الاثنين، 29 ديسمبر 2008

أوان القوارب


ظلال النهر ،، قوارب.
أيتحمل صدر الماء وحدة منزلقة بلا منازل تتحرك بين طياته وأركانه وأعشابه ، ثم تتفرق عند شواطئه !
والقوارب سنابل الحياة للمد وألوان معقودة في هوامش المياه ، جسد ليس آخر يتلألأ لطمأنة الأمواج ، هي خام النهر وصديده ، مؤسسة لوجوده، جوهره ونصفه الثاني ، عذوبة الهواء الملاصق لرئة متفحمة وحرث الشفق المكون لروضته المؤانسة.
سنحاكي حسن طالع النهر حين يفاجئ بالأشجار المنسقة السائرة فيه كزمردة في رقبة فتية ، الأشجار – القوارب في الأمواج المدللة ، قوارب : لغناء وطرب القدامى الخيرين ، لمن جرى حتى النصر ، للفرجة التي تطهر الروح ، لمن يخلع عنه رداء الإسفلت ومشقة الحيطان ، قوارب متعاقبة كالدهور ، مفرطة البهجة كأضواء ناعمة ، قوارب غائرة في الغور ، علـّتها اليقظة واسمها الشفاء ، قوارب من صاغ نفسه وسرد قصته فيها حتى النهاية ، قوارب العابرين بلا عودة ، الراحلين والفارين ومن أضاعوا الجيوب والسراويل ، القوارب المنقرضة مع السواري المختلسات النظر عند الغرق ، قوارب الشهوة والجشع ، قوارب العبيد والأسياد ، النور إن تشبـّع بالأحلام ، قوارب المتأرجح والمهجور والزعلان ، قوارب الوحدة إن تفتك بالأيام.
هي القوارب وأناقة رواياتها وطيش حكاياتها ، فلنشاركها القصة منذ النهر الأول والحبل الرائد والمجذاف الأخير وسطوة الأطراف لحظة الانهمار في الماء.
آخر الصنـّاع
ما يقارب النصف قرن وحميد النوبان ينجر القوارب في الجعيفر وشريعة البيروتي. لا يتذكر عددها كالمتزوج كثيرا وأضاع حسبة أطفاله. يقول بحزن يشبه اللامبالاة بأنه آخر صناع القوارب في بغداد ، وبتأن ودون أن يسأله أحد تحدث عن الصبر والدقة ، التي تعلمها من مهنته الأصل عندما كان صيادا ، يراقب النجارين ، واكتسب منهم حرفة القياس والطلاء ودق المسامير وتآخي الخشبة بالقير.
كل الذين صنعوا القوارب من معاصريه كانوا هواة ، لذلك تفننوا وأبدعوا في رسم لوحتهم ، ويحب حميد النوبان تلك السنين التي تنافس فيها مع أقرانه لدخول أجمل القوارب في دجلة وأمتن " الدوب " وأرشق "كفــّه" وأوسع " كلك ".
كانوا حدادين ونجارين وصباغين وصيادين ، فصناعة القوارب تتطلب مملكة متجانسة من الشطارة والمثابرة والمعرفة والعلم بأمور النهر ومفاجئاته.
أقدم الصنـّـاع
هم " آل رواك " ، أساتذة حميد النوبان ، وأقدم نجاري القوارب في بغداد. لكنهم هاجروا مع أخشابهم الصاج الى الضلوعية ، حيث النهر أكرم وبعيدا عن صيحات الحرب.
وثمة في أقصى التخوم ، وعند مرسى الأكير وأبي الخصيب على ضفاف شط العرب الصناع الكبار للقوارب المختلفة الأحجام والأغراض والتي يستخدمون في نجارتها خشب التوت والمسامير ودهن السمك والأصباغ البحرية النادرة والمعقدة التركيب.
وصعودا في قلعة صالح والكحلاء والمشرح والمجر الكبير والميمونة ، تدخل القوارب في حياة كل الناس ، فهي مرسيدسياتهم المبهرة ووسيلتهم الوحيدة للتنقل في عالم الماء الذي يعيشون وسطه ، والمثير في الأمر ، أن أكثر الصنــّاعين المهرة للزوارق هناك : الصابئة !
أبن القارب
وثامر متخصص في صناعة قاع القوارب ، الذي يفضل أن يكون من الشيلمان المربوط بالمسمار الحدادي. ويستمر بصناعة قارب طوله 7 – 9 أمتار أقل من شهر. والسفينة الصغيرة التي يصل طولها الى 25 مترا وعرضها 7 أمتار يستغرق في إظهارها حتى نزولها الى النهر نحو ثلاثة أشهر و 10 آلاف مسمار وعشرات اللترات من القير والأصباغ البحرية.
وباستخدام " المكفال " وهو قضيب حديدي مقوس بنهاية عريضة ، يفصل ثامر القير القديم من خشب القارب الذي أخرجه قبل يومين من النهر وقلبه على الأرض.
بعد انتزاع القير القديم ، حمل ثامر خشبة " السوبج " وبدأ بطلي القير الجديد.
قارب جديد
وعن طريقة صناعة القارب الجديد وكيف تبدأ العملية قال بأن أهم شيء هو تهيئة الخشب المناسب ، ويعتقد بأنه نادر والحصول عليه ليس بالسهولة ، فجذوع التوت مثالية لتحقيق الأمر ، على أن لا تكون الشجرة مصابة بداء.
ووظيفة التوت وشرائحه ، لملأ الثنايا و الفراغات أو ما يسميها " العطفات " التي تتخلل ألواح الصاج الكبيرة ، بحيث لا تترك هذه العملية التي يطلق عليها " المداواة " أية ثغرة في سطح القارب وهيكله العام وأهم ما في هذه العملية المعقدة ، أن تتداخل العطفات مع الألواح الأصلية لتشكل سطحا منسجما متساويا ، لا يمكن لمن يلمسه التفريق بين اللوح الأصلي وشرائح التوت المغروزة فيه !
بعدها يأتي دور إشعال القير وهو نفط أسود ، بواسطة روث المواشي حتى يذوب تماما و يلصق على جدران القارب التي لا يراد طلائها "كاطوعة" وهي قطعة من الخشب أيضا.
يرتدي هذه الأثناء الذي يقوم بعملية طلاء القير عباءة من الصوف الأسود ، تناسبا مع النفط الأسود المغلي تقريبا ، ويسميه المحليون "الكيار" ، علما أن هذا اللقب شهير في مدينة العمارة والناصرية ، حيث ارتبطت المهن في العراق كثيرا بالألقاب.
بعد الطلاء الأول ، يقوم " الكيار " بعملية مشابهة بمسح طبقة خفيفة من القير الخاص الذي يسمونه " السواد " على السطح ، تليها عملية طلي القارب بطبقة من " الكمر " وهو نوع خاص من النفط الأسود أيضا. وفي النهاية يداوون القير المتيبس بـ " الطين الحري " ، وفي غضون يومين مشمسين ، يقلبون القارب ويوحدونه مع النهر.
فصيلة القوارب
لم يربط طرفي مدينة البصرة والتنومة حتى الآن إلا جسر عسكري من مخلفات الحرب العراقية – الإيرانية. وكان جميع أهالي البصرة الراغبين بالانتقال الى الضفة الأخرى يستخدمون القوارب المزودة بمحرك كهربائي ، لذلك أسموا هذه القوارب بـ " الماطور ".
طوله 7 أذرع وعرضه أكثر من ذراعين ، كانت العشرات وربما المئات من هذه الماطورات تنقل الناس ولاسيما طلاب جامعة البصرة الواقعة على أطراف الشلامجة ليس بعيدا عن الحدود مع إيران.
والماطورات موجودة في الأهوار وتستخدم لنقل الناس والبضائع في بغداد أيضا ، لغاية اللحظة الراهنة بالرغم من وجود الجسور الحديثة التي تربط الرصافة والكرخ.
وهناك المشحوف الذي لا يزيد عن 10 أذرع وعرض ذراعان يستخدم عادة في الأهوار لغرض صيد الطيور والأسماك على السواء. و يسير بمساعدة عصا طويلة من البردي يسمونها " المردي " يغرزها قائد المشحوف في القاع ويدفعها بالاتجاه الذي يرغب.
ولا يستخدمون في المشاحيف الماطورات الكهربائية لأنها تخيف الطيور ويساعد هديرها الأسماك على الهرب ، لذلك فأن " المردي " الساكن يساعد على تسلل الصيادين الذين ينقضون على الطيور والأسماك بواسطة " الفالة ".
ويستخدمون المشاحيف أيضا بجلب الحشائش ونقل القصب والانتقال.
و " الطرادة " أوسع من المشحوف وأخف ، كون الخشب الذي يستخدم لصناعته من النوع الخفيف ، وتكفي " غرافة " وهي خشبة صغيرة لتسييره.
وتشتهر " الطرادات " في المشاركة بمواكب الزفاف المعروفة في الأهوار وتصل عشرات منها في هذه المناسبات مزوقة بالفوانيس والرايات الملونة ، لأنها تحمل أكثر عدد من الراكبين.
و " البلم " أكبر من القاربين الآنفين الذكر بنحو الضعف طولا ، لذلك يسيره اثنان ولا يستطيع شخص واحد السيطرة عليه. وتشاهد في الكثير من الأحيان رجل في المقدمة وامرأة في المؤخرة أو العكس ، وعادة ما ينزل أحدهما الى الماء لربطه أو جره بسرعة أو تخليصه من الأعشاب النهرية.
وما يتجاوز هذا الحجم لا يدخل ضمن فصيلة القوارب ، ويعتبر من أصناف السفن.
العبــّارة
قلنا لرضا ، أن العبــّار هو صياد كسول. أجاب بأن الصيد لم يعد كالسابق ، والمبيدات والطارئين أثروا كثيرا على الشغلة.
لكنه " مزاج النهر " ، ما أن يجف الصبر ويسهل أهل القوارب مهمتهم بالجلوس والثرثرة عند الشواطئ والسقائف المظللة. ولعل الأجر الزهيد يكفي ليعيل رضا عائلته الشابة ، وكما يقول أحيانا يرتفع الأجر ما أن يؤجر القارب " أصحاب الكيف " !
يبقى معهم لساعات لغاية التاسعة مساء ، وهو الوقت المسموح به بالزهو في بغداد حاليا ، ثم يلقي بهم في المكان الذي يختارونه لإكمال نومتهم عند الجرف.
يتعطل النهر ، فيستحيل الصيادون الى عبـّـارة ، استسلام مستحق ولقب غير واثق واسترخاء وهذيان تكرهه الأنهار.
أصحاب القوارب
يعرفون حميد النوبان ويثقون بقواربه ، زبائنه الذين حددهم : الصيادون والأثرياء.
ولا يفضل الصيادون قوارب المحركات فهي تطرد السمك ، فيما يصر الأثرياء أن تحتوي قواربهم على محرك وكذلك على مجذافين يثبتها لهم النوبان في المكان الذي يرغبون.
وأكثر ما يهدد هذه المهنة ، وما يخشاه حميد النوبان هو غزو السوق من قبل القوارب المستوردة المصنوعة من الـ " فايبر كلاس " والبلاستك والزوارق المطاطية.
يخاف النوبان من غزو القوارب المستوردة ، لأن ذلك سيقضي على أقدم الصناعات الفلكلورية في بلاد النهرين.
وأقسى ما يخشاه حميد النوبان ، أن يأتي زمن ينساه الناس. سكت ثم قال بفخر: لكن لن تنسانا دجلة أبدا.
عين القارب
للساري في الماء ذاكرة النهر ، وأن ينساك الناس وتتذكرك الأمواج ، صلح الطبيعة وأنفاس العابر الهارب من البغي وصندوق العروس المحمول وسط الأدغال.
القوارب غبطة ودروب ماء ، طيبة وعشق غرقى ، لذة طحلب وتأجج أثير ، فلننحدر أسفل الأمواج ونترك النهر على هواه.