراء جدرانها كل من سمعتم به.
منذ الخطوة الأولى في المبنى الذي شيد كجملونات وبنكلات في عام 1936 ولغاية اللحظة التي سمحت الفوضى لنا بالتجول فيه بلا إذن صارم بعد سبعين سنة ، لفحتنا الذاكرة وأعمدة الجزع في كل باب نفتحه ، كان محمد القبانجي يكرر مقاماته قبل البث الحي ، وهناك كان الكرسي الضخم ليوسف عمر وتلك المرآة الخاصة لناظم الغزالي ، ولابد أن تكون صديقة الملاية وزهور حسين وعفيفة اسكندر ووحيدة خليل صففن شعرهن في تلك الغرفة المجاورة لأستوديو رقم واحد الذي استضاف نزلاء سجن رقم واحد ليعلنوا فيه بيانهم الذي كتبوه في المعتقل ، مفتتحا للحرية والاشتراكية والدماء ومزيدا من جماجم أعداء الثورة المجيدة.
مركز السلطة
لم يتردد عليها أشهر رئيس وزراء في تاريخ العراق نوري السعيد باشا إلا نادرا عندما كان يريد تشجيع العاملين فيه وزاره الملك فيصل الثاني بتواضعه وأدبه الجم وكانت حصة المبنى المزيد من الرعاية بعد كل محاولة انقلاب ناجحة.
وازدادت أهمية مبنى الإذاعة والتلفزيون بعد سقوط الملكية ومجيء الثوار لحكم البلاد ، وكان الموقع الاستراتيجي الأول قبل القصر الجمهوري الذي يفكر الانقلابيون السيطرة عليه لاستكمال نجاح حركتهم أو تمردهم.
حصل ذلك في عام 1958 عندما انتهكوا حرمة العائلة الملكية وكتقليد سار عليه انقلابيو 1963 ، بحيث تمركز كل قادته كعبد السلام عارف وأحمد حسن البكر وعلي صالح السعدي وحولوا أحد استوديوهاته الى هيئة أركان و " محكمة الشعب " التي أقاموها على عبد الكريم قاسم وأعدموه في غضون 10 دقائق في المكان نفسه الذي كانوا يذيعون منه بياناتهم الوردية وأغانيهم الحماسية.
ولأنهم يعرفون مداخلها ومخارجها جيدا ، فقد احتلوها مجددا في عام 1968 وأعلنوا منها البيان الأول ذاته ، قرأه البكر وكان صدام يحرسه ببندقية وإلى جانبه صالح مهدي عماش وسعدون غيدان.
قبل السقوط
في حقبة صدام ، الذي كان يدرك أهمية هذا المبنى ، فقد حوله الى حامية عسكرية يدافع عنه كخط أول لواء مدرع من الحرس الجمهوري والكثير من قوات التدخل السريع والمخابرات والاستخبارات ، واستراتيجيا فقد أخلى منطقة الصالحية كلها من الغرباء ، فبنى شقق شارع حيفا ومجمعات خاصة ومسرح الرشيد وفندق المنصور ميليا ، فضلا عن الطريق المؤدية للمنطقة الخضراء الذي يسكنه الحلفاء الآن.
وكانت هذه المبانى بمجموعها تعد منطقة مغلقة ومراقبة بدقة ويصعب اختراقها وقريبة من مراكز تجمع قوات الحرس الجمهوري المتجحفلة في الصالحية أيضا.
ولم يفت المراقبين الدوليين الذين كانوا يبحثون عن أسلحة الدمار الشامل ، أهمية المبنى الاستراتيجية لدى النظام ، فقد داهموه أكثر من مرة بلا سابق إنذار باحثين عن الجمرة الخبيثة أو وثائق تدلهم على الموت الشامل.
بعد الانهيار
ولم يستثنى مبنى الإذاعة والتلفزيون من الدمار الذي تعرضت له مؤسسات الدولة ، غير أنه يختلف عن الوزارات والمصانع بشيء ، أن الذي يتلف هناك يمكن تعويضه ، عدا الذي سرق أو أحرق أو دمر في مبنى التلفزيون ، فهذا لا يمكن تعويضه أبدا كالمخطوطة الوحيدة لكتاب أو نوتة موسيقية أو لوحة أصلية.
زد على الوجع ، أن المبنى دكته صواريخ عابرة للقارات ، ولعلها المرة الأولى في التاريخ التي تتعرض فيها محطة تلفزيونية لصواريخ بعيدة المدى. وفوق هذا التدمير هجم اللصوص على هذا الأثر الثقافي المهم وجرجروا على عربات الخيول والحمير كل التسجيلات الهامة وإبداعات أجيال عديدة في مجالات عديدة ليبيعوها فيما بعد بالوزن في سوق الحرامية !
لقد قام لصوص عاديين جهلة بسرقة مسلسلات عراقية لم تر النور بعد وكل الأفلام الوثائقية وما سجلته الإذاعة والتلفزيون من أغاني وكل شيء منذ تأسيسها قبل سبعين عاما ، ويمكن تصور فداحة هذه الخسارة التي لا تقدر بثمن.
بلا صاحب
والمبنى بعد تدميره وسرقته وإحراقه لم يعد صالحا كمبنى لأي شيء، غير أن حاله ، كحال الكثير من الدور الحكومية والمؤسسات التي استغلها العاطلين والعائلات التي لا تمتلك سكنا أو إمكانية للاستئجار ، فداهمته أكثر من 300 عائلة وكل منها اعتبره مأوى ، معتبرين أن الذنب يقع على النظام السابق الذي تركهم بلا سكن سنينا طويلة ومحملين الحكومة الجديدة مسؤولية إيجاد سكن لهم لكي يخلو مبنى الإذاعة والتلفزيون.
وحسب التحري الذي قمنا به ، فلا يوجد أحد على وجه الأرض معني بهذا المبنى ، لأنه كان تابعا لوزارة الإعلام التي يعيش آخر وزير لها في بحبوحة إماراتية والذي تتحمل رقبته ذنب ضياع هذا الأرشيف الثري لأنه رفض نقله لمكان آمن ، كونه مؤمن جدا بالانتصار. أما الوزارة كلها فقد ألغيت بقرار من الحاكم المدني بول بريمر ، لذلك اختفت المؤسسة المسؤولة عنها والتي يحق لها أن تطالب بها ، ولا يرى وزير الثقافة العراقي بأن مصير هذا المبنى العريق من ضمن واجباته ، لاسيما وأن أمرها وصل الى مجلس الحكم بعد أن تم حله وهجرة معظم أعضائه.
ساكنون جدد
والحديث مع سكان مبنى الإذاعة والتلفزيون العراقي لا ينفع أحد ، فهؤلاء لا تعجبهم أبدا مهنة الصحافة ، ويعيشون في مبنى لا يوجد فيه لا ماء ولا كهرباء ولا مرافق عامة ولا يصلح أبدا للسكن ، فهو بناية خربة محروقة ومهجورة ، ولا يوجد سبب يجعل الناس يأوون إليها سوى الجدران والسقف التي تحميهم وتلم أطفالهم.
وسكان محطة تلفزيون العراق بسطاء للغاية ، منهم الحارس والشرطي المتقاعد والبائع المتجول وصاعود النخل وأغلب المتبقين عاطلين عن العمل ، لذلك لا يوجد مجال لإلقاء الذنب على هؤلاء الناس في المصير المأساوي الذي انتهت إليه الإذاعة العريقة ولا نعتقد بأن العتب يجوز على من لا يمتلك مترا واحدا في وطنه.