الأحد، 9 مارس 2008

محطات كردستانية







موفد «القبس» الى كردستان: د. جمال حسين

ثمة محطات تسير معك أينما حللت وأخرى لا تراها وثالثة تفتح بابها لك لتحظى بها عند المثابرة. وهناك محطات مفروضة منذ القدم، محطات واضحة، دوارة ترفرف ما ان تهب العواصف.. كالحياة تنقلك من تراص لارتعاد لتوافق،، شارات كنقاط التقاء أو خصام. محطات براقة أو معتمة، ساخنة أو باردة، وقّادة اذا ما أقبل الظلام أو مسرعة ما أن تستكين الحياة. وهي وان كانت مغرقة بالرموز، عاشقة للاستبدال والتغير.. تبقى في نهاية المطاف: محطات.
الشيراتون المنتظر
عندما هموا ببناء الشيراتون في أربيل، لم ينصبوا كونكريته المسلح لكي يكون مسلحا بالمقاتلين. مرت عليه السنون، منتصبا. فما إن شارفت الأعمال الخارجية على الانتهاء حتى أمطرته خلافات الصحب بكل ما تيسر لها من قنابل وحالوب رصاص. يقول أحد المتشائمين ان وجوده فأل سيئ على أربيل. ويربط ذلك كالتالي: عندما ارتفع بدأ الاقتتال الداخلي وما ان استأنفوا اعادة بنائه حتى بدأت طبول الحرب بالتصاعد. هل ثمة علاقة بين الشيراتون والحرب؟ لا يوجد ضليع في الجيوبوليتكا يمكنه الاجابة بنعم.
سوق العجائز
هكذا توارثوا اسم السوق الممتد في أحد أزقة أربيل. حملنا الاسم معتقدين أن له علاقة إما بالباعة أو بالمشترين. لكن التجوال والتمحيص لم يأذنا لفك لغز العنوان، فلا هؤلاء ولا أولئك بالعجائز. ولكن سرعان ما انجلى الحل: هو سوق الأغراض المنسية التي توصل بتلك الروابط القديمة، الشائخة: موقد الدار وفانوس الباحة، المنخل الذي يزيل أخطاء الطبيعة والمكنسة اليدوية التي ألحقت بمتاحف البلدان السعيدة، الأصواف المدبغة التي تحكي عليها العجائز أساطير وروايات الأولين والعرس الذي لم يرين منه شيئا، أدوات احتياطية لسيارات نقلت الملايين خارج الحدود هربا من الكيميائي ولم تعد، نساها، بل انقرض حتى من صممها، مهاد خشبية تشبه صناديق لحفظ الرضع، عباءات تنشطر داخلها درجة الحرارة لتصل الى الغليان، محفظات خشبية لاخفاء هدايا غائبين، أقماع ومناضد وأباريق وأدوات خشبية لتحضير الكليجة وكعك البيت وتنظيم الفطائر، بطانيات مغزولة من الأوقات البائدة، فرشاة وتعاويذ منحوتة، سلاسل خشبية جهلنا فائدتها... هو سوق لبيع كل الحاجيات التي استبدلها زمن العولمة وألقى بها بعيدا عن حياة الفرد. مسرح قائم على أجفان الأمهات والجدات اللاتي لا يمكن أن تكون لهن حياة أخرى بدون هذه الأدوات، الأساسيات التي فطروا عليها ولم يفطموها ولم يفطنوا بعد ولن يهفوا الاستغراق في البدع المعاصرة التي حتى وان لمسوها ظنوها خدعا سينمائية!
غجر وقرج
حتى لو تشيد للغجري بيتا، فسيبني في مدخله خيمة أو يغطيه بها. لا ذنب لهم في هذا التوارث الظريف. ولعلهم يرتاحون في الخيمة أكثر من القصور. والسبب الأهم والتاريخي هو أن الغجر رحالون ولا يستقرون في مكان أبدا. وهذا أحد أسرار وجودهم في أي بقعة من الأرض. لذلك فان بيوتهم يلتحفونها بأجسادهم التي على الدوام تبقى بلا مأوى ثابت. وكردستان ليست استثناء من هذا السياق. وعلى الرغم من أن أكثر العائلات فقرا تستطيع تشييد بيت لها من الطين أو من أحجار الجبال، الا أن الغجر والقرج هناك يفضلونها خيمة مهما اشتدت قسوة الطبيعة والمناخ والخطوب. ولعلهم الملة الوحيدة في الاقليم التي لم تدس أنفها في السياسة وأغراضها وتبعاتها. فلا حزب لديهم ولا جمعية ولا حتى تاريخ مكتوب في هذا الشأن. اهتماماتهم خاصة ومعروفة وتعيلهم المواشي أكثر من غيرها، وتكاد مهنتهم تتداخل مع الرعي أحيانا والتسول أحيانا أخرى. فهم لا يعملون بالمهن التقليدية والمعروفة، ليس لأنهم لا يجدون عملا، بل فطروا على اللامهنة، حتى وان بدوا معافين وأجسادهم قوية. تنعزل خيامهم قريبة من الجداول ومنابع المياه لهذا يكتفون بافتراش الوديان ولا يحبوا تسلق الجبال فهذا عمل بحد ذاته أيضا.
للدبكة أنواع أيضا
في الأفراح والمسرات، قبل المعارك وبعدها، لا غيرها التي توحد الجمع وتطرب الأجساد: الدبكة. وتبين أن ثمة 350 نوعا وطرازا للدبكة. وتعتمد على الوقت والاتجاهات والمناخ والمناسبة...الخ. فكلما اتجهنا شمالا ازدادت سرعتها ارتباطا بانخفاض درجة الحرارة. ولو كانت الموسيقى المصاحبة لها وطنية أو ثورية أو تحكي مآثر ما فالأجساد تتعامل معها بالمثل. وللقرويين دبكتهم التي تختلف عن الحضر. وثمة أنواع يحمل فيها سلاح مختلف ولكل نوع موسيقاه والأغاني المصاحبة له. فضلنا أمرح الدبكات التي يحبها أهل المدن في المناسبات الوردية. لذلك حضرنا عرسا بلا دعوة بالطبع حيث لا يعرفنا أحد هناك. وافق أهل العروس أو المعرس على التصوير شرط ألا نصور النساء! قلنا لهم: كيف ونحن نريد تصوير الدبكة ؟ كيف أقطعهن عن الصورة وهن في كل حلقة؟ فكر المضيف قليلا ثم أجاب: في الدبكة لا بأس من تصويرهن! التساؤل الأول الذي فكرنا به: هل تصويرهن في الحياة حرام وفي الدبكة حلال؟ لكن ما أقنعنا بعدم وجود مفارقة في السماح هو أنهم ينظرون الى الدبكة كتقليد وطقس اجتماعي متعارف عليه ولا حرج فيه والا لما تفننوا في تغييرها ولما تجاوز عددها أنواع التمور في البلاد.

العين السحرية
تقع في جوف أحد جبال بيخال، يسمونها العين السحرية اختصارا للكثير من الألغاز التي تحملها. فالماء لا يكل من الهطول على حاجبها منذ أزل غير معلوم. ورائحة لا تسمى تعلق بالأنف حال تجاوز رموشها. وتحتاج العين الانسانية الى طاقة برق لغزو ظلام غورها. وأن صدرت لها أي ضوء تعكسه بكامل قدرته عليك. هي ليست بالنفق، بل جوف جبلي مهيمن بالماء والرذاذ ودرجة حرارتها ثابتة على مدار السنة. نقطة انطلاق ونهاية في آن واحد، تربطها شلالات ورواب بالفة جسد واحد. وان ألقيت حجرا في قعرها، تدفقت منها نافورة مياه تزأر وتخور تجعل ثيابك تموج من حولك لتمسدك ريح تمر عليك كجياد جامحة. يداعبها البيشمرغه أحيانا باطلاق زخات رصاص أو القاء قنبلة يدوية في جوفها فتجيبهم بحمحمة غريق أنقذ عند النفس الأخير. هي الصياد والشرك، الدهشة والانبهار، معبئة الهواء وناسجة خيوط العناكب. مرآها يكمل الرسالة المحمولة على زورق ضال، كغموضها الأزلي.
أهلا بالجنود
لا يمكن أن تلمس سماحة في الأرض كما هي في كردستان. هذا الشعب الذي ذاق كل ما هو سيئ وبشع وقاس على أيدي الجيش، لا تشعر عندما يتم الحديث عن الجيش العراقي او العرب بأنهم يحملون أي ضغينة عليه. ليس هذا فحسب، بل يعدون منشورات ويافطات للترحيب بالجيش العراقي في حالة حدوث الضربة الأميركية مثل «أهلا وسهلا بأخوتنا الجنود»، «فلتعش الأخوة العربية - الكردية»...الخ كما أنهم قرروا فتح المدارس والمساجد وحتى البيوت لاستقبال الجيش ووفروا لهم البطانيات والأفرشة الأخرى لكي يدفئوا أولئك الذين هجّروهم ورحّلوهم عن مدنهم وقراهم. وأكدوا لنا أنه حتى أصحاب المطاعم الخاصة سيطعمون الجنود العراقيين مجانا طالما وجدوا على أراضي كردستان. هل توجد سماحة وعطف وشفقة ورحمة أكثر من هذه؟
حسينية الحكيم
مسجد وحسينية الحكيم تقع في الطريق الرئيسي لمركز السليمانية. ولأنها ليست موقعا استراتيجيا حساسا فقد تصورنا أن الوقوف أمامها وتصويرها تحصيل حاصل لتغطيتنا الاعلامية. ولأنها كبيرة وعريضة، فقد فضلنا تصويرها من الجانب المقابل للشارع. ولكن ما ان امتشقنا العدسة للتصوير حتى منعنا أحد المواطنين الواقف في احدى المحطات بانتظار الباص أو يفترض كذلك. استغربنا جدا لتدخل هذا الرجل ولكن الدهشة انتقلت الى الجانب الآخر من الطريق حيث تقع الحسينية بعد أن خرج منها عدد غير محسوب من الذين يلوحون باستياء ويصرخون بالسائق باستئناف السير وعدم التوقف. وعلى الرغم من اتمامنا المهمة، الا أنه لا يمكننا ترك الأمر على ما آلت اليه بدون معرفة السبب في ردة الفعل التي لم نلمسها في أي مكان مشابه. وتبين أن النظام العراقي حاول ثلاث مرات تفجير هذه الحسينية بالذات لدق اسفين وخلق مشاكل بين الاتحاد الوطني الذي يسيطر على المنطقة والمجلس الأعلى الذي تربطه به علاقات وطيدة. لهذا السبب فرضت على الحسينية حراسة ومراقبة استثنائية تحسبا من عمل اجرامي وتخريبي قد يقوم به النظام. المقابر المعلقة حتى الأموات في كردستان يتسلقون الجبال. حركتهم بطيئة بلا أثر، ركب من قبور تمد جذورها الى الأعلى نحو القمم. تتدلى الشواهد حول خضرة الصنوبر واليوكاليبتوس غير آبهة بعسر الارتفاع. آمنة مطمئنة تعلو الجميع مسجلة ريعان الصبا ووحشة السنين. تنمو المقابر باتجاه السماء وترتفع الى أعلى صخرة في الجبل يمكن دقها لشق نفق المتر الأخير. قبور تعلو وتهبط بحشد من موتى كانت خطاهم تسطّر اعتبار الجبل في ولع الرياح.
مضيف الحدود
عند الانتقال من أربيل الى السليمانية وبالعكس تستوقفك الكثير من نقاط التفتيش. وتعرف هويتها من الرايات المثبتة في مكان ما عليها فاذا كانت صفراء فهي تابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني، واذا كانت خضراء فهي للاتحاد الوطني الكردستاني. وسواء كنت داخلا أو خارجا فالاجراءات التي تتعقبك هي نفسها وفي مجملها تنحصر في التثبت من هويتك. كل هذه الاجراءات طبيعية وتعودنا عليها. ولكن في السيطرة الرئيسية التي تفصل الادارتين يكون التمحيص أكثر دقة، لذلك يُهدر وقت ملموس، خاصة أن العاملين في النقطة لا يتركونك بدون مراسيم الضيافة. عليك أن تجلس وتشرب معهم الشاي أو البارد حالما تنتهي معاملتك. ولأن دمنا فائر من كثرة التوقفات في الطريق لأسباب نسياننا هذه الاجراءات لعيشنا في «العالم الحر» وللوقت المحسوب لدينا بالدقيقة لاستكمال خطة العمل، فاننا لم ننتبه بالحقيقة الى مسألة الضيافة حتى لفت نظرنا السائق بأن هؤلاء عشائر ومن العيب أن تمر عليهم ولا تجلس معهم، أو ان ترفض ما يقدمونه لك. وحتى الآن لم أفهم، هل هم سيطرة للتفتيش أم مضيف حدودي؟
سلة الغذاء
يعيش المواطن العراقي وكذلك في كردستان على ما أسمته الأمم المتحدة رسميا «سلة غذاء المواطن». وتحتوي هذه السلة على ما يلي: 9 كلغ من الطحين، 3 كلغ من التمر، 2 كلغ من السكر، 1,5 كلغ من الدهن و150 غم شايا و150 غم ملحا و350 غم مسحوق غسيل وصابونتين، ويمكنك أن تختار واحدة فقط من البقوليات كيلو ونصف الكيلو من العدس أو الفاصوليا أو الحمص. وأحيانا يضعون في السلة بعضا من الحليب. والسلة غير مشمولة بالخضار والفواكه وما ملكت ايمانهم. ولهذه السلة حكايات ومساومات لا تعد ولا تحصى. فمثلا اثر افتتاح الخط السوري - العراقي كثيرا على كردستان لأسباب لا مجال لذكرها هنا. و مثلا العراق يستورد الحنطة من أموال «النفط مقابل الغذاء»، بينما الحنطة متوفرة في كردستان ولا يشتريها منها حتى لا يفيد المزارعين هناك. علاوة على ذلك يرفض استخدام مطاحنه لطحن الحنطة الكردستانية حتى يكلف حكومة الاقليم تبعات العملية المادية. أما حصة كردستان من الحنطة والشعير فيمنحها النظام للجيش (الجيش غير مشمول بالقرار 986) ويعطي كردستان شيئاً يشبه الحنطة لكنه عبارة عن نوى التمر مطحونة.
زارعو الموت
أرض كردستان ملغومة تماما من شمالها حتى جنوبها. ومشكلة الألغام ستبقى لأجيال كثيرة، فهي أكثرها تعقيدا وتأثيرها مأساويا على كل القرى تقريبا وتؤثر على الناس وحياة الرعاة والثروة الحيوانية والزراعة وكل شيء. النظام العراقي يرفض دائما التعاون مع الجهات المختصة في الأمم المتحدة في الكشف عن خرائط الألغام في الاقليم، حيث لا أحد يعرف بالضبط مواقعها وعددها حتى التقريبي. في وقت كانت الطائرات العراقية فيه ترش الألغام في المنطقة بواسطة الطائرات. وعندما هرب الناس في الهجرة المليونية عند الحدود كانوا ينصبون خيمة لهم ليستريحوا فيها بعض الوقت. وما أن يهموا باشعال النار وسطها ليتدفأوا أو يعدوا شيئا يأكلونه حتى تنفجر بهم. فقد كانوا يجلسون في حقل ألغام دون أن يعلموا. زارعو الموت عرضوا بيئة كردستان الى تخريب بيئي جارف لأن مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية أصبحت محظورة لامتلائها بالألغام من السليمانية حتى حدود كردستان مع سوريا وتركيا وايران حيث الملايين من الألغام (الايطالية 75 % والروسية والصينية والأميركية 25 %) غير المسجلة أو المعينة والتي لا ينتهي مفعولها مع الزمن. حسب بعض التقديرات ثمة 95 ألف هكتار مزروعة بالألغام تشمل أربع محافظات ونحو 2300 حقل زراعي ومرعى. وحصدت الألغام أرواح 3800 شخص، ناهيك عن ضحايا انفجار الذخائر الذين وصل عددهم الى 1300 شخص. تعمل منظمات MAG وSPAS (جمعية أنصار السلام السويدية) و«يوتوبس» التابعة للأمم المتحدة في كردستان لمساعدة الحكومة في حل هذه المشكلة. وتعد الأولى الأنشط بينها. أوجز لنا مسؤول منظمة MAG مهمتهم كالتالي: بداية عملهم في الاقليم كانت عام 1992 وانحصرت مهمتهم الرئيسية في ازالة الألغام وتنظيف الحقول منها وازالة المتفجرات التي تركها الجيش العراقي عند انسحابه من كردستان وكذلك القذائف والصواريخ التي استخدمت في الحرب العراقية - الايرانية والحروب الداخلية ولم تنفجر بالاضافة الى ارشاد الناس وتوعيتهم وتحذيرهم من خطر الألغام والمتفجرات. وعن نتائج عملهم قال انهم استطاعوا حتى الآن تنظيف 182 حقلا احتوى كل واحد على 50 - 2000 لغم. وتفجير وازالة 90650 لغما وتثبيت علامات دالة على 1172 حقل ألغام. وتمكنت المنظمة من تحديد 760 قرية ملغومة في كل واحدة منها نحو 15 حقلا للألغام. وهذا العدد الذي يعرفونه فقط. ولديهم معلومات عن 2293 حقل ألغام. وسلمت المنظمة نحو 6 ملايين متر مربع الى السلطات المحلية بعد أن نظفتها من الألغام. وحسب احصائيات الخبير فإن ضحايا الألغام في كردستان بين قتيل وجريح بلغوا نحو 12 ألف شخص. أهم مشاكلهم هي قلة الأجهزة المتطورة التي تكشف الألغام ويستخدمون في الغالب أجهزة تكشف كل المعادن وليس الألغام فحسب. زد على ذلك أن معظم الألغام قديمة وتعود الى الستينات واستقرت براحتها في التربة وملأها الصدأ لذلك يكون كشفها صعبا. كما أنهم يعانون من قلة الكادر ولديهم 15 فرقة (كل واحدة فيها 25 شخصا) تعمل في أربيل والسليمانية. لهذا السبب فهم يركزون عملهم في المناطق القريبة من منابع المياه التي يتردد عليها الناس بكثرة وفي تلك المناطق التي تدعم المشاريع التنموية للاقليم.