السبت، 8 مارس 2008

حكايات السفن الغارقة





في الصواري النائخة والأشرعة الغائبة والعنابر الملوثة



" أيها الموج .. ما أكثر قصصك المفجعة "
- فيكتور هوغو -



البصرة - د.جمال حسين علي



تنهال الضربات وتتوالى المصائب دفعة واحدة وأحشاء التهريب مترابطة ببعض، وما إن تحل لغزا كامنا، حتى يستعلي عليك آخر لتستحيل القضية الى حلزون غير متسق، غزير المتاعب واسع المضاعفات، شديد الخطورة، حاد المخالب.والقضية لا تنحصر في نهب الجيل تلو الآخر ولطم المستقبل بالعاهات وبناء فوارق غير محمودة وتوزيع غير عادل للثروة العامة فحسب، بل في الآلام والأذى والمسببات الناجمة عن دس شيء في حبال الأمعاء لا ترتضيهِ وأيضا في الوهن والعجز عندما يفرضان عليك والقدر الأسود كواقع حتمي لا مفر منه.ولكي يثري البعض، علينا سقي المريء بالشوربة المسمومة وطلي الجلد بالأشعة المفتتة لنضارته وأن نطبخ في قدر نصفه مبيدات ونأكل في الصحن الملوث بالزيت المنهوب.هذا مصير غير عادل للعائلة العراقية والكويتية المضطرة لبلع سموم لا تعرف مصادرها ولا مخاطرها ولا عواهنها ولا تلك المهانة التي توجه لك في عقر حنفيتك ما إن تصب لك ماء لا تستطيع الغوص بمكوناته، وأن تعلق مع البسمة قطرة من خفايا الأشياء وضريبة المستتر ممن لا يعنيهم أمرنا وأعشابنا وأطفالنا وأطيارنا في دورة السقاة الحاجبين الغيوم عن نجومها عند اللحظة التي يهرع فيها البحارة المفزوعون مع جريان النفط المهرب والذخائر المؤدلجة على ضنى مواجعنا وصفاء أنهارنا و كبرياء بحرنا لتندس في مروجه السفن الغرقى، معلنة افتتاح الفصل الخامس للعام القاسي، غائصة في أعماق معداتنا وهنا وضعفا وشحوباوهزالا بفعل أشباح لا يعن لأحد مطاردتها في الابتلاء الكبير ما إن يعلن البحر عن حكاية جديدة.
أن يكون لون النهر بنفسجيا مرة و'ليلكيا' في بقعة أخرى وأخضر مسودا في موجاته الخابيات، وأن يكون أزرق وأحمر، فما حال الوردة والشريان؟! وتغير ألوان النهر، تباشير أولى لما سيحدث ليس بعيدا في البحر من نفوق غريب ورقاد الأحياء البحرية بلا سكون في قعر مستعمر بالحديد الضال والحبال المهترئة وخزانات الوقود الملحومة على عجل التي إن طلاها ملحه ستنزف بغير هدى وبدون توقف وعلى هواها النفط والزيت والبنادق وقطع العتاد والصواريخ وبراميل لا يعلم في شأنها حتى حمالوها، بفعالية الحنق الذي سيسدل الأمواج عن ذاك الصفاء لغواصين كانوا لغاية هذه السنين يسنون المقطع الأخير لأنشودة البحر الذي لا يخاف من أحد.
ليلة غرق زينب
كانت أوقات غرق الناقلة 'زينب' في السواحل الإماراتية متوترة تبعثرت فيها الأنواء في الإقليم لحد لا يمكن لأحد فيه التكهن بما سيحصل غداِ ولعلها فرصة لفتح ملف التهريب منذ تلك الأحايين غير المواتية، لكن غرق 'زينب' لم يحرك الملف ولم ينفض الغبار عن المشكلة ولم يدق جرس الإنذار ، فقد اعتقلت 'زينب' قبل غرقها خمس مرات من السلطات البحرية الإماراتية وأفرج عنها لغاية اليوم الذي أسلمت نفطها لبارئها في قعر المياه الإقليمية الإماراتية. لم يكن مفهوما كيف يتم إلقاء القبض على مخالف، سفينة كانت أم بشرا، ويطلق سراحه ليعيد الكرة والعمل نفسه خمس مرات، دون التفكير بعمل شيء يمنع النهاية المأساوية التي أفضت إليها 'زينب' وما ستسببه من ويلات قد لا تظهر حال غرقها، ومن المرجح، أن الطبيب البحري الذي أعلن وفاتها، لم يهتم بما سيسببه جثمانها من أذى على المدى البعيد، لاسيما أن 'زينب' ناقلة مشهورة ببقائها في البحر ولها سجل ضخم في 'آداب الموانئ' الخليجية، فكيف باللواتي ليس لديهن سوابق ولا سجلات في الآداب؟!
على مدار الموجة
المسؤولون الإماراتيون صرحوا أكثر من مرة بأنهم لا يستطيعون وقف التهريب، وأنهم يصادرون الناقلة المخالفة الواحدة تلو الأخرى وانهم رصدوا نحو 200 ناقلة تعمل على مدار الساعة ما بين شواطئ العراق ومحطات في الهند وباكستان وشمال أفريقيا ومرافئ في الخليج. الطريف أن عملية مصادرة ناقلات التهريب تنتهي بمزاد علني يحضره كل المهربين ليستعيدوا سفنهم بثمن بخس!أما البريطانيون ولاة البصرة، فقالوا انهم وقعوا في 'متاهة كبيرة'، حيث تطارد طائراتهم وزوارقهم سفن المهربين لتتوارى في السواحل الإيرانية وما ان تختفي أو تطاردهم قوات السواحل الإيرانية، حتى تعود الى المياه الدولية، الأمر الذي أدى الى عدد من المصادمات العسكرية المعروفة بين البحريين البريطانيين ودوريات إيرانية سقط فيها العديد من القتلى، ناهيك عن عملية احتجاز البحارة البريطانيين لدى إيران والمعروفة للجميع على أنها حدثت سهوا.
مراكب سكرانة
لا يضحي المهربون بسفن غالية في مثل هذه العمليات، ويعتمدون على سفن بالكاد تمخر، لا يقل عمر سباحتها عن 30 عاما، متهالكة، جسدها مقشر وكلها مفاجآت. وخشية من المصادرة يستعينون بالسفن التي لا يمكن أن يذرفوا عليها الدمع أو يمزقوا بسببها الجيوب. سعرها لا يتعدى نصف مليون دولار (الخشبية 200 ألف دولار والحديدية نصف مليون)، يمكن للمهربين استعادة سعرها بسفرة واحدة، حيث يمكنهم تعبئتها بنحو 2000 الى 3000 طن من النفط تعود لهم في غضون شهر بمئات الملايين من الدولارات (ألف طن من الديزل يعادل 120 ألف دولار وزيت الوقود يصل الألف طن منه الى 100 ألف دولار ويمكن ضربها وتقسيمها ومعرفة الأرباح قياسا بسعر الناقلة علما بان سعر الطن في العراق يبلغ 10 دولارات فقط). ومن هنا تبدأ قضيتنا مع 'السفن الغرقى'.
المراكب الذكية

من خبرتهم يعرف المهربون جيدا المناورة في البحر، ويحفظون الشواطئ الآمنةِيلحمون عنابرهم جيدا ويزيدون من ترقيعها بالحديد، ويضعون أسياخا حديدية في كل جوانب سفنهم لكي تمزق قوارب القوات التي تطاردهمِ والبحارة يتكلمون كل لغات الإقليم: فارسية، هندية، عراقية وحتى أوكرانية وروسيةِ لا يحملون وثائقثبوتية محددة، ولا تعرف لهم جنسية، ويمكنك الاطلاع حتى على جوازات هندوراسية على متن هذه المراكب العجيبة.الغرق الشامللغاية منتصف التسعينات، حين كان الحصار على العراق في أوجه، وقبل إبرام مذكرة التفاهم المعروفة 'النفط مقابل الغذاء' غرقت نحو 50 ناقلة نفط في الخليج بكل ما تحتويه. وآخر تقرير أعده برنامج الأمم المتحدة الإنمائي كشف عن غرق 282 سفينة وناقلة وباخرة مقابل أم قصر وميناء خور عبد الله فقط. أضف الى هذا العدد، ما لم يكتشفه خبراء الأمم المتحدة وظروف تحرياتهم الصعبة وفارق التوقيت والدقة وعسر الأمواج وصبر الأجهزةِ زد عليه ما غرق أو اغرق من المهربين مرة ومن الذين يطاردونهم مرات. واحسب معها أيضا ما غرق في غضون الحروب الماضية ولا تهمل عمليات المافيا الكبيرة التي كانت تبتز دول الخليج، والإمارات تحديدا، حسب اعتراف مسؤول رفيع كان علق على غرق 'زينب' بالقول ان ذلك جزء من 'حملة لتخويف الإمارات'. هذا بدون حساب ما غرق من زوارق و لنجات و' دوب' وصهاريج ومراكب شراعية وما نفق من حمير البحر، فان الناتج الإجمالي لعدد ما غرق في الخليج يصل الى مئات، لا نحن ولا غيرنا يعرف عددها باستثناء الله.
الخطأ القاتل
ويخطئ من يظن بأن مئات السفن (الغامضة) الغارقة في فوهة الخليج، بعيدة ولا تضرِ فهذه السفن غارقة وتؤثر في 'المياه الكويتية' لكون أضرارها تنتقل وتنتشر، لاسيما لمن يحلي ويشرب من البحر! وإذا كانت 'ظاهرة النفوق' الشهيرة قد مرت بدون حسم، فمن يدري على من جاء دور النفوق الآن؟! فأي مختص يمكنه عد المخاطر الفظيعة من تركه مئات السفن الغريبة الحمولات التي تستدرج الحياة اليومنحو الموت البطيء. كما أن أحدا لا يعرف مزايا حطام السفن الغارقة: الحجم، المكان، درجة تأثيرها على الملاحة، قدرتها على تلويث الأحياء البحرية وصحة الناس، وزنها، عددها والكثير جدا من معطيات ينبغي توافرها لدى فريق متخصصمهمته عمل مسح ميداني للذخائر الغارقة والنفط السائح. ومن يدري، ولماذا علينا استبعاد عدم قيام النظام العراقي بإغراق أسلحة الدمار الشامل أو موادها الأولية في واحدة من مئات السفن الغارقة في الخليج، لاسيما أنه قام في العملية نفسها بإغراق مكونات الصواريخ في دجلة وعثر عليها المفتشون فيما بعد؟بمعنى آخر إن عملية الإغراق المتعمد لطمس الآثار حصلت وموجودة في إرث التاريخ الأسود لهذا الإقليم ولا يجوز تحاشي أو طي موجات تسبح في خيلائنا دون معرفة ما تحمل.
حملة إنقاذ
ليس في الخليج دولة فقيرة بما في ذلك العراق، لا تستطيع وضع خطة وبرنامج لحل مشكلة مستمرة كحطام السفن الخطيرة في الخليجِ والعملية تبدأ من مليون دولار وتنتهي بعشرة لكل سفينة، حسب حجم حطامها وظروف يدركها المختصون بانتشال السفن الغرقى. فحسب المعطيات المؤكدة ثمة 40 حطاما كبيرا يعيق الملاحة في الموانئ العراقية، وتضمينا للأنباء التي تتحدث عن بناء الميناء العراقي العظيم في الفاو، فان مشروعا كهذا سيدر على مستثمريه بعدد أمواجه ذهبا لو أزاحوا هذه المخاطر المستمرة بالانتشار عن المنطقة. ولا يكلف ترميم القنوات وإعادة عمقها السابق إليها لتستقبل سفن السحب العميق، أكثر من 35 مليون دولار. هذا المبلغ بإضافة المبالغ التي يمكن أن تصرف على إزالة السفن الغرقى يعد تافها جدا لأي مستثمر جاد، ناهيك عن ميزانيات دول غنية كالعراق والكويت، بالمقارنة مع الفوائد التي لا تقدر بثمن.
تراخ وتآخ
بسقوط مافيا بغداد الكبرى وظهور مافيات على أنقاضها، لا نستطيع الوثوق بأن أحدا في الكويت والعراق يعرف ما الذي كانت تحتويه السفن الغارقة وكم شخصا في العراق والكويت يعرفون أماكن غرقها وعددها بالضبط، ولا يوجد سبب يؤدي الى الاستهانة بمعرفة أسباب غرق هذه السفن قبالة المياه الكويتية طوال 15 عاما، وما القوة والمغزى وراء ذلك، ونعتقد بان الوقت قد حان، لانطلاق مشروع كويتي - عراقي، حتى خارج الصعيد الرسمي، لإزالة حطام السفن الغارقة والاعتذار من الأسماكِ ومن غير الجائز حساب هذه المشكلة وفق ضوابط وقياسات 'المياه الإقليمية'، طالما أن السموم الغارقة لا تعرف القانون الدولي!