الاثنين، 29 ديسمبر 2008

شارع البنات


المكان المعلق بالنهر ، أسمه وأعمدته والنساء الكثيرات جدا اللواتي استعجلن ضجيجه وأحببن ضوضاء باعته كراديو مشتغل على الدوام ، تراوح أقدام البنات معلنة بأن طفلا سيولد قريبا مع خرير النهر وممرات الشارع الذي لا يحجب القمر وتلك التفرعات التي مهما حاولت الزوغان منها ستلقي بك في المصب. ومهما كانت شدة الريح ، باردة أم عاصفة ، تهدئها الأزقة وترطب رملها وغبارها لتخبئها في تجاويف المحلات التي تلمع ما أن تمر كومة فتيات ، ساعد غياب الكهرباء على منحهن فرصة التجوال فيه بدلا من تعقيدات مختبرات التحليل والرسم الهندسي.
في شارع البنات لا يفترض أن تعرف الى أي جهة تسير خطاك وأي أعماق فيك تحترق ، الزمان فيه فترة كما الحلم ، وسريان وليس وقع خطوات متضامة كذلك الحبل الذي مدوه ليشقوا أول شارع في البلاد التي لم تعرف النور إلا بعده.
الأفعى
مهما كانت أهداف والي بغداد ناظم باشا في تنفيذه كشارع منور بعد أن كانت بغداد علب صفيح مسقفة لا يربط بينها رابط أو شارع ، إلا أنهم بدئوا بشقه عام 1910 بعد أن مدّ المسـّاحون ومهندسو الطرق الأوائل في البلاد في عهد مدير بلدية العاصمة رؤوف الجادرجي بحبل عبر أزقته وممراته الترابية بحبل خرافي لطوله الكبير ، على أن تهدم كل البيوت التي يمر بها "حبل الوالي ".
لم يستسلم الكثيرين من أغنياء وأعيان المنطقة لمشيئة حبل الباشا ، فقد تدبروا الأمر مع العاملين ليبعدوا الحبل المدمر عن أملاك أي منهم ، لذلك ظهر الشارع في النهاية متلويا كأفعى طويلة.
الحرث
المرحلة التي أعقبت مد حبل الوالي ، كانت إزالة كل البيوت والأكواخ والمباني التي مر بها الحبل ، وشرعوا بعدها بتهديمها ، لغاية اليوم الذي توقف البناء فيه بسبب دخول القوات البريطانية الى بغداد. وبمستطاع من عاش في تلك الأزمنة استرجاع مناظر البيوت نصف المهدمة أو تلك التي تمت إزالتها بالكامل ولم يفلح أصحابها ببنائها ، مرتضين بعمل مهاجع لهم في العراء ، مستخدمين البطانيات والملابس المستعملة وامتد منظر العراء الشامل من المصبغة التي كانت ميناء بغداد الرئيسي مرورا بـ " خان اللنج" حتى " المبخانة ".
كان الناس الذي يلتحفون الفراغ والسماء والأرض ينظرون الى الإنكليز من وراء دورهم المهدمة ، في أوقات لم يكن في كل البلاد شارع واحد أو مصباح حيث كانوا يستخدمون الفوانيس النادرة للغاية و لم تحفر بها المجاري ويحصل الناس على مياه الشرب بواسطة القرب التي تحملها الحمير ، فأول مضخة مياه دخلت العراق في عام 1907.
وأدى الحرث غير المواتي وغياب " الباشوات " واستبدالهم بـ " المسترات " الى تدهور المخطط الرئيسي بعد هروب ناظم باشا الى اسطنبول والمهندس رؤوف الجادرجي الى ألمانيا ، فلم يكتسب شارع المستنصر كما أسموه في البداية شكل الشارع الحقيقي ، لاسيما بعد أن أعاد الأهالي بناء دورهم بطريقة ما ، حتى استقر الشارع الى زقاق طويل جدا ، لضيقه ، الذي لم يمنع في ذلك الوقت من دخول عربات الحمل والنقل فيه.
المرسى
بعد الاحتلال البريطاني للعراق ، نشطت التجارة عبر الخليج والبصرة الى بغداد وشمالا حتى الموصل. ولأنه لم توجد مطلع عشرينات القرن الماضي ، طرق مواصلات برية أو سكة حديد ولا حتى وسائل كافية لنقل البضائع من البصرة الى المناطق المذكورة ، فقد التجأ القائمون على شؤون البلاد وتجارتها ومعيشتها الى الأنهار ، حيث ازدهرت المواصلات النهرية في ذلك الوقت حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية واستخراج النفط الذي مهد لبناء طرق برية حديثة.
وكان نصيب بغداد من الأنهر ، دجلة فقط ، الذي كان عصبها وشريانها ، وغذى النهر العاصمة ولم يكن شارع النهر وقتها ، سوى المرسى الذي كانت تنهال عليه السلع والبضائع والمواد الغذائية والتوابل والأقمشة والبخور وكل ما يحتاجه البغدادي.
والمرسى توسع ليصبح أكبر موقع لمخازن البضائع ، والمخازن تفرعت لتبنى بالقرب منها محلات البيع بالجملة والمفرد ، ومنذ نهاية العشرينات كان شارع المستنصر ، المقصود بهذه الرواية ، ولغاية اليوم ، أهم المحطات التجارية العراقية على الإطلاق.
البنات
جذبهن الشارع بالملابس الحديثة وآخر الموضات القادمة من لندن وبومبي وآخر تقليعات الإكسسوارات الشرقية والغربية وما يصل الى البلاد من أحذية مستوردة.
كنّ الباحثات الدؤوبات عن المناديل والعطور والعباءات والمواعيد الغرامية والمشاريع العاطفية على بداية جذلها ورقة أخبارها ، متلمسات بريق الذهب ومنبع الصاغة الأوائل وشلالات الحرير ونعمة " النفانيف " المقشرة بالزهور والأشجار واشتياق الطبيعة لسلامة أعشابهن وشفرة يقظتهن.
ولأن الزقاق الطويل الذي كان في خاطر الباشا المتقاعد ، شارعا ، تحول الى مركز أناث العاصمة ، فاكتسب أسمه الجديد : شارع البنات ! لذلك من الصعب جدا العثور على بغدادية لم يسير عمرها في هذا الشارع ، أو بغدادي لم يتغزل فيه حافظا " رد قلبي " أو يتعلم النضال الخاسر مع التمايل.
الخانات
دورة الحياة تعني أيضا ارتباط كل شيء في تطور المدن ، فتحول الشارع الى مركز تجاري ، ومرفأ وموقع لمخازن ضخمة ، يعني كثافة بشرية تتركز فيه ، بالقياس الى أحياء العاصمة الأخرى. وكثرة الناس ، العاملون والزائرون ، البائعون والمشترون ، المارة سهوا ، والمتعمدين حشو أعينهم بالرفاه والنساء ، كل هؤلاء يحتاجون الى أماكن للراحة. ولهذا السبب ظهرت الخانات الأولى في شارع النهر الموازي أصلا لشارع الرشيد ودجلة.
والخان هو فنادق الخمس نجوم في أيامنا ، فهو الفندق والمطعم والمشرب ، يغني فيه أشهر المطربين وتمارس فيه كل الألعاب الشعبية ويعد مركزا ترفيهيا واجتماعيا وحتى سياسيا.
ومن خانات شارع النهر التي يعتبر إحاطتها بالميناء أمرا منطقيا ، خان العادلية وخان الباشا وخان التمر وخان الدفتر دار ، التي أكملت صورة شارع البنات ، بهيجان عيون زائراته السوداء ونظرات الرجال البوهيمية ولامبالاة الأطفال المصحوبين كحجة لخروج المحبوسة بين الجدران الأربعة ، تغيراته الأثيرية ، مده وجزره الذي انساب منه بفضل النهر ونشوء وارتقاء شارع الرشيد.
الأنامل
لم يسألوا سابقا عن جمال المخطوبة ولا عن شهاداتها ، لا عن طولها ولا عرضها ولم يهمهم وزنها ، بل كان أهم سؤال لأم العريس : هل تعرف تخيط وتطرز ؟!
لذلك كانت الأمهات يعلمن بناتهن منذ الصغر الخياطة والتطريز ، لاستكمال المهنة التي تثبت لها حتى في جواز السفر : ربة بيت.
ولا ينتهي الأمر بإجادة العمليتين ، بل باختيار الأدوات والأقمشة والخيوط الملونة والإبرة والمقص و بكرة التطريز والأشرطة والخرز والنمنم وزجاجيات معينة وغيرها من المزركشات ، وهذا الاختيار لا يتم ، إلا بزيارة شارع البنات.
والمحترفون في هذا الشارع قالوا بأن غزو الملابس التركية والسورية والهندية والصينية الجاهزة والمطرزة بالمكائن ، قلل من البنات اللواتي فضلن شراء البضاعة المطرزة أصلا ، فيما كنّ سابقا يطرزن احلامهن على الوسائد والشراشف ، قلوبا وعصافير وأزهار.
ويبدو أن مقبل الشتاء ، ساهم في تحريك الجو في الشارع ، فهذا الفصل يطرح قماشه الذي يساعد على التطريز كالقديفة الذي يمكن تثبيت مختلف أنواع النقوش عليه بمساعدة رسوم جاهزة ، تتوفر أيضا في هذا السوق الناعم.
تبدلت أحوال الدنيا ، وتنشغل الفتيات المغرمات بالتطريز بتثبيت الرسومات والأدعية الدينية على الجبة الإسلامية والحجاب وما يظهر من البلوز ، وتتدهور هذه المهنة مع مرور الزمن ، وتطور الملابس الجاهزة وقلة الموهوبات وحرص ما تبقى منهن على البضاعة الرخيصة وانتصار المكائن على الأنامل.
المتاحف
حافظ شارع النهر على صاغته الصابئة الماهرين ، أولئك الذين حولوا محلاتهم الى متاحف حقيقية ، فعبر زجاجات العرض تجد مختلف الآيات القرآنية التي تفضلها الفتيات الراهنات و أسماء وعبارات حب وإهداءات مختلفة.
لديهم مسدسات وسيوف وخناجر صاغوها بجواهر وأحجار كريمة عمرها يتجاوز قرنين وحلي ينقشون عليها ما يطلب منهم المشتري ، صور أو عبارات أو أسماء ، تواريخ وأمكنة.
ساعات تثبت على غزلان وعصافير فضية ، تحيطها أوراد وردية ، اجراسها ، أغان العرس الحلوة وصبا ليل هادئ.
أسواق
الحركة النشيطة في شارعنا تبدأ مبكرا لتتراجع ظهرا ، بسبب الشمس وقيظها ولأن الزائرات لابد وأن يعدن الى بيوتهن بانتظار عودة الرجال الذين لا يحلو لهم خلو البيت من النساء.
وبسبب الشمس في الصيف والمطر في الشتاء ، فقد قاموا بتسقيف السوق ، لذلك اطلقوا على جزء كبير من هذا الشارع بسوق " المسكف " ، المتخصص ببيع الستائر ذات النقوش الأندلسية والمغربية والعباسية ، بالإضافة الى اشتهاره بتغليف الأثاث المنزلي.
وفي الشارع سوق " المميز " نسبة الى مؤسسته ومالكته الذي تنتشر فيه الملابس النسائية الجاهزة وادوات التجميل والإكسسوارات وفيه ورش الخياطة التي تمول العراق بالألبسة النسائية.
ولا يقتصر شارع البنات على الملابس والتجهيزات النسائية فقط ، ففي احد تفرعاته ثمة سوق " السموأل " المتخصص بخياطة الملابس الرجالية وبيع الجاهزة منها ، ويقال أنه أنشأ خصيصا للراغبات أو المتخصصات بشراء ملابس أزواجهن.
وهناك سوق " الخفافين " الذي فيه مسجد ومقهى ادبي يحمل الأسم نفسه أنشأ من قبل 800 عام ، وتفسير هذا الأسم أنه يهتم ببيع الأشياء الخفيفة ويشتهر بمهنة " الريافة " والعباءات الرجالية والعقال وغيرها من الملابس الشعبية. وبيع فيه سابقا الاحذية والخف الرجالي الجلدي والمغزول بخيوط بيضاء ويمكن اعتبار التسمية مفهومة الآن.
الهرم
شارع النهر هرم بما فيه الكفاية ، فالأماكن تشيخ أيضا ويهجرها الناس كالناس تماما.
ومع ذلك ، فليس الشارع على شاكلة واحدة ، وعلمته الدهور التكيف مع متطلبات العصر والظروف ، فقالوا في هذا الصدد ، أن تركيز الفتيات حاليا على الجبة الإسلامية والحجاب ، مفسرين ، أن الحجاب في الظروف التي تمر بها البلاد ، بمثابة " صمام أمان " للنساء ، ووصل الأمر الى أن مسيحيات وصابئات من فتيات البلاد يقبلن على شراء الحجاب ويرتدين الجبة الإسلامية أيضا ليبعدن عنهن الشرور والأشرار ، باعتقادهن المبني على مسرى الحياة وتقلباتها المضنية.
وشارع البنات أصابته عدوى شارع الرشيد وخموله ، فقد هجرته فتياته ونسائه ليقبلن على أسواق العرصات والمنصور و 14 رمضان وشارع فلسطين ، فالكثيرات يعانين ، من غزو " ملابس الفضائيات " للأسواق ، الأمر الذي جعل التقاط ملابس " مناسبة " من شارع البنات أو غيره ، اختيارا صعبا.
الشامل
كمرآة ينصهر شارع البنات مع شارع الرشيد مثبتا بأعمدته ، متواريا في تفرعاته ، كأنه يعود الى جسده ، لا تبعده عن ضفة دجلة وجسورها ، غير موجة متحدة فريدة ، تباغته برفقة أسلاك أرادوها شائكة ، في زمن يستغرق كثيرا بولادة الزوابع وتلكوء البهجة.
الشارع يستريح في ظله ، إذ ما ابتعدت عنه فتياته يستوي قبرا في مدينة مهجورة ، والشارع يتوارى إن قل العابرين والماشين عليه وفي ندرة الزيارات الوجيزة.
والبنات اللواتي كنّ شموله ونظرته وكبريائه ، تحولن الى " سابلة " أو عابري طريق فحسب .. فكرته الملفوفة بتاريخ بغداد و " الخاتون " التي تهوى التقاط القلوب عند زواياه المغمورة ، راحت قبل نهايته وقبل أن يكمل القمر مداره على تلاشيه.
تركته الفتيات والسنين ، محجوب عن الأبصار وعيون الصباح الممتلئ أغان وصبايا ومرح الخطوات وقصر الكلام واحتشاد الصدى وعمقه الذي كان مدينة بوصاياها وحكاياتها ونزواتها وكامل جبروتها.
انطوى زمان " ممر الكرنفال " الذي كان يسمونه شارع البنات وشاخت شبابيكه وهرمت شرفاته كمن أسرف في عشق الماضي وتأنق أيامه ، فهو الشارع الغريب في استيقاظه والتاريخ الشخصي للرجال والنساء الذين التقوا فيه لأول مرة وفيه عقدوا زواجهم فيه ، فأي سوق أو شارع فيه مساجد وتكايا ، محكمة زواج وقبور ، مقاهي ومعامل ، خانات وملاهي !
ككوكب صغير كفّ عن التظاهر بمعبر الغيوم التي مرت عليه ثمان قرون لم تنتاب جدرانه الوحشة كما الآن ، طاووس ينوم ذكرياته.