الاثنين، 29 ديسمبر 2008

هروع إلى العيد لفضّ الغيظ


ترنيمة عراقية في يوم طوارئ


" صَـلـّي لي كي أُحسن دعوتهم إلى العيد "
- أنسي الحاج -

ما أن بلعت ريقها بمشقة ، تساءلت البغدادية الواصلة نصف العمر أمام المرآة : يا له من ادعاء ، ما هذه الملامح سوى انعكاس لأشياء تبددت في المرأى وهذه التي أمامي لا أعرف أسمها !
وكما لو شمت بخور عتيق ، لفت رقبتها متوالية هذيان أشبه بنشيج نائبات بسط ذاكرتها نحو ذلك اليوم المغبر الذي ألقت وراءه الماء وسبـّحت بحمده ، غير أن الماء نشف وخمس وعشرين شتاء مرت بها وهي تمرق الحصى البراق النافر من أسفلت زمان الملوك.
حاولت استرجاع لحظة الرحيل ، ليتاح لها تصديق سطوة المرآة والربع قرن التي دقت أزاهيرها وأمحت وهجها وأشحبت أطيافها وماجت في ألوانها. هفت لسماع أحرف الوداع التقليدية حيث تزدري الأستار لتبلع ألم لا يحتمل ، أن أول يوم للعيد كان التقاء ساعات السهد وأطلال أحلام غزلتها خيوط اخضرار منبت الحديقة التي يحبها.
لا مراء في أن تتلمس شعرها المبيض الذائب في الأنوار وجسدها المتلاطم الأيام لكي تسترسل في استرجاع رماد آخر يوم اصطحبها لاستقبال العيد مع طفلتيهما الودودتين كحرية أجنحة مصاغة في غابة.
لا مراء من تمزيق الشخص الواحد الذي تقمصته لتخرج الى هذا اليوم الأخير عبر الساحات المخنوقة بالبشر والضاجة بالهمس والزعيق والطبول والأسحار ، دوحة مراهقات وحناجر رجال تقرب المنايا أطلت عليها ما أن فتحت الباب القديم الذي طالما لحن أسمه مع الرياح والأمطار وزئير الليل الذي تضاعف في حواس النساء الثلاثة المتراصات كسدرة أدبر عنها الثمر.
فرط خيال
العالم الجديد الذي رأته مبطئا لا تعرف كنهه ، والنسوة المتزاحمات كعطر نافورة لم يفصحن عن أفكارها الطيبة ، الكسولة ، عن تلك الأيام النائية ، ساورها الشك في أن دهشتها الشديدة بما يحصل ، كونها أصبحت أكثر ثقلا من ذلك اليوم الذي كانت تسند أعصابها إليه ، ليتولى بنفسه مضايقة الباعة بالأسعار التي يشتهيها.
الأصوات السليطة لم تشعرها بالمهانة ، بل بالضيق في أن شبح السوق يسترد احتماله وأن الناس ما عادوا يحملون النجوى وأن الضلال تهرب من بين حواف نعلها ليغبر اليوم الذي قررت فيه تعويض صغيراتها عن ربع قرن من وحدة السجينات المنتظرات.
لم ترضها الدفعات التي تعرضت لها في الزحام وكانت تتمنى لو يعتذر لها الزمن الذي صمدت بوجهه وأن يضمنها البيان الأول للتحرير وأن تسير رافعة الهامة في يوم ثأره ، غير أن الهدوء السحيق الذي لا يصدق ، عزلها أكثر كحاملة أوان ، تلك التواقة في أن يتوزع قهرها على خلجان نفسها كي لا تشمرها الأيام بعيدا عن منزل المراهقات الجميلات الغائصات بالأشعار وبقصائد أبيهن الخارجة عن القواعد والمألوف.
صففت لهن الريشات على القبعات وطرزت على حواف وساداتهن الدموع بعد أن بللهن النوم والانتظار ، في أن يرتدين الأنغام نفسها التي كان يستسلم حال سماعها بروح شاردة لا تشكو ، فماذا لو امتد به العمر لينشد لهن قصيدة الرحمة ، الهائلة ، الرائعة ، الثابتة بأمواج الكلمات غير المشفرة لأحد ، بالقوافي التي لم تنسب الى جهة ، بأعماق الواعظين ومهارة الراوين وفصاحة النابهين ، طمأنينة الحرف حين يرقد على كف الصائن نصـّه.
ملجأ الأم
حين أغلقت بابها ، سدت قلبها : ملجأ أم اليتيمتين الصغيرتين.
ملجأ كوشاح لعزل الناموس ونار تطرد الذئاب وجدران تقطع حبل السكون والتباس ركام الحزن إن يعوي بلا انقطاع وانطفاء الكآبة في تخوم الوجع وفتات الدهر المقطع الأوصال وأحشاء المرارة في المدينة الكاكية و اسفنجة الترقب الماصة حدقات العيون والشكوك ، الشهيق بومضة والزفير بانفجار يعقبه صراخ وتمايل بختها وانفضاض البراعم بما يسير في كسوفها ، رجل اللحظات المتردية واللحن والرضا والأعناب المتسلقة على كسوة الشتاء ، الشعاع الوحيد الموروث من الشمس السابق للحياة ومهج البلابل واللام الشمل في فضاء التودد.
ملجئهن القلب وانقطاع المكان بأرجوحة السرّة الممعنة الجنون ، بالتهديد المستمر في أن تمنح لقب الأرملة ولم تكمل العشرين بعد ، في أن يستقر في وداعتها الدعاء : حمدا على الوحدة ، حمدا على الرجاء ، حيّ على الأزمنة الطويلة ، سبحان مالئ البصر ودافق السمع ورافع طنين النواح.
منزل اليتيمات الصغيرات ، المنعزلات في العبارة المفاجئة والالتباس والقصد والإصغاء للعدم والمنطق والصلة وما في أحد في الحجرة بانقضاء آلاف الأيام : ملجأ الأم !
طالع أرملة
بانقضاء الأعوام الخمس والعشرين من رحيله ، اصطفت في خاطرها هدية العيد ، دَين ما حملته أهداب الماضي ، للفتاتين المسكينتين بما ملكت آمالها بكثيف ملح لهفتها ونفسها الداكنة.
وكنهار لا يروى ، أدركت بأن العالم خارج الحجرة التي تكلست فيها ، تبدل كثيرا ، فشعرت كأنها طافية في جوف الحافلة التي حملتها الى شريعة البيروتي كي يتسنى لها عبور النهر بالقوارب القديمة التي رافقتها في أشد أيامها ضيقا.
بدت دجلة قسطا واحدا لم تنو النظر إليها ، فهذا العالم الذي لن يراه أبدا ، وأيامها ليست سوى عجلات تحمل عليها صغيراتها الجميلات ، هذا النهر لم يطل عليه بعد الآن ولن يراه ولن يسمع زمجرات الزناجير وأبواق التحذير ومروحيات الهوى والفرص المتوانية وحذر المشاعر والتلاعب بالقول ومكر الفعل.
ململمة عباءتها ، خارجة من النهر الى حلق شارع البنات لتواري رغبتها في طلاء صغيراتها بقماش مطربة البارحة التي شققت رغبتهن في تقليد ملبسها.
تزاحم زمن
هنا يحتفظون بخواتم الأميرات ، جادات الملابس المفرطة الزحام وعلى نواصي التكايا وصناديق الزجاج سجون العرائس ومانيكانات الحلم ذوات الأقراط الملمعة والنظرة المبهمة الصامتة كمن قرأ برقية موت بلغة لا يجيدها.
ما أجمل العرائس السجينات في الخيام الزجاجية وكم مفرحة السلال المتدليات قشورا وأزهار. أمسكت بتلابيب باروكة جافة ، فتناثر الشعر كجرح قديم ، فأضاف لارتباكها رذاذ يعدو ، سقط متكورا ما أن تعثر نعلها بصندوق أفلام مستنسخة.
لم يسعفها تدافع البشر لانتقاء عبارة اعتذار من صبي الأفلام المغشوشة حيث ألقت بها الجمهرة المنحسرة مع أصوات الحمالين باتجاه باقة فساتين تليق معها تلك القبعات الحائزة عليها من ذخيرة الماضي.
أسعفها منظر الفساتين الملونات على استعادة حياة ما قبل الخمس وعشرين عاما ، فأمسكت بترددها ، مرتابة في صحوة رغبتها في أن تدس جسدها في واحد منها ، لكن ضنى أسرع في ابتلاع رغبتها ، في السؤال الشرعي الذي ملأ يقينها : يا أسفي ، من ذا سيكون قربي حينها !
اختطفت قدرتها لتزيين صورة الفتاتين المنتظرتين هديتها ووضعهن على قامة المانيكان ، لتقرأ الهزة التي ستحرر عزلتهن من تصفد النوافذ. لم يجل في خاطرها غير ذلك التناسق بين قامة السجينات الثلاثة بهروب أغصان الفساتين الموردة وتلويحهن بفتنة الاكتمال ، في أن تسري بهن إليها وتجعلهن لها ، بالشفق المستغيث احتشاد الجمال في حجرة.
سنون القفار
انظري الى الفضاء كيف تغير وإلى النهار كيف ازدحم بالفقراء ، الى فتاتيك وعالمهن الحزين ، الى السحب مغطية إبهار العيد ، الى الليالي التي غصت في جدائلها بلا طائل ، لنفسك العطشانة والعريانة والمرتجفة الأشكال ، الى سيد دورتك الدموية واضطرام كهرباء رئتيك ، لهمسك واختناقك في أن يعود من الأيام زبدها ومن الساعات بياضها والصخور عتمتها والحشائش لدغتها الآثمة.
اهرعي كتلك الـ " بنية " العاشقة جدا ، وجها لوجه وجسدا لسماء وخميلة لتجوال ، لكي تبقي للموعد مهابته ولنبل الحب جوهره واطمئنانه ، كي تغار منك الأميرات وتصهرين ذؤابات الصبـّار ، بما يحمله الطاهر فيك الى ميلاده ، عنك ، بين درس الأعمال وثمارها ، يناعة النجم وانسكاب النور على مرآه.
تمددت حسرة في بوق حلقها لكنها انحسرت بآهة مستعجلة : أبعد خمس وعشرين عاما من الانطمار في حجرة تخرجين في يوم النار ومنع التجول وقلق الهواء وتيه السلام !
مخرج الأوراد
دارتها الهواجس حول نفسها ، لكن احتباس الشارع بالناس داس على تفكيرها ودبّ على نأيها ، ملقيا بنظراتها على الأحوال وكيف زهيت والبضائع وكيف تبهرجت واللظى حين أمهل الدروب.
ببشرتها الشاحبة المتصببة عرقا وغيضا ، انتزعت خاتمه الذي لم يفارق كفها ، واضعة إياه على طاولة الصائغ الشاب الذي ما أن لمسه حتى هتف بسعر لم تقدره كما ينبغي. لكنها أردفت : أريده بسعر الفستانين ، هناك ، الورديين !
حتى بغيابك تسنى لك أن تشارك في صنع هدية جميلة لهن ، فلا مخرج آخر لبث الأوراد على حدائق فتاتيك ورتق فراشاتهن في سرعة غيابك وطوله المؤذي ، بحوافر ابتعادك والضحى النافر من صورتك القديمة.
تصلبت كفها ما أن غادرها خاتمه ، ولم يشف غليلها وريقات النقود التي أضحت ، بعد ثوان من عمر محنتها المديدة ، فستانين ورديين ومضت نشوتهما في أول لحظة سيطل مقبلهن على جدائل أغنية شابتين وحيدتين للغاية ، أجفلت عنهم الدنيا وما فيها ، بصخبها وعنفها ، وكلمات أبيهن الشاعر الذي لا يحضر أسمه أحد ، والذي لم يبطل المطر دق أحرفه على حيطان الصفيح المكومة تحتها أجساد الجميلات الثلاثة.