الاثنين، 29 ديسمبر 2008

رمضان بغداد الحزين


أصح يا صائم .. أصح ..
فزمن بغداد ، لا يشبه أزمنتها ، ورمضانها لا يشبه رمضاناتها السابقة، لا يشبهه في كل ما اعتاد عليه البغداديون وما أحبوا ممارسته في هذا الشهر.
غير أن الأمل ، لا يزال يلازمهم ، بأنه في يوم ما ستعود تلك الليالي التي كانوا يسهرون فيها ويلعبون ويتسامرون ويأكلون ما ربحوه في رهان.
حل رمضان جالبا عواصف البرد لمدينة لم تتهيأ للدفء ، جاعلا يقظة لياليها على دقات طبول السحور حلاوة افتقدتها الأحلام وتنبؤات السهر.
صدى المدافع يلوث ترحابك ، والانفجارات المعتدية على صمتك تسكت مدافع الإفطار وتخرج أعشابك الفاسدة من ثنايا القبور.
لقد حملوا جسدك طوال عقود أكثر ما يحتمله كبدك من راجمات وقذائف ، وانزوى مدفع الإفطار إلى متحف الشمع البغدادي ، بعد أن داستك كل مدافع الدنيا.
فأي رمضان بلا مدفع وآذان ؟!
أصح يا نائم ،،، فقد كان الآذان فيك يبلّ العروق ويذهب بالظمأ ويثبـّت الأجر ويغمر الأفواه بالقناعة ويرسخ نومة الأحياء ويضلل التواري ويجلي الوقت الضئيل.
اندمج صوت المدفع مع آلاف المدافع وتضرع الآذان الى بضعة كيلو واطات ليلزم المائدة بالحكمة الصادقة.
غفرانك ، إن حطم اللصوص باب بيتك ونهبوا آمالك الأخيرة ،،
غفرانك ، إن استفقت على أصوات المجنزرات
غفرانك مع انشقاق كل ليل بأفق راعد ونوافذ مغلفة بالظلمة ودموع محزون صائم تنساب دون عجالة باسطة زهرة عينيه بالدعاء المتبقي المنسوخ من أغاني الطفولة.

إيه ، يا نور الصباح الرمضاني ، هذا الحزن لا أعرفه ، لا أعرفه فيك!
تنظر من نافذتك المغبرة إلى جامع ضخم لم يكتمل بناؤه بفعل سوء التخطيط السياسي. ينساب إليه فتية يحملون أعلام ملونة ورايات مزوقة بالصور ، فهي إذن الجمعة الأولى لرمضان الحزين في بغداد.
تسدل ستارة النافذة وتزدحم بكآبتك غير المعتادة.
ينقضي اليوم الأول والثاني حتى السادس لرمضان ، لا تقوى أصابعك على خط ولو سطر واحد عما تراه ، فثمة حزن بدأ يزرع في داخلك ، غريب ، لم تعرفه.
تعلم أن رؤية الشوارع مظلمة والبيوت مظلمة والأشجار مظلمة والنهر مظلم والمآذن مظلمة والمقاهي مظلمة وحتى مهب الريح لا يرى، أثخن جرح يمكن أن يمزق اندفاعك.
فعمّ تكتب ، وأنت الوحيد في الظلام والفراغ ؟
تستلم الصبح لكي يدنيك من أحد ، أول ما يستقبلك في الشارع دبابة في العرض وأخرى تسد فتحة القط ، نشاز يعبأ المدينة المثقلة بالجرائم والقتل والنار والأوباش.
فهل تستسلم للحرفة لتداوي راتبك وتحلله بالمواد الصحفية المشبعة بالبخور والطهي الممتاز والبقلاوة البائتة وأحاديث مقاه مفتعلة ؟
ليس هو رمضان الذي ألفناه ، ليس هو بصباحاته المضيئة وبرده المنعش وشفافية ليله ورحمته التي عرضها السماوات والأرض.
إيه أيها الخريف المتأخر على بغداد ، ألا تستطيع إلقاء ولو شيء حلو واحد على نواصيها ؟
فللصحون القائمة على سطوح البيوت ثراء لا يعادل. فهذه المعادن وأسلاكها حولت مساءات الناس بيسر متواضع إلى أريج بستانيّ شاطر. فلا توجد عائلة واحدة في بغداد تهتم بأكثر أو بأقل ، من جلوسها تحت رحمة الريموت كونترول في يد الأب المتباهي بجهازه المديون ، لترمق بنظرات ميئوس منها ، ما حلّ بالعالم ، وكيف يعيش باقي الخلق ، كيف يأكلون ويلبسون ويعيشون.
فمن يتجرأ أو تسول له نفسه ويفكر في زيارة قريب أو صديق ؟ لا مناص سوى تكرار الدعاء بعدم انقطاع الكهرباء لتكملة المسلسل أو المباراة أو الحوار السياسي الصاخب الذي يفرضه صاحب الكنترول على أنوف من في البيت الذي جهز وقود مولدة الكهرباء التي اشتراها مستعملة بعد استلامه مرتب شهرين بالدولار.
ومن الكريه ، أن يتحول الدم والنار والانفجار الى صفة بغدادية ، هي الصفة التي تقوض حياة المدن والبلدان ، مهما منحتها دور الرعاية ومؤتمرات المحسنين من هبات.
والأكثر كرها ، أن لا أمل في انتهائها ، فالعراقيون لم يتعودوا بعد على صراحة قادتهم ، وحين يطل عليهم رئيسهم المؤقت الأنيق ليخبرهم بأنه لا يستطيع القضاء على الإرهاب ، فليس بيدهم سوى أن يقدموا العزاء إلى الهواء.
لكن الأطفال والصبية ، ما حلّ بهم هم الآخرين ؟ ففي الأسابيع الأولى من السقوط ، كانوا يوزعون ابتساماتهم وتحياتهم على الجنود الأمريكيين ويلاعبونهم ويداعبونهم ويتبادلون معهم الهدايا التذكارية ، ما حل بهم الآن ، بهؤلاء وأولئك ، فلا أحد يطيق الآخر ، بل أن تصل الى أذنيك أمنية صبي قالها بملأ فمه ما أن رأى رتل في الشارع : " لو قاذفة الآن وأمزقهم " !!
أليس حزينا أن يحلم صبي في أن يتحول إلى كومة رماد أو يتسبب بها ؟
ما هي مكابداته ومن سينتشله لتكن له قريبا الصبية التي يحبها ويموت من أجلها فقط ، غافلا النذائر المؤلمة والأساطير التي أعادت المياه إلى ينابيعها !
ستة أشهر اكتملت وهم يدعسون شوارع البلاد ويفتشون أوراقها ولكن لماذا مع كل مقطع نكتبه يهز انفجار راحة المدينة ؟ ولماذا يغلقون الطرق إلى الأسواق الشعبية والنهر الحبيب ؟
الوقت : صباحا ، ظهرا ، ليلا ... تستمر زمجرات الحديد ، غادية كخلخال صدئ وراجعة كبوق أنهى موعده.
فهل خسرنا النخيل وأبهة رمضان وشؤون الزيارات العائلية ؟ فمن يظفر شعر المدينة غير حقولها اللاهثة !
ما السر في انهماكهم في شؤون البشر والتفتيش التقليدي في بلاد زورّت حتى نشيدها الوطني ؟؟!
ترى عرقهم في الحنين وهم يصمدون على تختات المقاهي : أسمع! هكذا يحصون الانفجارات وتوجسها وضيقهم في ابتلاع القيامة وشقوق الطبائع وانكسار الهواء.
لا يجلس فيها غير ذلك الجيل الغلبان العائد من وهدة الخوف والماضي القديم ،، القديم الجميل ، بمباهج رمضان العتيق والأصدقاء الوديعين وشكل العجينة المحضرة خصيصا للتحول الى بقلاوة الفائز بـ " محيبس " المساء.
تجلس في المقاهي نفسها التي كانت قبل ربع قرن تأوي كل المارة وتجر نحوها كل الرجال والصبيان ليوافون الليلة الرمضانية حقها فماذا ترى ؟
شبان متعبون يشربون الشاي بصمت ورجال في منتصف العمر لا يكمن في عيونهم أي استقرار ولا يفارق حديثهم تناول ما تيسر لهم من إشاعات وأنباء التفجيرات ونصائح أمنية متبادلة خلال قراءتهم أحد المناشير التي أصبح تداولها بين الناس تقليد رمضاني جديد.
تسترق السمع للأحاديث ، ثمة من لم ير أصدقائه ولم يكلمهم منذ مطلع الحرب ، فليس بوسع رمضان ولياليه أن تعيد إليهم حلاوة تلك الأمسيات وصداها الذي لا يريد العودة.
حتى في الخميس المبجل ، الضاحك دوما في رمضان ، ينأى سعال الحروف ، بارحا ولائمهم المعدة في النهار.
احتارت مواعيد رمضان في المدى المغلق وطارت صيحات مطربي الخانات إن يجروا المقام حتى السحور.
لا أحد يزف قصائد المقاهي المصنوعة بعد الفطور ولا يدب في الحوانيت المعتمة ذاك النغم.
الكلام .. الكلام ..
الحكي ، ما أبطل خميس الأنين لو جاء أو كان ،
الخميس الرمضاني .. السراب .. يسأل شاردا عما إذا كان هذا اليوم هو الخميس !
وحدها حلوى رمضان جاهزة مطمئنة ، في نفسها ومكانتها ودكاكينها.
ترى طابور محتشم لرجال منظمون لا حديث عن شحة في المواد الغذائية ، فالتجار والخيرات من النشاط ، بحيث أغرقت كل صفحات المحال بأي شيء يطلبه المرء ، أي شيء مهما كان صعب المنال في السابق.
ابتهجت العين برؤية التلاميذ والشرطة والسيارات الحديثة في شوارع بغداد. هذه الشبكة تدل على مسيرة الحياة والفرح الملوح. لكن هذا الفرح أخذ بالانطفاء منذ اليوم الأول من رمضان. فالجميع متوترون ودونهم يمتلك الآخرون الفزع لذلك تغير اللون في العين التي بالكاد ملئها الابتهاج.
لقد وصل الأمر الى القصف بصواريخ الكاتيوشا وأرض أرض والهاون واعتبرت عادة رمي القنابل اليدوية تحصيل حاصل. هذه الهجمات أدت الى نفوق سمكات المدينة ، فإذا كان الشرطة لا يترددون على مراكزهم ، فمن الطبيعي أن يسمح الآباء لأبنائهم ترك الدراسة حتى كتابة الدستور !
الطمأنينة بدأت تضيق وتضيق وأمعن الليل في تقطير الظلام وصمت القبور.
هكذا تخسر بغداد معركتها الحاسمة ، فالأحياء فقدوا إحساسهم بالأمل في أن يقف العندليب أخيرا على سارية العلم الذي يرفعه صبية البلاد في باحة المدرسة والخريف كسول وترنيمة النشيد الخالد تلاشت كالظلال في الغبار.
يتعطش الناس في العاصمة الى رؤية قادتهم ، سماعهم ، التحاور معهم .. قادتهم الذي لم يبخل أي منهم على تكرار كلمة " الشعب " في أي حديث حتى الساقط سهوا في هذيانه.
انكفأ قادة البلاد ليتحولوا الى أسرى مقارهم ، لا يراهم أحد إلا في التلفزيون ، فمنذ استلامهم السلطة ولغاية هذه اللحظة لم ينزل الى الشارع أو يفتح حوارا مباشرا مع الشعب أي منهم.
تجاوز هذه العادة المهمة ، أضف الى ذلك عدم ظهور تصريح واحد مطمئن منهم يمكن أن يبلع الشعب ريقه بعده ، زد على ذلك ، اختفائهم أو سفرهم أو عودة قسم منهم للأقاليم الآمنة ، وتركهم الشعب في مهب الانفجارات والشرطة القليلة الإمكانيات ، في هذه الأيام التي راهن الكثيرين على شفائهم فيها ، لا يرون أحد من القادة بالقرب منهم ، لذلك يمكننا القول بثقة بأن شعبيتهم تراجعت و ومن الصعب زرع الثقة أو عودتها الى الناس مهما حاول المدعين بالسلطة.
يمضي حامل الطبل في الظلام المجهول ليدخل صوته في البيوت البغدادية المصطفة ..
أصح يا صائم .. أصح ..
فالنجمة التي تحلم بها مرت من فوق رأسك ، هيئتها تستدعي التوقع بحسرة المياه الناشفة في حلقك حتى ظهورها من جديد.
أصح .. فالنجوم أيقظت نمائها لترتفع بعيدا في ظلمة استحوذت عليها دقات حامل الطبل المنفرد في الغناء للرمضان البغدادي المبارك الشديد الحزن.

وعيدها بيوت

لها من الساعة ، المحكّ .. ومن القمر زينته .. ومن الزوايا ألفتها ..
ومن النسر التوجس .. ومن النوم اليقظة .. ومن الموت المرثية ،، هي بغداد أن كبــّرت ثلاث صبيحات للعيد غير المتفق عليه.
إذن ، لم يوحد أسنانها العيد ولم يمض الصبية والصبايا لتذوق ترعة واحدة ولم تنحت بخورها ذات الجدار ولم تندهش هندسة الفرح في تطواف أهلها ..
الحمد لله بكرة وأصيلا ، إن نهضت وثقبت قرون من الضوء الماضي لزهرتك المحطمة وماءك المحطم وكتفك المحطم.
الحمد لله كثيرا ،، في ظل الأوراق والظلال الداكنة والنور الوسنان والضفة المحمحمة ، إذ تعود إلى دمك ، مقوضة الليل وشرارته الدامسة.
بارعة ببؤسك قانعة بشقائك ، قاتمة عاداتك برغبة الدبابير وفرحة المرساة لليابسة ، مجدولة سلالمك بأعمق ما في هذه الحياة : الأنا !
ما الذي تبقى من أناتك غير الدموع الساقطة في فجر عيد غير متفق على بهائه وشجرة تواكب حرثها وقرط يمازح التخريب وعظام مؤمنة بالأرض ، وتأسي الابن ولوعة أرمل وحيد من ضياع نظارته القديمة.
عيــّدت بغداد مع كل الأمم ، سبقتهم جميعا عندما أعلن سنتها الاثنين مطلع الهلال والصدريين أشعلوا فجر الثلاثاء بالرصاص مبتدئين عيدهم والسيستانيين حبسوا أنفاس الخلق في فجر الأربعاء معلنين عن احتفالهم بالعيد بالطريقة ذاتها ..
هكذا عيــّدت بغداد ، يومها الأول الاثنين ويومها الأول الثلاثاء ويومها الأول الأربعاء ،،
لكن العيد لا يهمه التقويم ، فلتكن كل أيامك أعياد ، فالخريف لا تهزه ريح منفردة ولا يتوقف الربيع في الندى الأول ، لتكن نظراتك كلها مضاءة. لكنك يا بغداد لم تفتحي أجفان الفجر ولم تنيمي المحاربين ولم تكس فرسانك ولم تستقلي المنفذ المتاح.
عيــّدت بالثلاث كلجانك ومجالسك وسلطاتك وقراراتك المتخمة وهوائك التائه. لكن هل عيدت عصافيرك وضراوتك ومنائرك وهل أثمرت عناقيد فتيتك بالفرح أو رعت وجنات فتياتك بالجذل المستحب ؟ فأي منقلب تنقلبين تحت شفرتك وانبثاق جميلتك الصاحية والناطقة قبل أن تسقط الكلمات أحلاها : عيدك مبارك ! ولتكن جراحك أثمي وعنائي ، مزهوة بالثوب ، أقدامه وأذياله ، محفورة بالملح.
عيدنا كان متنقلا باستعارة همنغواي ، مفرط بالزحام والفرح والخيارات. فلنغشّ التاريخ قليلا ونسرد شيئا من أعيادنا ، علــّهم يتعلمون بعض السرور.
ولنقل ، أن لا أرض ولا سماء وسعت زهونا في هذه الأيام الثلاث مهما كانوا يقررونها : جربنا الطيران مع البالونات ودواليب الهواء وطائراتنا الورقية ، امتطينا الخيول والحمير والبغال كل ظهر بعشرة فلوس، قامرنا في كل الألعاب التي اخترعها العيد ، سبحنا في الأنهر الآسنة والبحيرات المفتعلة ، تسلقنا سياج ملاعب ألــّـفنا غاياتها ، ولكي تهمد أجسادنا ألقينا بأوتارها في مقاعد سينمات متخمة بالبشر ، تصادقنا مع هدايا هوليود ووالت ديزني ومبتكرات الطليان المثقلين بالتجريب. زرافات كان الصبية يسيــّرون الشوارع بمشيئة دفوفهم ودقات أصابعهم المتناغمة مع سعادة لم تكتمل.
في عمر العيد كان كرنفالنا مستمرا ، لم نكن جمهورا أو مستمعين أو مشاهدين أو قراء ، كنا مؤلفي الأعياد ، حكاياتها وقصصها وسيناريوهاتها وسمفونياتها ، جزع النشالين من الجيوب الفارغة وضجر الزوج الجديد من تمايل زوجته الفتية بحرشة الصبيان.
كأن شخصا ارتدى الفردوس ووزع أغصان الدرّاق بمساواة حلم اشتراكي.
عيدنا كان يدور على نفسه ، ليوزع حورياته الراقصة ويغطي بنعيمه كل من خرج صاحيا من بطن أمه.
هكذا عرفناه : نقرة طير حر ونافورة ملونة وشدو موزع وفناء مشمس، صافيا كصوت قيثارة.
لقد اجتمع كل من عاش في بغداد على التجول في منتزه الزوراء ومدينة الألعاب في السيدية والأخرى في زيونة وجزيرة بغداد قرب التاجي وساحة الاحتفالات أوقات الأعياد.
كان أهل العاصمة يلتقون في هذه الأماكن حتما ، كلها أو واحدة منها منذ التاسعة صباحا ، حتى يملوا من هرج الأطفال عند الحادية عشر مساء.
ففي الزوراء هناك حدائق طويلة وعريضة وبحيرة للزوارق ومسرح أقامته شركة ميتسوبيشي وقاعات مليئة بالألعاب الإلكترونية ومعارض مائية للأسماك وأفضل حديقة للحيوانات في الإقليم وألعاب كهربائية تقليدية ومطاعم كثيرة. ولا يختلف اثنان على أن هذا المنتزه شاملا ويستجيب لرغبات كل الأعمار والطوائف والأقليات.
وكذا الحال بالنسبة لمدينتي الألعاب المذكورتين ، ولا يجد صاحب العائلة مشكلة في العودة الى البيت ، حيث تزدحم بوابتيها بمئات من سيارات الأجرة على مدار الساعة في العيد.
كانت هذه المواقع تعج بمئات الآلاف كل عيد ، لكننا " رصدنا " في العيد الحالي ، بضعة أنفار ومجموعات قليلة من الفتيان وعائلتين أو ثلاثة فقط في منتزه الزوراء الذي أخلاه الأمريكان قبل فترة ووعد كل من منحت له فرصة التصريح بترميمه وإعادة البهجة إليه.
أما في مدينتي الألعاب ، فالدواليب توقفت ومعها كل الألعاب لأنها ببساطة كهربائية في مدينة تتمنى الكهرباء ولا أحد يريد المجازفة بتسلق الأعالي وانقطاع الكهرباء عليه في القمة ، وللدقة ، لم تتحرك في بغداد أية لعبة كهربائية ، عدا في منتزه صغير واحد دفع اليونسيف كل ثقله لإعادة تعميره يقع في مدخل شارع الكندي في الحارثية وهو لا يستوعب أكثر من مائة طفل.
كانت ساحة الاحتفالات تغص ببضعة آلاف من المحتفلين بالعيد يوميا ، لأن فيها مسرح وسينما تخصص عرضها للأطفال في أيام العيد وللكبار أهدت شركة أجنبية لشعب العاصمة شاشة كبيرة يعرضون عليها بعد وصايا القائد فيلما محتشما. وثمة من يهوى التجول في ساحة استعراض الجيش أو التصوير على مبعدة من المنصة الرئاسية ، وتكتمل فرحة العائلة ما أن يفترشوا الأرض ويأكلوا ما جلبوه معهم من طعام بالرغم من وجود الكثير من الكافتيريات والمطاعم في المنطقة.
غير أن ساحة الاحتفالات تقع في " المربع الذهبي " كما أسماها الأمريكان إضافة الى القصر الجمهوري وقصر المؤتمرات وفندق الرشيد. وهي الآن معزولة بالأسلاك الشائكة والأعمدة والجدران الاسمنتية العالية وممنوع الاقتراب من تلك المنطقة. لذلك لا حديث عن رصد أحد يعيـّـد في تلك المنطقة هذا العام.
ومن اعتاد قضاء العيد خارج بغداد فقد كان يذهب الى واحدة من هذه الأماكن : ناحية البغدادي بالقرب من الرمادي المشهورة بغابات النخيل وكرم أهلها كمنطقة النواعير في حديثة التي تزورها العائلات الميسورة والمتوسطة للاستراحة وقضاء العيد بين الأدغال والتطلع الى منظر النواعير والحياة الريفية لمن يهوى ذلك.
وثمة من يتوجه الى منطقة بروانة أو بحيرة الحبانية ، لنهار واحد أو اثنين ، قبل أن تسوء سمعتها بعد أن أشرف عليها وطبان التكريتي ، حيث أحجمت العائلات التي تحترم نفسها من زيارتها.
وتكثر في أيام الأعياد سفرات العائلات النهارية الى مجمع المدائن ، ففيها بيوت سياحية ومطاعم مختلفة ، وقريبة من طاق كسرى وهذا المجمع فيه مسابح متنوعة ومطل على نهر دجلة ويختاره الكثيرون لغرض زيارة مرقد سلمان الفارسي.
و يتداعى بالقرب من مجمع المدائن الآن بناء مدمر ، كان يأوي واحدة من فرق الحرس الجمهوري ، كما تنتشر في تلك البقعة " بانوراما القادسية " التي تصور المعركة التي تحمل الاسم نفسه ، وهي الآن مغلقة واكتسبت هيبتها الأولى عندما كانت أول مكان يزوره زعماء مجلس التعاون العربي الأربع والذي اختفى بلا اتفاق.
لم تتجرأ عائلة بغدادية واحدة لاستئناف تقليد زيارة الأماكن المذكورة في هذا العيد ولا نرى ثمة داع لسرد الأسباب.
وتزدهر المناطق الدينية في بغداد بالمعيدين. فالكثيرون وخاصة في العيد الراهن ارتادوا المواقع المقدسة كالحضرة الكاظمية ومقام أبو حنيفة في الأعظمية وضريح عبد القادر الكيلاني في السنك.
في هذا العام وغيره من الأعوام ، يجلب الناس طعامهم لو كانوا من أهل العاصمة أو يشتري زوار العاصمة الأكل من المطاعم ليتناولوه في صحن الحضرة. ويشعرون بقداسة المكان ، ويزيحون عنهم كاهل أوقات عصيبة ويتبركوا في هذه الساعات التي يقضونها وينذروا ويعيدوا تلاوة أمانيهم وأحلامهم المبددة.
يؤجل البغداديون زياراتهم لهذه الأضرحة للمساء حتى يفرغها أهالي المحافظات الذين يكونوا قد عادوا إلى مساكنهم ، ليتناوب على الزيارة كل أهالي العراق.
في الأوقات السابقة ، حرم على الزوار بناء الجوادر والمخيمات وتوزيع الأكل والشرب ، بحجة تعطيل السير ، غير أن هذا العام شهد احتفالية كبيرة وتنظيم براق فاق كل فعاليات زيارات العيد في السنوات الغابرة. وتختلف الممارسات الطقسية من مكان لآخر ، ففي الوقت الذي يردد فيه المعنيون في الحضرة الكاظمية القراءات الحسينية ، تحيي بعض المجموعات حلقات الذكر وقراءة الأناشيد الدينية والموشحات في مدح النبي وأهل بيته عند أبي حنيفة وعبد القادر الكيلاني.
وبسبب انقطاع السبل لدى شباب العاصمة في القبض على عيد مكتمل ، التجئوا الى من يمتلك سيارة ضمن المجموعة ليتجولوا بواسطتها في مدينتهم ولاسيما في مناطق المنصور وعرصات الهندية وبعدها يتوقفون في واحد من مطاعم الوجبات السريعة التي انتشرت الآن في بغداد وينهون أمسيتهم في بيت واحد منهم يتطوع في شراء ورق لعب جديد ليهجعوا حتى ساعة متأخرة من الفجر في ممارسة اللعب وتبادل آخر الأنباء.
تخلو شوارع وساحات ومتنزهات بغداد من العيد ، وتقفر ما أن يحل المساء المزدهر خصيصا بالكهرباء. وتضخ السماء المطر الأول بعد الحرب في اليوم الأول من العيد المقترح.
ويبدو أن الناس فضلوا قضاء أيام هذا العيد بالزيارات العائلية ووسط الأهل والأقرباء ، وتحول عيدهم الى بيوت.
ويحصي المعيدين فيما بينهم ما ألقى عليهم الزمن من براثن وما حمله من أوجاع وآلام. ويرددون بلا شك ، بإحصاء من يغمض عينيه ، ما يتمنوه وما يعلقون عليه ذروة آمالهم في أن يشتعل عليهم العيد بالأسواق وضجيجها وبنافورات مزينة بلون الورد وبألعاب نارية تشق سمائهم بدلا من مشاعل التنوير والصواريخ وبمرايا تلتهم تجاعيدهم وأفراح جدا صغيرة ، لكنها في كل الأحوال أفراح و ثمرة آمال تنبش العدل في الميزان.

وجمعتها تحدي

لا ذنب للقبة والمنارة فيما حصل ، لكن لهما الحول والقوة. بالومضات البلورية والتسابيح الرنانة ، باعتلال الخريف وهبوط الدعاء اللاذع، بسطوع أبراج المآذن وكشافات المحتلين الضوئية ، بالكتل الصماء المحشورة بما خلق من ماء وطين ، تعلو الرموز والأصوات والابتهالات ، ما أن تعلن الشمس منتصف نهار الجمعة.
في حقيقتها وشكلها صلاة الجماعة في يوم الأيام : الجمعة .. في مرادها مراقبة تبدلات الفصول وأزيز سرف المدرعات الغريبة والوطن الذي ضيعه غبار الخيول وحوافها.
في بهائها ، صلاة المجتمعين على ندب البلاد الدائرة حول خصوبة الخبز والكلمة ، معادلة التصديق وانتهاج الانبعاث بالموجودات وزهور المساجد والصفصاف الذي يتفيأ في جنباته المتوضئون.
في تجوابها وأسئلتها ، أنذر من النار وأرق من ضراعة طفل وجثامة جرح نازف وصورة العاصمة المتغيرة ولحظاتها المرعوبة النازلة من فم الخطيب والمخطوب ، الذراع والسنبلة ، المنزل والهجران ، الاستباحة الدائرة من فلك ساعات المساجد المتعطشة لوقود الوطن.
فلأحدثكم عما تغير وتأسس في الصلاة – الولادة ، الصلاة – الإطلالة في زمان اللغات الغامضة – الزمان البغدادي : عند تدحرج الشمس ببساطتها غاسلة غبار الشوارع ، يلثم العراقي جروحه وأمنياته لتتدفق أقدامه نحو المساجد حيث تتوحد الدبابة والقبة.
ولأن " الحملة الإيمانية " لم تكتمل للعبد المؤمن السابق ، فأن كل مساجده بناها في غرف التأسيس والتأثيث .. غريب أمر عاصمة المجد ، كم تعاني من قلة في أعداد المآذن !
نساها وتناساها ، حرم عليهم دخولها في روعة البحث عن لقطة جديدة ونصب متاح. أقف على سطح بناية عالية خربة ، أعد القباب والمنارات، فلا أجدها متناسبة مع الملايين السبعة الذين توعد حرقهم ولا تناسب حجم بغداد الواسعة.
كان مهموما بالقصور ومستضعفا لكثرة الدماء التي أهدرها من أجل " إعادة كتابة القرآن " بدمه وكفه المداهنة التي ما أن تصافحها ، عليك البحث عن فرصة للموت السريع.
في حملته الإيمانية ، أطلق العنان لبناء الجوامع ، وينبغي أن تكون الأكبر والأعلى ، فلا هي بالكبر ولا بالعلو ، هل رأيتم مسجدا في التاريخ رموزه المعمارية أما تدل على تاريخ لغزو جار مسلم شقيق ، أو لتاريخ ميلاده أو نفوق رفاقه !
هذه " الأفكار الإيمانية " هي التي أدت بمصلي بغداد اللجوء الى الشوارع والساحات لاستكمال السنة الفائقة الاخضرار ، فلا مسجد في بغداد يكفي الهروب من الأيام الثقيلة وغلايين الزوار الجدد وعطور من تنبأ بالسكوت.
هي الرياض الطيبة ، شوارع بغداد ، إذ يلتحم فيها السجود ..
هي الراحة في الأرض والسماء وبراءة البكاء

وعن البكاء : قصاص يعنف بعضه ، إذ يتدهور الإحساس بالضعف أو المهانة غير المستحقة ..
لم يسجد أحد على إسفلت الشوارع البغدادية دون أن يبكي
أهو البوح للخالق العظيم أم إذابة حرقة لم تكتمل ؟
وبعد البكاء تحين الصلاة ، وفي الصلاة يحين البكاء ، البكاء – الصلاة للواحد الأحد ذو الجلال والإكرام والكلام الخارق منور العتمة وراوي نسغ المحرومين ، البائسين إلا من رحمته ، حيث تتحشد العصافير وحمامات الكاظم المغدور الذي استؤنف اللطم فيه وأبو حنيفة المقصوف على أهداب من مزق صمت الخطيب ، قارئ التحيات والسلام الأخير ، بذلك الصوت الذي أدركه الزاحفون نحو الغايات المكتوبة والمصير المحتوم ، تتشابك أكفهم من حيث لا يدرون ، لتستحيل رسائل تنزلق من حناجرهم صرخات كفيف مقتدر ، وفقا للجرح والصحوة المباحة لمناشدة البلاد التي لا يعرفون من سيوقع على حاشيتها أخيرا ، وبشفافية فيء دجلة المنساب بحرية ، يمضون في الطرقات ، كما لو يؤدوا الجزء اللاحق من الصلاة ، فعل مجرد ، يحرر همومهم ويزيح الأثقال من أفئدتهم ، بالشعار الوحيد المنور ، بالذي نصغر كلنا أمامه ، لصاحب آلاف السنين ، محرر الرئات ومحطم المشانق ، واهب الأشجار والأعراس في الحروب ، لمن يمنح الأحفاد النهر الذي لا يعادل ، للكلمة الأولى والأخيرة في ابتهاج الجمعة : العراق .. العراق !