الاثنين، 29 ديسمبر 2008

سلخ جلد بغداد: حكاية موت شارع الرشيد


يتدحرج التاريخ من أحجاره التي لا تتنبأ العبارة ولا تجرؤ على السؤال. من الذي يمكنه زيارة بغداد ، دون السريان الهادئ فيه من ألفه الى يائه. معه لا تشعر أنك لوحدك ، فالمصادفات جميعها تمسكك لتبتكر معك الرغبة في الطواف بالموجودات. كأن كافة المارة أصحابك والنهار بطوله والمساء بتخفيه يثقفك : دعاماته والكتب المنثورة والمتسلقة حيطانه ، عتبات أطباء التوليد والنسائية وأفضل محلات النظارات ، قوزي " أبو سمينة " والباقلاء مع البيض والباجة وشوربة الجنود الصاحين مبكرا في ساحة الميدان.
وكما لغيره ، فأن لكل حصاة فيه معنى ، يشعرك بالمسير ، بأنك حي ، يثيرك ويرصف تقلبات اضطرابك ، يخلع عنك الضجر وازدحام الأماني ، معقل المتمردين والأشقياء ومؤسسي الأحزاب وكتبة البيانات الشعرية وقراء المخطوطات الأدبية ومحامو الدرجة الممتازة وسينمات العصر الزاهي من هذا الفن وآخر صيحات الأزياء المطلوبة من أرستقراطيي العاصمة وأقدم تسجيلات واسطوانات لا تجدها حتى عند ورثة عمالقة الغناء العربي.
هو جلد بغداد وشريانه ومهما فكر أي معماري أو مخطط مدن بغدادي فلن يظفر بمثله فهو الذي قال عنه الراحل جبرا إبراهيم جبرا : " في شارع الرشيد يكمن جوهر مدن التاريخ كلها ونهر دجلة الذي يشطر المدينة شطرين متناسقين يحمل في جريانه الوليد ذكرى حضارة عمرها آلاف السنين.. الشارع والنهر يتوازيان كالمادة وصورتها ، فالشارع المزدحم والمتمهل في وقت واحد ، إنما تجسيد لقوى النهر المثيل بالمثيل".
بحيلة خرافية يهدي التوازي شارع الرشيد أعذب الأنهار ، كما لو كانا يتناجيان في رجاء الانزواء. شكله الضاج ، برعم المدينة ، حنينها واستفاقة حماليها .. أطرافه : تناغم ليل آسر ورقاد مزين بالقناديل. شارع العواصف السياسية وقصائد هجاء الحكومة لشعراء لم يلفظ العراق مثلهم لا قبل ولا بعد. بقى الأكثر انبساطا ، حيث لا يداهمك التعب أينما تحل فيه ، ومهما قلبت أطراف جفنيك وبؤرة عينيك ، تراه نفسه في أي اتجاه.
المطبعات وأحرف المصححين ، المواعيد الأولى وموسيقى مختلف القرون وسجادات لا تتكرر وأفضل بطانيات لفتاح باشا وأخف أحذية لباتا وأول عواد وأعرق شربت وأكثف لبن ، لا تجدها سوى في انطلاقة الشارع السائر بك والمنسل إليك كضوء عشب.
حكاية الشارع
شارع الرشيد وفق مصطلحات المخططين أول شارع يعبد في العراق. يرجع تاريخه الى عام 1915 ، حيث بدأ كمركز تجاري وثقافي وترفيهي ، والذي لا يوجد مهندس معماري عراقي رصين ، إلا وترك له أثرا فيه.
والتاريخ المذكور مسجل للشارع المعبد العصري ، غير أن وجود الشارع يرتبط بالكثير من الأسواق التي كانت موجودة قبل إعلان تأسيس بغداد من قبل أبو جعفر المنصور في عام 762 م.
وسوق الثلاثاء ، الذي كان يجتمع فيه القرويون كل ثلاثاء لعرض بضاعتهم واقع في الضفة الشرقية من دجلة ، استمر نشاطه طوال الخلافة العباسية. ويمتد السوق الذي يسمى الآن سوق باب الآغا و الذي يعد نواة شارع الرشيد نحو الحيدرخانة ويرتبط بسوق السلطان الذي يطلق عليه حاليا ساحة الميدان التي تواجه القلعة التي امتدت فيها وزارة الدفاع الحالية التي تشير المخطوطات الى أنها كانت مبنية منذ عام 1338 م. والقلعة مفتتح شارع الرشيد ولأنها كانت دوما مركزا للجيش ، فقد اعتبرت مركزا للقوة والسلطة وفيما بعد للانقلابات والمؤامرات.
وكانت ساحة الميدان مركزا للتجمعات الجماهيرية والاحتفالات والأعياد وتعلن فيها بيانات الولاة وقراراتهم.
وباب السلطان ( طغرلبك ) المسمى حاليا باب المعظم فيحدد مدخل بغداد الشمالي في عهد الخليفة المستظهر المتوفي عام 1118 م وفيها مرقد الإمام الأعظم ويبدأ في ساحة الميدان وينتهي عند مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني.
أزقة دجلة
وخلافا لما هو شائع ، فأن أزقة شارع الرشيد لم تبدأ منه ، بل من دجلة ، عدا شارع النهر. فقد انبثقت أزقة بغداد الأولى من النهر وامتدت عموديا ومتعرجا الى كل المدينة باتجاه أبوابها الأربعة ( باب المعظم والوسطاني والطلسم وكلواذا ).
ويبدأ سوق العطارين المسمى حاليا الشورجة ، بشريعة التمر والمصبغة ويلتقي معه في شارع الكفاح حاليا ، يضاف إليه درب الإمام طه الذي يبدأ من جسر القوارب قرب جامع الأصفية. وهناك درب الكيلاني الذي يبدأ من السنك وينتهي بباب الطلسم.
والشريعة تطلق على المناطق التي تلتقي عندها الأزقة الرئيسية لدجلة ، وهي تمثل مراسي للزوارق والسفن التجارية والدوب المحملة بالبضائع.
من هذا المفهوم ، يعتبر نهر دجلة ، الشارع الرئيسي في بغداد ، من الناحية العملية. ولهذا السبب تأثرت كل الحركة في بغداد بنهر دجلة. وبنظرة مباشرة الى خارطة بغداد الحالية ، لا يعثر على أي تغيير في الشكل العام لها المحصور بين السور والنهر منذ الخلافة العباسية حتى الآن. وأول من رصد أزقة دجلة التي كونت شارع الرشيد فيما بعد كان الرحالة نيبهور عام 1765.
مرحلة الشوارع
ويعد والي بغداد مدحت باشا أول من فتح شوارع مستقيمة في المدينة لتأثره بتخطيط المدن الأوربية ، وأول من أدخل خط الترامواي رابطا الكاظمية ببغداد للمرة الأولى. وكان مدحت باشا يفكر في ربط باب المعظم بالباب الشرقي بشارع مستقيم هو الرشيد حاليا ، إلا أن فترة ولايته القصيرة لم تسمح له بتحقيق هذه الأمنية التي كانت غايتها بالدرجة الأولى تحقيق سرعة تحرك القوات العثمانية.
واستطاع خليل باشا في عام 1915 من تنفيذ فكرة مدحت باشا لذلك أطلق على شارع الرشيد في البداية اسم " خليل باشا جادة سي ". وساهم في بنائه رئيس البلدية وقتذاك رؤوف بيك الجادرجي الذي تأثر بما شاهده خلال دراسته بألمانيا واستعان بناء على هذا التأثر بخبراء ألمان لتنفيذ المشروع. وواجهت الفريق الذي شق شارع الرشيد صعوبات جمة أهمها أنهم كانوا يريدون بناء شارع مستقيم ، وهذا لا يمكن تحقيقه لاعتراض أزقة دجلة له خاصة عند شريعة الباججي وجامع السيد سلطان علي ومبنى المقيمية البريطانية في السنك ومعارضة رجال الدين باعتبار أن الشارع يشق أملاك وقفية كسوق الحيدرخانة وجوامع مرجان والسيد سلطان علي والمشكلة الأخرى كانت تعويض أصحاب العقارات التي ينبغي هدمها ليسيل الشارع باستقامة تامة.
توالي الدهور
ازدهر الشارع بالأفراح والمظاهرات واليافطات وصوروا فيه أول الأفلام وآخرها وبنيت على جانبيه 20 دارا للسينما وأغلب مقاهي بغداد الأدبية والشعبية واصطفت الكتب والمجلات في دورها ، خياطون وحلاقون وصائغون وصناع الحلويات وشهقت فيه أعلى بناية للاتصالات دمرتها الحروب المتوالية والنهب الناتج عنها.
بعد تقاطع حافظ القاضي ارتفعت في الشارع مباني أهم وأغنى البنوك في الشرق الأوسط منها البنك المركزي العراقي ومصرف الرافدين. وقطع السنك الجسر المسمى باسمه وشيد تمثال للرصافي وسطه وربما يشيدون لعبد الكريم قاسم تمثال آخر بعد أن رفع الناس تمثالا لعبد الوهاب الغريري الذي قتل أثناء محاولة اغتيال أول رئيس وزراء الجمهورية.
انطفاء الشارع
لا يعرف الشارع الآن من رآه قبل عقدين ، مهجور ، سائب ، محروق ، مغلقة معظم أسواقه ومحلاته الشهيرة. حركة السيارات فيه لا تعني عودة النشاط إليه ، قدر تعلق مسيرها وعبورها الى جهات أخرى من المدينة. لا داعي للسؤال واستجواب المارة والباعة المتجولين عن الأسباب ، فقد كان كل شيء واضح ، مات الشارع ، فأدار الناس ظهورهم عليه.
في سوق الشورجة والكفاح يمكن في أية لحظة أن يداهمك مسلحون ليأخذوا ما تحمل حتى لو أزرار قميصك ، السوق العربي الذي ألبس العراق وغذى كل مدنه بالبضاعة ، مسود لا ينقطع الدخان من حرائقه. مركز الاتصالات مدمر ومنهوب ، الأمريكان قطعوا شارع الرشيد قبل منطقة البنوك بعشرات الأمتار وسيجوها بالأسلاك الشائكة والمدرعات ، ووضعوا نقطة النهاية في شارع الرشيد عند الدبابة الأولى قبل البنك المركزي.
بدلا من الكتب والمسابح الشرقية والتحف واللوحات الفنية والأسطوانات المميزة ، ينشر باعة السمك بضاعتهم لقتل آخر الروائح الشهية في الشارع ويعرض اللصوص ما ملكوه قبل لحظات.
ضاع شارع الرشيد وهدمت أحجاره وكسفت هيبته وغطته القمامة من كل صوب ، تلاشت السينمات بلا رجعة واختفت مانيكانات آخر صيحات المودة ، تجمد الوقود في فوانيسه وتمزق هيكله كما لو حرثه محراث عملاق.
تحدق ، ترمي ببصرك هنا أو هناك ، علّ هذا المنظر طارئ والندوب طفيفة والأنقاض خدعة سينمائية.
لكن شارع الرشيد كبغداد ، جريح .. فما أن تشفى قروح المدينة ، حتى تصله الدماء ، لعلها لماما ، وفقا لحلم ذلك الباشا الذي رحل دون أن يرى شارعه المستقيم المزين بأنوار دجلة وفيء مائها الرطيب.