الاثنين، 29 ديسمبر 2008

ثورة في الثورة


كم مضى من وقت وتعاقبت أجيال على أناس يفوق عددهم نفوس دول تتمتع بكامل العضوية في الأمم المتحدة ومنظمات دولية كثيرة ، دون أن تقرّ العاصمة بوجودهم فيها ؟!
هي كالنتوء في سحابة مطرودة أو شوكة في حلق طائر ، لها من الذاكرة ما يكفيها لتجمع أشلاء أبنائها وتلوح عبر مسيرتهم وانسدال جفونهم ، راية في جوف راية وتكوّن لا يفلت من الأصابع وساعات نهار وليل تصنع النصر المباغت.
وإن يئن العراق في الجنوب ، تشتعل غضبا وما تقرّ عينها بما لا يمكن السكوت عنه وإن داست العجلة الحديدية صخور الشمال ترتجف بحق رهبتها وانفجارها.
مرضعة الفنانين والرياضيين والشغيلة والمجتهدين والمنتفضين ، الثوار منهم والأموات ، اللاعبين بالبيضة والحجر ، اللصوص وقطاع الطرق، العنيفين والعقلاء والمؤكدين بهجة الحياة فيها :
المدينة التي تذهب وتعود ، يقاسمها النور ، ما أن قرروا بسط الضاحية القاحلة من بغداد المترامية وراء سدة ناظم باشا المنشئة بداية القرن الماضي خوف انهمار الفيضان على العاصمة لينشروا فيها الخلق المهاجرين من الجنوب المظلوم أبدا الى الشمال الأوفر حظا.
كوّروا الناس في ضاحية الفيضان القادم ، فاتحين صدورهم للطوفان المداهم في أية لحظة ، حتى استقامة سد الثرثار الذي منع الفيضان عنها.
أصغر حجم مدينة في الأرض حيث يبلغ طولها 6 كيلومترات وعرضها 4 كيلومترات ، كبداية ضمت فيها أكثر من 300 ألف شخص ، حتى أصبحت أكثر المدن اكتظاظا باستيعابها مليوني شخص ، أي شخص منهم لو تراه في المريخ ، ستدرك من سيمائه وملامحه وصوته بأنه مــــن " أهل الثورة ".
صراع الأسماء
أخذت من المراحل المهمة الثلاث التي مرت بالعراق بعد الملكية أسمها. فالزعيم عبد الكريم قاسم الذي قرر حل مشكلة " أصحاب الصرائف " وهمّ المهاجرين من الهجوم الذين انتشروا شرق بغداد في مناطقها الشاسعة المنبسطة مستخدمين الصرائف والأكواخ القصبية والمعدنية وبيوت الطين وما ملكت أيديهم من وسائل ، مستغلين أراض اعتقدوا أنها لا تخص أحد ، اعتبر نفسه كما اعتبره غالبية العامة صاحب الثورة ضد الملكية ، وأراد تاريخيا تثبيت موقف ما بتجميع كل فقراء أطراف العاصمة الشرقية في موقع لا يتجاوز 24 كيلومترا مربعا ليتركهم يبنون بيوتهم في هذه المساحة ، كل على قدر استطاعته ، شرط ألا يكون من القصب والسعف.
ولكون من جمع شتاتهم صاحب الثورة ، فأطلق على المدينة بديهيا ومنطقيا " حي الثورة ".
ولصغر حجمه ، فقد كان وصفه بالحي طبيعيا حتى من وجهة نظر البلدية.
ولم يؤثر تعاقب الضباط على حكم العراق على هذه التسمية ، حتى بداية الحكم الفردي المطلق بمجيء صدام للسلطة الذي أطلق أسمه على هذا الحي الذي توسع في زمنه وأصبح يعادل كبرى مدن العراق والمنطقة بنفوسه ومساحته التي بدأت تزحف محتلة كل المساحة الممتدة من الشمال الشرقي الى الجنوب الغربي من بغداد متخذة شكلا مستطيلا توزع به القطاعات السكنية بالتساوي وتشقها الشوارع في كل صوب.
كان صدام يدرك الكره الذي يكنه سكان مدينة الثورة له ومع ذلك وضع أسمه عليها متعمدا ، في أكثر الأوقات الذي تعرضت فيه المدينة للتنكيل وذلك بعد نشوب الحرب العراقية – الإيرانية مباشرة ، حيث رفض أو هرب أو اعترض شبــّانها من أن يساقوا الى مطحنتها ، فكانوا عرضة ، كباقي أقرانهم في المحافظات الجنوبية الأخرى لحملات اعدامات لم تنته حتى مع انتهاء هذه الحرب.
معلوما ، أن صدام نقش أسمه على آثار بابل والنمرود وسومر وآشور وفي ذي قار والقادسية والكثير من المواقع العراقية التاريخية والأثرية حتى انتهى به المطاف ليجير أسمه على أعمال نحاتين عراقيين مثل جواد سليم الذي توفى قبل أن يعرف صدام.
لكن صدام فرض أسمه على مدينة الثورة كنوع من التحدي وجزء من الصراع ، في وقت تحولت فيه الثورة الى جزء منطقي لحركة المقاومة العراقية وحقل نشط للمعارضة ، هو صراع أفكار وأسماء وقيم...
لكن أهل الثورة تمسكوا بثورتهم بالرغم من إيغال النظام باسم رئيسه ، حيث كان الجامع فيها يحمل أسمه والمستشفى والساحة والنافورة ، هكذا ، بشكل كوميدي متعسف.
هي مدينة صدام التي توعدها قصي أمام الملأ بعد أن ثارت على مقتل الشهيد محمد صادق الصدر ، بأن يمحيها من الوجود ، لكن صدام بقى في السجلات وأضابير البلدية ومجاري المياه ، وحافظ الناس على اسم الثورة ، لغاية اليوم الذي خرجوا فيه ، أول من خرجوا ، وقبل كل شخص في بغداد ، لاطمين ، راقصين ، مشعلين النار في صدام وصوره ، مطلقين أسمهم الجديد على المدينة : الصـــدر !.
رد انتقامي
بالرغم من أن أهالي المدينة أحبوا اسم الثورة ، إلا أنهم فرضوا بدورهم تسمية الصدر للثأر ، وليس رد فعل أيدلوجي أو فكري أو قيمي ، أنه يحمل الانتقام الأكيد والسريع لقاتل شخصيتين يكن لهما أهل المدينة احتراما يصل الى " التقديس ".
فلم يكن كافيا للناس العودة الى " الثورة " ، فهذه التسمية لم تغادرهم ، بل أرادوا فعلا صبروا على أدائه لعقدين حزينين، وكان الاسم الجديد رمزا لكل شهداء المدينة والبلاد.
والثأر والانتقام والوريد الشعبي منحته التسمية الجديدة ، التي أصبحت بدون أن يعلم العامة الى مسؤولية جديدة ، لتتحول مدينة الصدر هذه المرة وبعد أشهر من إخفاق الاحتلال في تنفيذ الوعود ومسائل أخرى كثيرة ، الى حصن جديد لمعارضة خاصة ، تنفس فيها الناس بخار الجمرة الأولى لرفض ما هو موجود.
وأصبحت مدينة الصدر ليومنا هذا قبلة المعنيين بشأن " الرأي الآخر " الجديد ، غير المشاطر لأحد ، غير المفهوم أحيانا ، لكنه الثابت والحامل إجاباته ، حتى إذا حصلت فاجعة النجف واستشهاد محمد باقر الحكيم ، توسعت الرؤيا واجتاحت المدينة مسؤولية جديدة تطابق ملامحها القديمة ، مطالبة إياها بحمل الراية السوداء ووضعها في أعلى برج فيها ، حتى لو أدى الأمر الى مشاجرة ضروس ليست ذات معنى.
وأيا كان من سيحكم العراق ، سيتحتم عليه كثيرا .. كثيرا ، التفكير في مزاج ورؤوس وصدور وأكف أهل الثورة ، ولا يستطيع مهما أوتى من قوة ومن رباط المال ، الفوز باقتناعهم به ، ما لم يتم التغلب على " القهر " الذي كتب على المدينة تحمله منذ قرار عام 1959 القاضي بحشر المهاجرين من العمارة والناصرية والكوت والديوانية والحلة في بقعة مستطيلة حملت كل صفات العزل القسري ، وشعور سكانها بالرفض من " الحضر " ورفضهم ذوبانهم في العاصمة.
المُعدَمــين
بدأ أهالي الثورة تشييد حيــّهم بقوة سواعدهم ونقود وإمكانات غير مرئية ، باختصار بدئوا حياتهم : معدمين.
لذلك تراصت بيوتهم بشكل عشائري وليس هندسي ، أي أن كل مجموعة قبلية اتخذت قطاعا سكنيا من القطاعات الـ 82 في المدينة ، لاعتبارات اجتماعية بحتة ، وكذلك تقشفوا في بناء الجدران الخاصة ، فكانت الغرف تتراص بعضها مع البعض الآخر بجدار واحد.
فبدت وكأنها مضفورة وكيانها يمضي تحت شمس لا نهاية لها وأنظمة بلا عمر ، ساعد وضعها " الهندسي " وتراصها ، على أن يسمع الجار جاره ويداري تأوهاته ، اقتراب غير متعمد ، لكنه نتاج فقر وقلة حيلة أدى الى انصهار الناس وتداخل رغباتهم وأفكارهم وثوراتهم وهيجانهم. فما أن يصرخ أحدهم ، إلا ويجيبه الآخرون ، وأن ارتفعت كفا، طارت من ورائها الأكف ، هكذا تدبر الناس أوقاتهم وأحلامهم وكأن دمعة واحدة تفتك بهم وتكفيهم وليمة فيها طعم حياتهم.
أسلوبها كأحشائها
حملوا مع أمتعتهم وأطفالهم ورقع ثيابهم أسلوب حياتهم الريفية ، ومعاناة المهاجر وكدح الغريب ، فما أتاحت لديهم حياة المدينة الخروج من مشقة الريف وعاداته وتقاليده وتلمس أشواكه عبر فضاء مضني لأكبر مدينة في العراق.
ولم ينفع تفاعل أبن " الثورة " مع حركة المدينة الضاجة بالأنوار والتقليعات والصور المعاصرة ولم تساعده في الانسجام ، فحمل الريف من بيته الى قلبه ومن عقله الى بيته ، واستكانت دورة حياته هكذا ، فأصبحت هذه الدورة مع مرور الزمن ، مشكلة للمدينة التي يقف عليها وللريف المنتظر في ضميره ووجدانه.
ألهاهم التكاثر
وفي غضون 35 سنة طرأ تغير ديموغرافي لم يحسب له من اتخذ قرار نهاية الخمسينات حساب لما ستؤول إليه الأمور نهاية القرن العشرين ، عندما ازداد نفوس أهل الثورة من 350 ألف شخص الى أكثر من مليونين.
هذا التغير لم يتناسب مع مساحتها ولا مع مستوى دخل الفرد فيها ومعيشته ، فكان الفقير يزداد فقرا كلما زاد عدد أفراد عائلته ، الأمر الذي أدى الى زيادة الإحساس بالقهر بتفشي البطالة واللجوء الى المهن الدونية ( لا يجيدون غير الفلاحة ) والدخول في سلك الشرطة والجيش مرغمين صاغرين للتخلص من العوز الرهيب ( أكثر من 90 % منهم دون خط الفقر ) أمام حاجات المدينة ومتطلبات الأجيال الجديدة التي بدأت تنمو وتحاول الوقوف على قدم المساواة مع أبناء الحضر والعاصمة ، الذين أوغلوا بدورهم بالنظر والتعامل مع أقرانهم المنحدرين من مدينة الثورة بتعال وفظاظة وروح مشبعة بالغطرسة ورفضوا دخولهم معهم في مجتمع وتكوين واحد ، حتى لو كانوا يعملون معا أو يدرسون في صف واحد في كلية أو معهد.
وكان جواب أهل الثورة عليهم بزيادة النسل نظرا لارتفاع نسبة المتزوجين وعدد الأطفال في كل عائلة المستند على التربية القبلية والريفية. في الوقت نفسه ، لم تتوقف الهجرة من الريف الى المدينة بسبب إهمال فج للأنظمة المتعاقبة للريف وأحواله ، فكان أبن القبيلة ككرة الثلج يجمع أفراد قبيلته من حوله أسرع وأقوى من المغناطيس.
شيشان
مدينة الثورة فقيرة للغاية ، وهناك في أطرافها بعد أن توسعت وكثرت أحيائها ، تجولنا في أفقر الأحياء الفقيرة التي لا نعلم من الأول الذي أطلق عليها الشيشان.
هي استعارة للرفض ، لم تأت بالصدفة ، تحذير للنظام بأن الذين يسكنون هنا مقاتلين ، أو ثوار أو أي وصف آخر يدل على التحدي.
استعاروا من الشيشان بأسهم وصمودهم ، عزلتهم وقدرتهم على المجابهة والصبر وتقبل الموت من أجل الحياة.
محفورة بيوتهم ، مجازا نسمي مأواهم في ذيل الثورة ، عكرة ، فاسدة أيامهم بهوائها الدبق الفسيح بالذباب والصارخ بالحشرات والأمراض ، وكلما تراجعت المدينة أكثر ، يزداد سخام أبنائها وتوحشهم وعذابهم المؤجج بالفوران.
الأثر الشيعي
تميز أغلب سكان الثورة بكونهم شيعة. وهكذا أضيفت لهم صفة أخرى تجعلهم غير مواتيين لأهل الحكم ، بالإضافة الى تمسكهم في ممارسة الطقوس الشيعية الخاصة وحرصهم على تأديتها في ظل أنظمة رفضت ذلك ولم تسمح بها ، الأمر الذي أدى الى تماس مباشر ومصادمات ومضايقات استمرت لسنوات طويلة انتهت الى حد التنكيل الجسدي والسجن والإعدام ، لمجرد الاحتفاظ بصورة إمام ، أو سماع تسجيل حسيني أو ترديد شعائر ما.
هذه المجابهة المتقطعة بين أهل الثورة والحكم ، ولدت حالة احتقان لدى عامة سكان المدينة ، يضخونها أحيانا في زياراتهم لمراقد الأئمة في الكاظمية أو كربلاء والنجف ، أو من خلال إقامة مراسم العزاء عند وفاة أحدهم.
اشتراكية الظلم
الزيارة ومجالس الفاتحة ، كانت اجتماعا يهــدّأ الوضع السوسيولوجي المرتبك لديهم نتيجة لحرمانهم حتى من حق البكاء واللطم والتعبير عن مصابهم وفقرهم ورفض أهل المدينة لهم والتمييز الفظيع الذي يمارس ضدهم في التعيين وعدم اختيار أحد منهم في أي منصب حكومي ولو ملاحظ في البلدية.
وساعدت العدالة في توزيع الظلم عليهم جميعا على توحيدهم واستمرار أهم مكون اجتماعي لديهم وهو " الشعور بالجماعة " وبأن لديهم نظام اجتماعي واحد يتكفل بترتيب حياتهم اليومية والعامة.
هذا التنظيم غير المعلن ( نظام الجماعة والقرابة ) كان مرجعيتهم التي تدلهم على الخط الذي ينبغي أن يسيروا عليه ( بغياب دور مباشر للمرجعية الدينية المضطهدة والمغيبة والمنفية والمقتولة ) ، فزاد لديهم الشعور بأنهم أخوة على النمط الريفي ، حيث يعلو صوت الكبير على سواه ، فتأسس بفضل عادات الريف الملمح الأبرز لمجتمع مدينة الثورة ، الذي قدّر له ، ما أن ارتفعت القيود وفوهات البنادق وسياط الجلادين عنهم ، أن ينفجر في صورة قائد ، التفوا حوله ، وخاطبهم بلغته، وأسمعهم طيب ما يسمعون ، أحبهم وأحبوه وقتل من بين أيديهم وأمام أعينهم ، ، فلا عذاب إلا عذابه ، ولا جدول يسري في عروقهم إلا كلماته ، بنملة الأفكار وقمح المشاعر ، صحا أبن الثورة الجديد على الاسم المجسد لكل سنين العذاب والحرمان والقهر فكان المدينة ، وهلّ كثورة في الثورة: الصــدر !!