الأحد، 9 مارس 2008

أكثر من مليون ونصف المليون عراقي ضحايا التعريب والتهجير




كردستان - موفد القبس د. جمال حسين علي:


ظهرت أول بوادر لسياسة التعريب في كردستان منذ بداية تأسيس الدولة العراقية في العشرينات، إلا أنها أصبحت جلية بعد انقلاب 1963 بتأثير مباشر من ميشيل عفلق الذي رفع عقيدة «عروبة الأكراد» وذلك بعد أسابيع من سيطرة الانقلابيين على الحكم في بغداد، حيث بدأت حملة عسكرية ضخمة ضد الكرد شاركت فيها قوات سورية أطلقوا عليها «الفيلق العربي» (يسميها الكرد تندرا «العفلق العربي») وبمشاركة فصائل مسلحة من قبائل عربية جيء بها من البادية الغربية قرر حكام بغداد أن يتم تسكينهم محل الأكراد كخطوة أولى لتعريب كردستان يتبعها خطوة نقل الأكراد الى جنوب وغرب العراق. إلا أن المقاومة المسلحة الكردية تصدت لهذه المحاولة مما أدى الى فشلها وتكبد النظام خسائر مهدت في سقوطه في أكتوبر. وبعد الاستحواذ على السلطة ثانية عام 1968، باشر النظام بحملات التهجير والتعريب مجددا مستغلا عوامل كثيرة في المنطقة والعلاقات المضطربة مع شاه إيران راميا عشرات الآلاف من العائلات الكردية قرب الحدود الإيرانية عام 1970 بحجة تبعيتها الإيرانية. واستمرت هذه الإجراءات عام 1980 استعدادا لشن الحرب ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وهكذا بلغ عدد المهجرين قسرا من ديارهم لغاية بدء الحرب العراقية - الإيرانية حسب الكثير من المصادر الى 1168416 شخصا. وهذا العدد يشمل الى جانب المهجرين الى إيران، أولئك الذين تم تهجيرهم قسرا من كردستان داخل مناطق العراق المختلفة. يضاف الى هذا الرقم الرهيب رقم غير معروف يخص الرجال البالغة أعمارهم من 18 الى 30 والذين تم نقلهم الى جهات مجهولة واختفت آثارهم حتى يومنا هذا. ويمكن إضافة نحو 200 ألف شخص خطفهم النظام عام 1989 خلال عمليات الأنفال سيئة الصيت وطمست آثارهم منذ ذلك الحين.
ما هو التعريب ؟
مجموعة كاملة وموحدة من برامج التنكيل والاضطهاد والقسر والإغراء والترهيب لصناعة بنية اجتماعية عربية بدلا من البنية المتكونة أصلا من قوميات أخرى. وتركزت هذه السياسة في مناطق خانقين ومندلي وطوزخورماتو ومندلي والتون كوبري وشوان وكفري وبيباز وجمجمال وسنكاو وراوندوز وداقوق وقادر كرم وغيرها الكثير جدا وبالأخص في كركوك نظرا لأهميتها الاستراتيجية، حيث تجلس على أكبر احتياطي نفطي في المنطقة. وتعزو بعض القيادات الكردية بأن سكوت العالم عن سياسة أنظمة بغداد المتعاقبة هذه من قبل المجتمع الدولي يعود الى التخطيط الاقتصادي الدولي المرتبط بالاقتصاد النفطي والذي اعتبر هذه السياسة ملائمة للصورة المستقبلية للتنمية المطروحة في الاوراق المبعثرة على موائد وزارة المستعمرات البريطانية.
عوامل مساعدة
وادت عوامل أخرى الى تفاقم سياسة التعريب والتهجير بالإضافة الى موافقة «الباب الأعلى» مثل إهمال الأكراد لهذه القضية حتى أصبحت بالغة التعقيد وإدخالهم من قبل قوى خارجية في صراعات ميدانية وعشائرية لتحقيق مآربها التوسعية في السيطرة على كركوك بشكل خاص، والتي كانت ظروفها المعقدة وبنيتها الاجتماعية تهيأ لهجوم لم يكن الأكراد ولا التركمان ولا الآشوريون مستعدين له. لأن الشعب في كردستان أعزل ولا يمكن مقارنة ثورة البرزاني مع 600 من البيشمرغة عام 1961 إشارة الى تسلح الشعب عموما. وساعد تقسيم الكرد وتشتيتهم والتطهير العرقي وحذف مناطق وإضافة أخرى في محاولة لتغيير الخارطة الإدارية، وإزالة القرى الكردية من على سطح الأرض وجلب العائلات العربية بالجملة مع منحها الإغراء تلو الآخر الى تعريب المنطقة تقريبا. وحسب مصادر غربية محايدة بلغت نتيجة سياسة التعريب في كركوك وحدها الى مغادرة 800 ألف من الكرد والتركمان والآشوريين والكلدان هذه المنطقة. يقابل ذلك جلب عشرات الآلاف من العائلات العربية الى كركوك مع تقديم امتيازات كثيرة لها مثل قطعة أرض وقرض طويل الأجل من المصرف العراقي ومنح مالية ومواد بناء بأسعار رمزية ووظائف حكومية ووكالات تجارية وصناعية وتفضيلهم في العمل داخل المؤسسات الأمنية والسلطوية المختلفة. في وقت تم حرمان الكرد والتركمان والطوائف المسيحية الأخرى من حقوق التمليك والسكن والتوظيف وغيرها.
توطين عشائر بأكملها
ولم تكتف سياسة النظام العراقي الاستيطانية بزرع عائلات عربية منفردة في المدن والقرى الكردية، بل قامت مؤخرا بإجبار عشيرة عراقية تسكن أواسط البلاد بالانتقال الى مناطق كركوك لغرض إسكانهم في قريتي «تبه سوزه» و«باره باره» والتي كانت القوات العراقية قد دمرتها عام 1988 ضمن المرحلة الثالثة من عمليات الأنفال الوحشية.
هدم المحلات
ولغرض دفعهم على الرحيل هدمت السلطات العراقية مؤخرا كل المحلات التجارية والدكاكين الصغيرة المنتشرة على طريق شركة النفط في كركوك ليبقى أصحابها الأكراد بلا عمل. وبنت طوال الطريق نقاطا للتفتيش ومحلات وهمية لبيع الأدوات الاحتياطية للسيارات كنقاط أمنية للرصد تحسبا من هجمات على آبار النفط في كركوك.
تعهدات عنصرية
وضمن سياسة السلطات العراقية العنصرية وزعت آلاف من قطع الأراضي للضباط العراقيين من العرب فقط في كركوك ومحيطها وربطت المستوطنين العرب القادمين بكفالات رسمية تعهدوا فيها عدم تشغيلهم الفلاحين الأكراد في الأراضي التي تمت مصادرتها لصالحهم من الفلاحين أنفسهم.
تعريب الأئمة أيضا
وبعد طردها واعتقالها وإعدامها أئمة الجوامع من الأكراد والتركمان، قامت السلطات العراقية باستيراد أئمة وخطباء للمساجد من الرمادي وتعيينهم في مساجد كركوك مثل جامع النور ومسجد إجود الغري ومسجد حي الخضراء وجامع «حي البعث». كما استبدلت كل المدرسين في المدارس الإسلامية بعد طردها للأكراد والتركمان بمدرسين عرب.
تصحيح القومية
وهو مصطلح شوفيني ابتكره النظام العراقي لإجبار كل المنتمين للقوميات غير العربية في المناطق المذكورة الخاضعة تحت سيطرة النظام لاستبدال قوميتهم وجعلها عربية وبعكسه يتم طردهم فورا. وأكد لنا كل المهجرين الذين التقينا بهم في مجمعات اللاجئين في كردستان أن رفضهم استبدال قوميتهم بالعربية كان أهم سبب لطردهم من بيوتهم وإلقائهم في الشارع. أو تعرضهم لمضايقات ليلية كاقتحام دورهم وأخذ كل الذكور الموجودين للالتحاق بما يعرف بجيش القدس. ولا تنحصر المسألة في الطرد فقط، بل في إلغاء وجود كل أفراد العائلة الرافضة لـ «تصحيح قوميتها» وعدم تمشية أي معاملة لها وحرمانها من الحصة الغذائية الممنوحة بفضل الأمم المتحدة، وقطع الكهرباء والماء عن ذلك البيت الغضوب عليه واعتقال رب العائلة وغيرها من أساليب الاضطهاد التي يحفظها الناس هناك من الغلاف حتى الغلاف.
خسائر الاستيطان
بعثر النظام العراقي نتيجة لسياسة استيطان واستباحة لأبسط معايير حقوق الإنسان الكثير من الموارد المالية كان بإمكانه صرفها على أهالي هذه المناطق لكسب تأييدهم على الأقل. فما الذي يمكننا رؤيته نتيجة هذه السياسة : خيام على مشارف أربيل والسليمانية وبيوت طين متهالكة أبوابها صفائح من التنك المأخوذ من مخلفات المعلبات الغذائية وسقوف من القش المبعثر وأطفال حفاة وشبه عراة وشيوخ وعجائز يلتحفون بملابسهم التي خرجوا بها من البطش. سيحل الشتاء وبرده ولا يستطيع أحد الإجابة عن مصير عشرات آلاف الذين ألقى بهم النظام في براري كردستان.
150 عائلة شهريا
وحكومة الإقليم ليست بذاك الغنى التي يمكنها إيواء نحو 150 عائلة يتم ترحيلها قسرا شهريا من كركوك وحدها. والعملية مستمرة منذ عشرات السنين دون أن يشار إليها ولو في خبر عابر بالرغم من أنها سياسة رسخها النظام دون الالتفات حتى لقرارات مجلس الأمن المعنية. عندما سألنا المهجرين عن الأعمال التي يمارسونها، لم نتلق أي إجابة واضحة. فلو كان سكان أربيل والسليمانية ودهوك يعانون من البطالة فكيف بمهجر جديد ليست لديه أي معرفة بالمنطقة وبأحوالها. ثمة الأعمال البسيطة أو الطارئة وما توارثته الأيدي من حرف وما تجود به الأنفس الطيبة وما أكثرها في كردستان.
أنا كردية
هكذا كانت تقولها ربة بيت استقبلتنا مع زوجها بفرح أنساها مرور أطفالها من بين أقدامها ومداعبتهم لقطة ربما فرضت عليها إجراءات التعريب أيضا ورحّلت معهم. أنا كردية .. كيف أصبح عربية؟ تتساءل المرأة بفطرة وانسيابية. قلت لها : ولكنه مجرد توقيع تكفون فيه الشر عنكم؟ بلا تردد أجابت : اليوم نوقع وغدا في جيش القدس .. لا .. لا - هل حالكم الآن أفضل؟ - نعم. - كيف وقد تركتم دياركم وبيوتكم؟ - لكننا أحرار .. لقد كسبنا الحرية .. - هل الحرية أغلى من البيت والأرض؟ - أغلى من كل شيء .. لا تتصور كم نحن سعيدون هنا بالحرية ! - أتصور وكذلك أرى. هكذا دار حوار نموذجي مع امرأة على سجيتها حول الحرية والأرض وأثبتت لنا بأنه لا يوجد اثمن من الحرية، بل أنها بلا ثمن.
دعوة للبكاء
أطل علينا عجوزان متهالكان من وراء سياج طري، ابتدع الرجل تحية غير مألوفة بوضع يده على رأسه دون أن تميل نظراته عنا. بعد قليل سمعنا دعوة من كوخ مجاور : تعال وصور أمي. قالتها امرأة وفتحت الباب الصفيحي مدخلا لبدء الضيافة. عندما انحشرت في غرفتهم الوحيدة كان فيها ثمة أطفال نائمون بفعل غزو مقصود من شمس دانية لم استطع عدهم لتلاحم أجسادهم. وقفت العجوز التي كانت ملامح وجهها كافية لإشعال حرب عالمية. كانت تجاعيدها تفسر كل الحزن الذي يمكن أن يراه إنسان من هذا النظام. فتحت عيناها محدقة بالأطفال، أشارت نحوهم، وبكت دون أن تذرف دمعة، لأنها لا تملك حتى هذا الدمع !
تهدم حتى هنا
ينسلخ المهجرون وتنسحل أقل أمانيهم ولكي نثبت ذلك ننسحب خلف الصوت القادم : تعال وصور هنا .. وقع هذا البيت على أهله. وقفت على حافة بيت من طين تتعذر معرفته أو غرفة من كل المواد الطبيعية السائبة التي لا يحتاجها أحد كالبشر هنا. أين هذا البيت .. أضلاعه .. سقفه .. بابه ،، شبابيكه..؟ - ماذا تقول؟ هي غرفة من طين وبلوك واسمنت مخلوط بجص ورمل وقعت البارحة على ثمانية أشخاص دون أن يصاب أحد بأذى. هي المرة الأولى التي تقف فيها هشاشة البيوت لصالح السكان. كان من غير الممكن أن يصاب أحد بسوء لأن الذي انهار عليهم تراب وسعف وخوص ! هذا ما حصل عليه هؤلاء التعساء، أصحاب أغنى أرض في الكوكب : تراب وسعف وخوص ! لكن الحرية تبقى هي الأغلى .. محاولة لابد منها للتماسك.